Menu

الحلقة 15

المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "قراءة وعرض لوثائق مؤتمراتها حتى المؤتمر السابع"

انطلاقة الجبهة الشعبية غزة المقاومة اكتمال حمد كتائب الشهيد أبو علي مصطفى الانطلاقة أبو علي مصطفى جورج حبش (12).jpg

خاص بوابة الهدف

(في الذكرى الثالثة والخمسين لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ تنشر بوابة الهدف الإخبارية، على حلقات متتابعة: كتاب المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (قراءة وعرض لوثائق مؤتمراتها حتى المؤتمر السابع) الذي أعدته الدائرة الثقافية المركزية للجبهة، وصدر منه طبعتين؛ الأولى في آب/أغسطس 2010، والثانية في يوليو/تموز 2014).

الفصل السادس:

 المحطة السادسة: المؤتمر الوطني السادس – تموز 2000

(ح 15)

وتكمل الوثيقة السياسية، تحت عنوان /سؤال " الوحدة والحوار الوطني شكل أم مضمون؟" تنطلق الوثيقة في هذا الجانب من تحليلها للمرحلة الراهنة باعتبارها " مرحلة تحرر وطني وديمقراطي، وبالتالي فإن التناقض الرئيسي يبقى وباستمرار ضد الاحتلال ومشاريعه وسياساته. ويأخذ النضال الوطني الفلسطيني شكلاً ومضموناً، صورة الصراع الاجتماعي/ السياسي التاريخي كجزء عضوي من صراع عربي - صهيوني – إمبريالي أشمل[1].

في ضوء ما تقدم، فإن كل واقع وأي مشروع سياسي/ اجتماعي، محكوم بديناميات تعكس بصورة مركبة حركة العلاقات ما بين التناقض الرئيسي كناظم، وبين التناقضات الثانوية، ضمن مبدأ التراكم والاستمرارية وتكامل العوامل.

ما يعني –كما تستنتج الوثيقة- أن " النجاح في مواجهة الاحتلال، مشروط بالقدرة على توحيد الطاقات الفلسطينية، واستثمار كل مكونات القوة لدى الشعب الفلسطيني، بأعلى درجة من الفائدة والكثافة. وفي هذا المجال فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل هناك مهمة أخرى لها أولوية تتقدم الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني، في ظل المخاطر التي تتهدد وجوده؟ وهل بالإمكان تحقيق هذا الشرط دون اتضاح رؤية مسنودة بممارسة وأطر ملائمة لتوحيد حركته الوطنية؟"[2].

تبدو الإجابة على المستوى النظري سهلة وبديهية –كما تؤكد الوثيقة-، "لكنها سرعان ما تغدو مشكلة حقيقية، عندما تنتقل إلى الواقع. والمشكلة هنا ليست مفتعلة بتاتاً، في ظل اختلاف المناهج والخيارات السياسية، التي يتقدم بها كل واحد من تيارات الحركة السياسية الفلسطينية، على تعددها ارتباطاً بما تعكسه تلك التيارات وتمثله من أبعاد طبقية وأيديولوجية ومستويات تطورها، إضافة لما تمثله من وزن فعلي في الواقع الفلسطيني"[3].

وفي هذا السياق، تقول الوثيقة "أخذ الميل نحو الوحدة، تجليات وجدانية نفسية اجتماعية سياسية فكرية كثيفة جداً، في محاولة لتعويض اهتزاز الأسس المادية والاجتماعية وقطع السياقات الطبيعية لتطور المجتمع الفلسطيني. أخذ مفهوم الوحدة الوطنية في الممارسة السياسية لفصائل العمل الوطني الفلسطيني، شكل الائتلاف السياسي لتلك الفصائل، على أساس برنامج الإجماع الوطني. في ضوء تقاطع واختلاف التنظيمات الفلسطينية، وثقل كل منها ودوره على صعيد موازين القوى الداخلية والخارجية، وهنا يتمظهر جذر الإشكالية التي تعاني منها مسألة الوحدة الوطنية، أي التشابك بين مفهوم الوحدة الوطنية، كتعبير عن حالة نفسية وجدانية، اجتماعية متجذرة، وبين الوحدة الوطنية باعتبارها شكلاً محدداً لتأطير القوى السياسية، في لحظة سياسية تاريخية محددة، لتحقيق أهداف محددة، أو برنامجاً محدداً، أو لمواجهة خطر أو مشروع يهدد مصالح الشعب الفلسطيني"[4].

