Menu

على أجنحة المخيم: محمد حسين يشعل ذاكرة شعب

أحمد مصطفى جابر

صدرت مؤخرا في دمشق، المجموعة القصصية الأولى للكاتب محمد حسين، بعنوان "أجنحة المخيم"، وهي نوع من السيرة الذاتية لمخيم العائدين للاجئين الفلسطينيين في درعا جنوب سوريا.
عبر 40 لوحة قصصية يستعيد الكاتب نشأة وتطور المخيم، كصورة مصغرة ل فلسطين المنقودة، في سرد يلتزم بالحقائق، ولا يغادرها، وفي ذات الوقت باستخدام لغة وسيطة، تخاطب الناس العاديين، الذين هم في الواقع أبطال هذه القصص، ليحكي الكاتب دقة المكان والإنسان معا، عبر ترابط جدلي بين السياقين، لأن قصة الإنسان في المخيم مرتبطة بالمكان الذي عاش فيه، وكم من الحيوات كان من الممكن أن تتغير أو تتخذ مسارا آخر لو تغير المكان.
يرصد الكاتب مرحلة زمنية طويلة، تبدأ مع نشأة المخيم، وظروف اللجوء الأولى، وبينما شهدنا في السنوات الماضية عددا كبيرا من الكتب التي تعنى بالذاكرة ، ذاكرة اللاجئ عن وطنه الأم، اتخذت شكلا خاصا، محليا أو قبليا، فإن الكاتب هنا يتحدث عن مجتمع فلسطيني مغاير وجديد نشأ بعد النكبة، حيث ذابت الفوارق واختفت، وحيث لم يعد للإنسان قيمة إلا في حدود مجتمعه الجديد وما يمكن أن يكون به، بمعزل عن مخيال الذاكرة الجميل أو البشع على حد سواء.
ويمكن استعارة ما قاله الكاتب الناقد والشاعر حسين هنداوي عن هذه المجموعة في مقدمته التي كتبها لها " كان الكاتب بارعا في استخدام مزيج من اللغة المحكية والفصيحة في نقل معاناة شعبه طيلة ثلاثين عاما، أو أكثر، كما كان مذهلا في رسم تفاصيل المخيم ونسائه وأطفاله بلغة شاعرية ترتقي إلى مصاف الشعر وكأني به كان يترقب الفرصة لرسم صورة الوجع الفلسطيني".
وأود أن أضيف هنا إلى أن الكاتب، كناشط ومشتغل بالعمل السياسي، قد برع في تصوير الانتقالات الهامة والحادة ربما في مجتمع اللاجئين، بدءا من خيمة اللجوء اللعينة كما يصفها الكاتب، انتقالا إلى تبلور مجتمع متكامل لا تغيب عنه الذكرى القديمة لفلسطين المأخوذة بالسيف، ليعلي تاليا من قيمة الانتقال إلى مرحلة الكفاح الوطني وانخراط المخيم فيها بكل طاقته وحماسه وعذابه، كأننا نستعيد هنا ما قاله غسان عن "خيمة عن خيمة تفرق" لنرى المقولة متجسدة في الواقع المعاش.
في لوحته الأولى "الخيمة اللعينة" يجسد الكاتب بلغة وصفية شاعرية مرهفة وحساسة، أيام اللجوء الأول بمعاناتها وألمها، وتعلق اللاجئ بين جنة مفقودة وجحيم تم قذفه إليه عنوة وظلما، لنلامس عبر هذه اللوحة عذابات الأيام الأولى وكأنها تحدث هنا والآن ولا تريد أن تنقضي.
وعبر حوارات حول الواقع والسياسة والأحلام أبطالها أشخاص حقيقيون، يحملنا محمد حسين إلى أجواء تلك الفترة وظروفها، وتأثر الناس بما يحدث حولهم، وصراع الأمل والتشاؤم والانتظار مع ثورة الضباط الأحرار في مصر. وفي ذات الوقت التصدي لمشكلات الواقع الراهن وظرف المخيم المحدود لخلق نوع من الاستقرار وإن كان الأمل كبيرا ألا يطول.
يبرع الكاتب في وصف الحياة اليومية وهمومها، ويبرع أكثر في نقل كفاح النساء والأمهات في المخيم، ودورهن العظيم في استقرار هذا "المجتمع" وإنقاذ قيم العائلة الفلسطينية، وأعرافها، ليسرد لنا حكايات قد تبدو عادية للقارئ العادي ولكنها حكايات بطولة حقيقية خاضتها نساء لا يملكن شيئا إلا إرادة الحياة والعيش الكريم.
في قصص محمد حسين، نساء يصنعن أكياس الورق لتأمين لقمة العيش، معلمات ومهنيات يخضن غمار بناء المجتمع الجديد، ورجال أذابت النكبة الفوارق الطبقية والعائلية بينهم، فلاحون وسائقون ومعلمون ومن مختلف المهن يبنون معا ما سيصبح مخيم العائدين، الناظر للمستقبل بانتظار لحظة الحقيقة.
في حكايات محمد حسين غضب كامن لا يفارقه الأمل، غضب على التشرد والفقر والمعاناة وبطاقة الغوث، التي يأمل الناس أن يعودوا يوما إلى وطنهم ويتخلصوا منها إلى الأبد، تلك البطاقة "البيضاء اللعينة" التي تسقط كصخرة على صدر أيامهم الصعبة، وبينما يتسلمون فتات المساعدات الدولية يدركون حجم خسارتهم، وطن عظيم لا يمكن مقارنته ببعض الحليب والدقيق والمعلبات.
كل هذا يحدث بصبر وألم بانتظار اندلاع الرصاص ومجيء الثورة التي طال انتظارها نجد أبطال حكايات محمد حسين يترصدون المذياع يقفزون فرحا باشتباك أول يخوضه فدائيون خرجوا من رحم المعاناة وهزيمة لجيش الاحتلال الذي لا يقهر في روابي "الكرامة".
ولكن قبلها للأسف يصحو المخيم على خيام جديدة تذكره بمأساته الحاضرة، فها هي النكسة تطأ بأقدامها على أجسادهم الهشة ونازحون جدد من الجولان، وكأن الزمن يكرر نفسه، بانتظار الخلاص.
وهكذا يأتي الفدائيون أخيرا، ويظهر المثال الذي حلم به الناس كأسطورة ساطعا أمامهم من لحم ودم، ويعيدنا محمد حسين إلى تلك البدايات البطولية الحالمة، لقد جاؤوا أخيرا، إذا ربما ينتهي هذا العذاب المتطاول. لينتقل المخيم من مرحلة الانتظار إلى مرحلة الانخراط في الثورة.
في قصص محمد حسين المليئة بالحنين، لايمكن أن يغيب ذلك الغضب الثوري الحالم بالتغيير، لغة جديدة، ونمط جديد من القصص يعتمد على الناس الحقيقيين، وحكاياتهم، تبكي معهم، وتضحك وتلعب وتشاركهم سعيهم اليومي، وانتظارهم وتتقاسم معهم أحلامهم.
قصص يحتاجها المخيم اليوم ويحتاجها الجيل الذي سحقته الميديا والتقدم الحضري ليعلم من أين جاء حقا وكيف وصل إلى هنا. وأظنها أسلوب في الكتابة سيجد مكانه في الأدب الفلسطيني الحديث بجدارة.