إن هذه الإشكالية ، تصبح من وجهة نظر الجبهة الشعبية " أكثر اتساعاً ومثاراً للارتباك في ظل التشابك بين مفهوم الوحدة الوطنية وبين م.ت.ف ، حيث تم التعامل مع المنظمة بمستوى معين، وكأنها الإطار التنظيمي السياسي والترجمة العملية لمفهوم الوحدة الوطنية. بناء عليه، فإن أول مهمة تفرض نفسها هي القيام بعملية فض اشتباك بين هذه المفاهيم والأبعاد والأطر، بحيث يتحدد أولاً مفهوم ودور ومكانة كل من م.ت.ف، الوحدة الوطنية، آخذين بعين الاعتبار أن م.ت.ف بما تمثله من ميثاق وبرنامج وطني تحرري، وبما هي تعبير رمزي ومادي عن الهوية والكيانية الفلسطينية، فإنها تشكل الإطار الوطني المعبر عن وحدة الشعب الفلسطيني. وبهذا المعنى، وبرغم كل ما أصابها، فإنها تبقى إطاراً وتعبيراً عن الأهداف الوطنية العليا، يجد فيها الشعب الفلسطيني وجدانه ومثله العليا وميله الطبيعي للتوحد"[5].

   أما الوحدة الوطنية كمفهوم للقوة، فإنها تجد ترجمتها في إطار سياسي وتنظيمي ثابت نسبياً لتوحيد فعل القوى السياسية الفلسطينية أو أغلبها في كل مرحلة على أساس برنامج مشترك محدد، أو لمواجهة أخطار محددة، وبالتالي فهي إطار متحرك، وهي ملزمة وقائمة بقدر ما تبقى القوى المشاركة فيها ملتزمة بالبرنامج المحدد، وبالتالي " فإن إطار الوحدة الوطنية لا بد وأن يكون، وبحكم منطق الأمور في حالة حركة صعوداً أو هبوطاً. وبما أن الصراع مستمر، والاشتباك مع الاحتلال ومشاريعه وسياساته متواصل، فإن الوحدة الوطنية تصبح في كل مرحلة من مراحل الصراع هدفاً وطنياً مركزياً، لأن الدفاع عن مصالح وحقوق الشعب الفلسطيني عموماً أو أحد تجمعاته، يستدعي منطقياً توحيد كافة القوى على قواسم مشتركة هي برنامج الحد الأدنى المشترك"[6].

   وهنا يتجلى وعي الجبهة الشعبية لمفهوم الوحدة الوطنية كمبدأ، ومن الناحية النظرية، حيث "يرتقي هذا المفهوم إلى مستوى الهدف الوطني، على ذلك، يأخذ مفهوم الوحدة الوطنية أبعاداً نظرية وعملية متشابكة ومتحركة، فهي هدف ووسيلة، سبب ونتيجة في ذات الوقت.

إذ "أن فهم الوحدة الوطنية على أساس هذه الأبعاد، ينقلها من مستوى الفهم التنظيمي أو الفصائلي الضيق إلى مستوى أشمل وأرقى أي باعتبارها ناظماً وطنياً لخوض الصراع"[7].

 بناء عليه، وربطاً به ، فإن المشكلة لا تعود في المشاركة أو المقاطعة، وإنما في فهم الحوار وتحديد ما تريد كل قوة سياسية منه. هكذا يغدو الحوار جزءاً من سياسة عامة تستجيب لمتطلبات العمل الوطني، وبوصفه آلية للوصول إلى قواسم وطنية مشتركة"[8].

وعند هذه النقطة ، تحذر الوثيقة من " أن التعامل مع هذه العملية بخفة، سيؤدي إلى خلل عميق في إدارة التناقضات الداخلية، مع ما يترتب على ذلك من استنزاف وتآكل القوة الداخلية، الأمر الذي يعني موضوعياً تعميق حالة الضعف، وتقديم خدمة مجانية للاحتلال. تأخذ العملية المشار لها مدىً خطراً، في ظل الحالة الراهنة في الواقع الفلسطيني، حيث تتضاعف جهود الاحتلال لمواصلة اختراق الجسم الفلسطيني، وفرض مزيد من التنازلات السياسية عليه"[9].

أما القسم الخامس من الوثيقة ، وهو بعنوان "بصدد مفاوضات ما يسمى بالحل النهائي"،حيث يشير إلى أنه  "بعد مرور عشر سنوات على مؤتمر مدريد، وما ترتب عليه من اتفاقيات وتفاهمات بدءاً من اتفاقات أوسلو مروراً باتفاقيات القاهرة - باريس الاقتصادي - الخليل – شرم الشيخ – واي بلانتيشن – وشرم الشيخ الثانية إضافة لاتفاقية وادي عربة مع الأردن. اتضحت معالم التسوية كما يراها ويريدها الحلف الأمريكي – الإسرائيلي"[10].

 وفي السياق ذاته عمل الحلف المعادي على فك ارتباط القضية الفلسطينية ببعدها العربي. كما استخدم الاحتلال فترة العشر سنوات الماضية لاستنزاف الواقع الفلسطيني ودفعه بصورة متواصلة إلى خط التنازل عن الحقوق الوطنية الفلسطينية وإيصاله إلى لحظة يوافق فيها الفريق الفلسطيني المفاوض على المطالب والشروط الإسرائيلية[11].

وهكذا نستطيع القول أن اتفاقات أوسلو قد استنفذت أهدافها المحددة، ويحاول الآن الكيان الصهيوني وبدعم أمريكي شامل، فرض تسوية نهائية يتم عبرها ضرب ركائز القضية الفلسطينية الأساسية: حق العودة – تقرير المصير – القدس – والدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة. وبهذا المعنى فإن الاحتلال يحاول بكل طاقته توظيف ما راكمه من إنجازات خلال العقود الماضية بهدف ترسيخ الاحتلال ومشاريعه[12].

وبهذا يكون قد قام بتصفية ثوابت القضية الفلسطينية كقضية حقوق تاريخية وكقضية تحرر واستقلال. ومن خلال هذه السياسة وهذه الرؤية يتم تكريس المشروع الصهيوني كمشروع هيمنة وسيطرة في قلب العالم العربي[13].

وفي هذا الإطار كما تضيف الوثيقة " فإننا نرى بأن القضية الفلسطينية قد وصلت - نتيجة لسياسات المهادنة والتنازل – إلى مفترق طرق حاسم، يهدد فعلاً الحقوق الوطنية ويفتح المجال ليحقق المشروع الصهيوني المزيد من الانتصارات والإنجازات على حساب الشعب الفلسطيني ومصالحه القومية والوطنية العليا".[14]

بناءً على ما تقدم فإن الجبهة الشعبية ترى بأن مفاوضات ما يسمى الحل النهائي ما دامت تقوم على قاعدة الربط بين اتفاقيات أوسلو والحل النهائي، وعلى قاعدة إبقاء عملية التفاوض مستمرة على أساس مرجعية التفرد الأمريكي – الإسرائيلي وبعيداً عن مرجعية قرارات الشرعية الدولية، وقرارات المجالس الوطنية وبرنامج الإجماع الوطني فإنها لن تقود لنتائج تفضي إلى نيل حقوقنا الوطنية الثابتة، عدا عما تحمله من أخطار المساومة عليها. وعلى هذا الأساس فإن الجبهة الشعبية تدعو إلى ما يلي[15]:

أولاً : اعتبار اتفاقات أوسلو وما ترتب عليها من ترجمات قد انتهى عمرها الزمني، وبالتالي فليس هناك علاقة بين أوسلو ومفهوم الحل النهائي.

ثانياً : إن مرجعية الحل المرحلي للقضية الفلسطينية يجب أن تقوم على أساس قرارات الشرعية الدولية وتنفيذها بالكامل من قبل الكيان الصهيوني.

ثالثاً : التمسك بالقرار 194 كأساس قانوني لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين.

رابعاً : إن الحل النهائي كما نفهمه يقوم على ضمان حقوق شعبنا الكاملة في العودة والاستقلال والسيادة وبالتالي فإن أي مساس بحق العودة، أو عروبة القدس، أو بقاء المستوطنات، أو منح الاحتلال حرية التحرك واستخدام أراضي الدولة الفلسطينية لأغراض أمنية وعسكرية يمس بمفهوم ومعايير السيادة والتحرر، وبالتالي فإنه حل يستدعي المقاومة والنضال بمختلف الأشكال.

وهذا يطرح على قوى المعارضة بمختلف تياراتها، استحقاقات تحشيد طاقاتها، وتنظيم فعلها، وتأطير أدائها، للدفاع عن الحقوق الوطنية مع تركيز خاص في هذه المرحلة على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وقضية القدس كعناوين مركزية للصراع.

 وفي سبيل ذلك، تؤكد الجبهة -حسب الوثيقة- بوضوح على أن أشكال النضال  "السياسية – الاقتصادية – والعسكرية – والفكرية في ظل معطيات الحالة الفلسطينية مفتوحة على كل الأساليب بدون استثناء، التي تكفل الدفاع عن الحقوق العربية والفلسطينية واستعادتها"[16].

بالاستناد إلى ما تقدم، كما تستطرد الوثيقة "نتخطى الفكر المأزوم أو المهزوم الذي يعتبر أن مرحلة الكفاح المسلح قد انتهت وجرى دفنها، وارتباطاً بذلك انتهاء مرحلة التحرر الوطني، الأمر الذي يعني الانتقال إلى مرحلة جديدة كلياً، هي مرحلة البناء الاجتماعي الديمقراطي، أما ما تبقى من حقوق وطنية فقد تم حصر السعي لتحقيقها ضمن الأطر الدبلوماسية والمفاوضات السلمية والشروط والأطر القانونية التي تمت صياغتها في الاتفاقات التي عقدت حتى الآن، إذ أن هذه السياسة تدلل  من جانب على عدم امتلاك رؤية صحيحة للصراع وذلك ارتباطاً بشروطه وعناصره الموضوعية، ومن جانب آخر، على عدم فهم طبيعة العدو ومشاريعه السياسية على نحو سليم، وهو الأمر الذي قاد إلى وضع حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني الوطنية والقومية تحت سقف الشروط التي صاغها وفرضها الاحتلال"[17].

وخلاصة القول، "إن طبيعة الصراع، تتخطى السياسات القاصرة وما يحكمها من ممارسات سياسية وفكرية باهتة وارتجالية إلى رؤية سياسية شاملة تقرأ لوحة الصراع جيداً وتدير العملية بصورة واعية على أساس مبدأ التركيم والاستمرارية والتكامل وتفعيل كامل الطاقات الكامنة"[18].

إن الأخذ بهذه الرؤية لا يعني الفوضى أو الارتجال بتاتاً، ذلك أن تحديد الأسلوب والشكل الملائم للنضال، يشترط رؤية اللحظة السياسية وما يحيط بها من ظروف، ويحتاج لإدارة سليمة وواعية لما هو متوفر بين يديها من إمكانات.

وهنا تشير الجبهة الشعبية بوضوح إلى "أن ما تقدم يجب أن يفهم انطلاقاً من بديهية أساسية ألا وهي أن قدسية أي شكل من أشكال الكفاح هي بالقدر الذي يخدم فيه المشروع الوطني في المكان المناسب والزمان المناسب. يعني هذا، أن يكون التعامل مع أسلوب الكفاح المسلح في كل مرحلة باعتباره وسيلة في خدمة الرؤية السياسية الشاملة، التي يعود لها أمر تحديد الوظيفة التي يجب أن يؤديها في كل مرحلة من مراحل الصراع، وبما يتلاءم مع كل خصوصية من خصوصيات الشعب الفلسطيني، أي أن وظيفته متحركة باستمرار تبعاً لحركة الصراع[19].

وفي تناولها لمفهوم ومضمون البديل، تطرح الوثيقة السؤال الجوهري التالي : هل نحن في الجبهة أمام مشروع ديمقراطي شامل أم إعلان سياسي للتاريخ؟ تقدم الوثيقة إجابة تحمل في طياتها حسماً سياسياً ومعرفياً عبر العلاقة الجدلية والعضوية بين البعدين الوطني والقومي معاً، وذلك في تأكيدها على " أننا أمام عملية تاريخية هائلة الزخم، وصراع شامل يطال أبعد الزوايا وأدقها. رغم تركز الصراع وكثافته في فلسطين بحكم اختيارها كمنطقة "إنزال" للمشروع الإمبريالي – الصهيوني في قلب العالم العربي، إلا أن أهداف ذلك "الإنزال" الاستعماري التاريخي أبعد وأشمل من ذلك بكثير"[20].

وبهذا المعنى، يغدو الصراع حتى ولو كان عنوانه تحرير فلسطين، صراعاً من أجل تحرير الأمة العربية، وتأمين شروط وعناصر نهوضها المادية والثقافية، وبما أن نتائج الصراع التاريخي تتقرر في ضوء قدرة كل طرف على تركيز وتركيم مكونات القوة الشاملة، لإحداث الإزاحات الملائمة في ميزان القوى، فإنه يغدو بحكم البديهة العلمية اعتبار عامل الحسم في الصراع هو العامل الداخلي، إذ أن هذه العملية التاريخية ببعديها الوطني – التحرري، والاجتماعي – النهضوي، هي عملية واحدة تجري في ذات الوقت، ويستحيل عملياً فصل أحد البعدين عن الآخر"[21].

كما "تستدعي حالة التشابك المشار لها بتجلياتها وتفاعلاتها وحركتها، مستوى راقٍ من الإدارة والأداء والقيادة. وعقلاً قيادياً يملك شروط المعرفة والكفاءة للتعامل مع صيرورات الصراع واستحقاقاته. وفي هذا السياق، يمكن فهم محاولة هذه الوثيقة للارتقاء بالنقاش والفعالية الفكرية إلى مستوى هذه العملية السياسية – الاجتماعية الشاملة، وبالتالي إنضاج رؤية قادرة على قراءة المرحلة بكل أبعادها ارتباطاً بالمصالح الوطنية والقومية العليا"[22]. وكل ذلك مشروط بقدرتنا على تجاوز ومجابهة عوامل وظواهر " تزوير وتجويف الإرادة الشعبية، وتمرير مختلف السياسات العاجزة والقاصرة دائماً باسم شرعيات شعبية، جرى ابتذالها لتصبح شرعية السلطة وأشباه الأنظمة"[23].

   أول هذه الظواهر وأخطرها، غياب أو اغتصاب الديمقراطية الاجتماعية – السياسية، الأمر الذي أدى لكبح تطور المجتمع وتدمير روح المبادرة والإبداع فيه. أما الظاهرة الثانية فهي، فقدان الرؤية السياسية/ الفكرية/ الاجتماعية وتشوشها. الظاهرة الثالثة – حسب الوثيقة- فهي تتعلق بـ" هبوط المعايير والاستخفاف بالعقل، مما قاد إلى حالة من الفوضى الفكرية وفقدان الرؤية. هذا الواقع أدى إلى تفشي الشعبوية والبراغماتية المبتذلة في محاولات لا تتوقف لتبرير سياسات القيادة وإخفاقاتها. عمق من هذا المأزق غياب البيئة والممارسة الديمقراطية، وانتشار الفكر الفئوي على حساب الفكر الوطني، وهبوط معايير النقد العلمي وما يستدعيه من فعالية ونزاهة فكرية وأخلاقية"[24].

   إن جوهر الفكرة التي تسعى الوثيقة الوصول إليها من وراء تعداد الظواهر،" يتمثل في مترتبات الديناميات السلبية التي تولدت عن ممارسة سياسية – اجتماعية قاصرة وانفعالية، أدت إلى استنزاف وتآكل داخلي، وتبديد مذهل مادي ومعنوي، سياسي وفكري، وفي المحصلة، هبوط متواصل في مستوى الأداء السياسي الكفاحي والاجتماعي والفكري، هذا الأمر، عمق الاختلال في موازين القوى بين طرفي الصراع، وهذا بدوره أفسح المجال لقيام الطرف النقيض بتثمير الاختلال على شكل انتصارات سياسية وفكرية وميدانية.

   وقد "تجلى الاختلال التراكمي في موازين القوى، فلسطينياً على شكل أزمة بنيوية شاملة تضرب في كل اتجاه. وهكذا وجدت الحركة الوطنية الفلسطينية بتياراتها المختلفة نفسها، وعلى نحو مفاجئ، وجهاً لوجه أمام أزمة بنيوية طاحنة، رغم وضوح مقدمات الأزمة ومظاهرها الأولية. عبرت الأزمة عن ذاتها عملياً في حقائق أساسية هي[25]:

    1. استسلام القيادة الفلسطينية الرسمية التي ربطت خياراتها السياسية بالمشروع الأمريكي – الإسرائيلي ودخلت المفاوضات السياسية بروح وعقلية الهزيمة.
    2. أزمة قوى المعارضة، التي لم تتمكن من كبح اندفاعه القيادة الفلسطينية الرسمية، كما لم تستطع بناء ذاتها على أساس رؤية جديدة تشمل أدائها الفكري والسياسي والتنظيمي ارتباطاً بتحولات الصراع.

ما تقدم، "يفرض استحقاق البديل الوطني الديمقراطي وشروط قيامه بصورة قسرية. نقول بصورة قسرية، حيث إننا أمام لوحة تحكمها تناقضات الصراع التاريخية والراهنة أو التي لا تزال في رحم المستقبل. لوحة تعبر عن شمولية الصراع وتاريخيته. صراع يديره الطرف الآخر، بكل ما يملك من قوة وبراعة مستفيداً من آخر ما وصلت إليه البشرية من منجزات العلم والتكنولوجيا والإدارة على مختلف المستويات"[26].

غير أن لوحة الصراع تلك بقدر ما تحمل، في هذه المرحلة، من مظاهر التراجع والانكفاء، فإنها تحمل أيضاً مظاهر التأزم والتحفز والمقاومة فلسطينياً وعربياً.

هذا الواقع يعني حكماً أن المجتمع، وفي سياق ديناميات المقاومة، سوف يقوم بخلق أدواته وقواه القادرة على تلبية شروط الصراع الموضوعية والذاتية، وليس الشروط الموهومة أو المتخيلة التي لا تتخطى عادة مقاسات الأفراد أو التنظيمات التي تختزل الشعب في ذاتها، وتختصر الصراع في إسقاطاتها ونظراتها القاصرة.

تضيف الوثيقة أن " طبيعة الصراع الموضوعية، والذي نجد انعكاساً له في استمرار مظاهر الصراع، واحتدام التناقضات مع العدو، تشير على أن الأزمة التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية، هي تعبير عن قصور وعجز العامل الذاتي عن الارتقاء برؤيته وأدائه وممارسته السياسية والفكرية إلى مستوى استحقاقات وشروط الصراع"[27].

"هنا تقع مكانة الحالة الديمقراطية في الساحة الفلسطينية والدور التاريخي الذي ينتظرها في هذه المرحلة الدقيقة حيث سيتقرر غير شأن مصيري ، وتملأ المساحة الفارغة التي ما زالت تنتظر إطارها التاريخي، القادر على تقديم الرؤية وتقدير اللحظة والدور والمكانة ومؤهل ليعبر عنهما:".

في ضوء المعنى الدقيق المشار إليه، "يمكن قراءة التحديات والأسئلة الكبرى التي تواجه البديل الوطني الديمقراطي، واستنتاج أننا أمام عملية عميقة وشاملة تستدعي القطع الجدي مع الفكر السائد، الذي يحصر مفهوم البديل الديمقراطي في وحدة بعض الفصائل الديمقراطية الفلسطينية. تكمن معضلة هذا الفكر في أنه لا يذهب بالمسائل إلى جذورها، بل يعيد إلى إنتاج الأزمة، لأنه يعود إلى نفس الذهنية والمفاهيم السياسية التي قادت إلى الأزمة"[28].

تأسيساً على هذا الفهم، يصبح بالإمكان قراءة تجربة التيار الديمقراطي في الساحة الفلسطينية، وتحديد جذور إخفاقاته وفشله التي تعود في جوهرها إلى تراجعه التراكمي عن تأدية دوره ووظيفته كبديل وطني ديمقراطي بما يمثله من رؤية سياسية واجتماعية وفكرية. إن كلفة إخفاق التيار الديمقراطي في تأدية دوره ووظيفته كبديل وطني ديمقراطي تاريخي لليمين الفلسطيني، تتجاوز حدود هذا التيار، لتصيب في النهاية الشعب الفلسطيني الذي فقد، بسبب إخفاق وعجز التيار الديمقراطي عن تأدية دوره ووظيفته كبديل تاريخي، عنصر التوازن المطلوب في حياته السياسية، تاركاً الفرصة لذهنية التفرد والهيمنة والهبوط في مستوى معايير الأداء ربطاً بغياب الرقيب – المنافس – البديل...الخ[29].

وبالتالي فإن " البديل الوطني مشروعاً تاريخياً للمستقبل، يقوم على وعي ذاته كرؤية وبنى وممارسة شاملة لعموم المستويات، ويتحرك على أساس محددات الصراع الإستراتيجية، وبالاستناد لما تقدم فإن الحديث عن البديل الوطني الديمقراطي يفقد علميته ومنطقه حين يبتذل إلى مستوى النظر لكارثة أوسلو، والتعامل معها وكأنها نتيجة نهائية أو خيار وحيد ممكن لحركة الصراع الفلسطيني – الصهيوني، وبالتالي التأسيس عليها وكأنها منصة الانطلاق لأية مهام قادمة"[30].

إن البديل المطلوب، لا بد وأن يكون من خارج أوسلو، لأن غير ذلك يضع النضال الوطني الفلسطيني ضمن دينامية سياسية اجتماعية في منتهى الخطورة، بحكم القيود والهيمنة التي كرستها إسرائيل في الاتفاقات الموقعة وما تفرضه من وقائع مادية ميدانية، الأمر الذي يتيح لها تكريس مصالحها كإطار مرجعي يمكنها من استخدام عناصر تفوقها لتعزيز إنجازاتها من جانب، وقطع الطريق على محاولات النهوض الوطني الفلسطيني من جانب آخر.

بناء على ما تقدم، "فإن مفهوم البديل الوطني الديمقراطي يعني رؤية الواقع ومستجداته وحركته، لخدمة الرؤية الشاملة للصراع الوطني التحرري والاجتماعي الديمقراطي. بهذا المعنى، تتضح فكرة القطع مع أوسلو كمنهج وخيار التصرف تجاهه كواقع معطى"[31].

هكذا تستقيم المعادلة وتنسجم، حيث يتجسد البديل كعملية سياسية - اجتماعية – اقتصادية – ثقافية – كفاحية نقيضه لكل من المشروع المعادي، والفكر اليومي العاجز لليمين الفلسطيني، هذه العملية مشروطة بتوفير الرؤية المنهجية للصراع القادرة على إيجاد التوازن المطلوب في كل مرحلة، وعند كل مستوى من مستويات الصراع، بحيث تترابط أبعاد وركائز البديل الإستراتيجية والتكتيكية.

حيث "تتيح بلورة البديل الوطني الديمقراطي ضمن هذه النواظم إمكانية التعامل مع الواقع المتحرك، وتضمن استمرار القدرة على تجسير المسافات بين عناصر الصراع ومكوناته المتنوعة المتجاذبة والمتنافرة في آن.

يستدعي هذا الواقع "العمل لتخطي الخلل، الذي حكم ممارسة المعارضة السياسية، إلى دور الرافعة وحامل مشروع "البديل الوطني الديمقراطي". بما هو تعبير عن مشروع وطني تحرري اجتماعي ديمقراطي إيجابي في جوهره ومظهره. هكذا يجري تخطي جدار الأزمة الذي جعل مشروع البديل يتماهى مع فكرة المعارضة ورد الفعل على مبادرات وسياسات الأطراف الأخرى"[32].

إن تخطي الأزمة التي تعاني منها القوى الديمقراطية الفلسطينية، مشروط بقدرتها على إعادة بناء ذاتها، وفق استحقاقات البديل الوطني الديمقراطي، والانتقال بالعملية من المستوى الفصائلي الضيق إلى المستوى الوطني الشامل، ومن المستوى التنظيمي المحدود إلى مستوى فهمها كعملية بنائية ترتقي عبرها القوى الديمقراطية أو التيار الديمقراطي من مستوى الفعل المحدود لبعض القوى السياسية والشخصيات الاجتماعية إلى مستوى الحالة الديمقراطية الشاملة لعموم الشعب الفلسطيني، التي بدونها يستحيل ترجمة مفهوم البديل الوطني الديمقراطي[33].

أما بالنسبة لموقف الجبهة من قوى الإسلام السياسي ، فإن "الوثيقة تؤكد على ما تضمنته وثيقة الكونفرنس الوطني الأول تجاه قوى الإسلام السياسي انطلاقاً من أن تلك الرؤية لا تزال تحتفظ بصحتها، وتضيف الوثيقة "إن قوى الإسلام السياسي هي مكون طبيعي من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية على الرغم من أية خصوصيات تمثلها، وعلى هذا الصعيد يهمنا أن نؤكد بأن الجبهة الشعبية ترى في تلك القوى إحدى دوائر الفعل والتفاعل الوطني، وذلك على قاعدة الوحدة والصراع كقانون يجب أن ينظم العلاقات بين القوى الوطنية في أوساط الشعب الفلسطيني"[34].

   وهنا لا يجوز أن توضع علامة مساواة بين قوى الإسلام السياسي بما هي قوى وأحزاب وتنظيمات لها برامج ومواقف وممارسات محددة، وبين الإسلام كدين وعقيدة وفضاء فكري وحضاري لشعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية.

   حيث أننا بهذا المعنى "فإننا جزء من هذا الفضاء حيث يغدو التراث والحضارة الإسلامية مكوناً عضوياً من مكونات خصوصيتنا الثقافية. أما بالنسبة لعلاقة الجبهة مع قوى الإسلام السياسي فهي "علاقة متحركة وجدلية تبعاً لتناقضات الواقع السياسية والاجتماعية، ومع ذلك فهي تمتاز في هذه المرحلة بتقاطع أعلى على الصعيد السياسي حيث نقف والقوى الإسلامية على أرضية المعارضة والمواجهة لمشاريع التسوية الأمريكية – الإسرائيلية ، بينما على الصعيد الاجتماعي فإن التعارض والتناقض أكثر حضوراً، سواء على صعيد فهم الديمقراطية كقيم وآليات وممارسة لبناء المجتمع ومؤسساته أو تجاه القضايا الاجتماعية الرئيسية حرية المرأة، حرية الاعتقاد وحرية التعبير والاجتهاد وحرية الإبداع الثقافي وقضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية بمختلف تجلياتها"[35].

وفي ضوء ما تقدم فإن العلاقة مع القوى الإسلامية هي علاقة تقوم على الاحترام وتحشيد الطاقات والجهود في مواجهة التناقض الرئيسي مع الاحتلال والشرائح المتحالفة معه من جانب، وعلى الصراع الديمقراطي فيما يتعلق بالتناقضات الاجتماعية والثقافية وما تعكسه من برامج وممارسات وقيم.

إن هذا الفهم وهذه الرؤية لا يتناقضان مع خيار الجبهة لبناء البديل الوطني الديمقراطي، بل أن صياغة العلاقة مع مختلف القوى في الساحة الفلسطينية بما فيها قوى الإسلام السياسي على قاعدة الوضوح هو شرط واستحقاق دائم على القوى الديمقراطية أن تتعامل معه وتستجيب لأسئلته وإشكالاته بصورة خلاقة، وإلا ستفقد السياسة التحالفية عوامل نجاحها وتأثيرها.

 

 

 

 


[1] المصدر السابق – ص71-72.

[2] المصدر السابق – ص72-73

[3] المصدر السابق – ص73

[4] المصدر السابق – ص74

[5] المصدر السابق – ص75-76

[6] المصدر السابق – ص76

[7] المصدر السابق – ص77

[8] المصدر السابق – ص78

[9]  المصدر السابق – ص81

[10]  المصدر السابق – ص83

[11]   المصدر السابق – ص84

[12]  المصدر السابق – ص84

[13]  المصدر السابق – ص85

[14]  المصدر السابق – ص86

[15]  المصدر السابق – ص87

[16]   المصدر السابق – ص90

[17]   المصدر السابق – ص94

[18]   المصدر السابق – ص95

[19]  المصدر السابق – ص96

[20]المصدر السابق – ص96

[21]المصدر السابق – ص97

[22]المصدر السابق – ص98

[23]المصدر السابق – ص98

[24]المصدر السابق – ص100

[25]المصدر السابق – ص101

[26]المصدر السابق – ص103

[27] المصدر السابق – ص104

[28]المصدر السابق – ص105

[29]المصدر السابق – ص106

[30]المصدر السابق – ص108

[31]المصدر السابق – ص109

[32]المصدر السابق – ص110

[33]المصدر السابق – ص110

[34]المصدر السابق – ص112-113

[35]المصدر السابق – ص113