Menu

دوائر الاعتراف الصراع من أجل الاعتراف

قلم.jpg

ترجمة: عبد الكريم وشاشا

مجلة العلوم الإنسانية – sciences, revue Magazine humaines

       سواء تعلق الأمر بالتطرق لحالات التمييز أو عدم الاستقرار أو المعاناة في العمل، فمفهوم الاعتراف ينطوي على خصوبة كبيرة بالنسبة للعلوم الإنسانية، والقيمة التي يعطيها كل شخص إلى نفسه تعتمد أساسًا على نظرة الآخرين، لذلك فإن تجربة الظلم الاجتماعي هي دائمًا تجربة الاحتقار (أو عدم الاحترام).  

ومصطلح "الاعتراف" لا ينتمي إلى المعجم السياسي التقليدي ولا إلى المفردات الكلاسيكية للعلوم الإنسانية؛ ومع ذلك فرض نفسه مؤخرًا كموضوع انشغال وهمٍّ جماعي مثلما هو الحال في النظريات الفلسفية والسوسيولوجية والنفس - اجتماعية (psychosociales). وفي مجال العمل والإقصاء على وجه الخصوص، تسمح نظرية الاعتراف بتولي وتحمل مسؤولية المشاكل السياسية والاجتماعية الأساسية.

لنلاحظ منذ البداية، بأن المناظرات السياسية المختلفة اليوم تضع موضوع الاعتراف على المحك: الاعتراف بالإبادات الجماعية والتورط في فترات مظلمة في الاستعباد والاستعمار، ثم تلك القيود على الحريات والحقوق الفردية... بالإضافة إلى ذلك، ظهرت صراعات اجتماعية تطالب بالاعتراف أكثر مما تطالب بالحقوق والزيادة في الأجور.

فقضية "الاحتقار" ومطالب "الاحترام" المرتبطة بالفئات الشعبية ذات الدخل المنخفض من الواضح أنها تندرج في إشكالية الاعتراف.. وأخيرًا النضالات للدفاع أو حماية الهويات الجماعية الثقافية أو اللغوية الإقليمية وللأقليات والحفاظ عليها، يتم تقديمها أحيانًا كصراع من أجل الاعتراف.

من خلال هذه الموضوعات المختلفة ذات الاهتمام الجماعي، من الواضح أن مصطلح الاعتراف لا يتم استعماله دائمًا بنفس المعنى، في بعض الحالات يعني "يعترف" الإقرار بأن شيئًا ما حدث، وفي حالات أخرى يعترف بشرعية المطالب أو بعدم شرعيتها.. وفي حالات أخرى أيضًا يحيل مصطلح الاعتراف إلى الصورة الإيجابية أو السلبية لدا الآخرين... وأخيرًا، يمكن القول، الأمر لا يتعلق فقط بقيمة الكائن أو أفعال الفرد، وإنما  بهذه الكيانات الجماعية التي هي الثقافات واللغات، والأديان، والعادات، وكل الاستخدامات الاجتماعية...الخ.

يستقبل ويحظى مصطلح "الاعتراف" بمعاني مختلفة جدًا، وهذا في حد ذاته، واحد من التفسيرات لقوته، وكونه مفهوم يوحي ويشير إلى أكبر عدد ممكن من المشاكل والقضايا الحارقة، فإن هذا يضفي عليه شرعية مؤثرة في استعماله. إن التداول الاجتماعي للمدلول عبر مختلف المواضيع التي تستأثر بالاهتمامات الجماعية يمكنه أن يساهم في إقناع بأن سؤال الاعتراف يشير إلى مشكلة سياسية تستحق الاهتمام.

دعونا ننتقل الآن إلى العلوم الإنسانية، لطالما كان مفهوم الاعتراف موضوعًا أولويًا للمعاني التي تم ذكرها..  ففي الفلسفة ظل جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770- 1831) مشهورًا على الخصوص بفصل في كتابه الشهير "فينومينولوجيا الروح" (الصادر سنة 1807) متناولًا الصراع الدائر بين شخصين من أجل أن يعترف كل واحد منهما بحرية الآخر، ونحن نعلم بأنهم ينخرطان بهذه الطريقة في صراع مميت يؤدي إلى تأسيس هيمنة السيد على العبد. في هذا السياق تشير مفردة الاعتراف بشكل رئيسي إلى أن معرفتي لقيمتي الخاصة غير مستقلة عن الآخرين. إن هذا الفصل الشهير خضع لتأويلات عديدة، أشهرها تحليل ألكسندر كوجيف (Alexandre Kojève)، فبقدر ما هو مثير للاهتمام بقدر ما هو تحليل تعسفي، معتبرًا أن هذه الجدلية "جدلية السيد والعبد" مفتاح للفلسفة الهيغلية.

  في علم الاجتماع أيضًا، يمكن تعبئة مفهوم الاعتراف كمحرك بطرق مختلفة، مثلما اعتبر بيير بورديو (Pierre Bourdieu) أن الصراع بين المجموعات الاجتماعية هو صراع من أجل الاعتراف وهي مواجهات رمزية تهدف وتسعى إلى فرض رؤيتها للعالم على المجتمع ككل من أجل تحسين مكانتها داخله. ومع ذلك فإن العلوم الإنسانية لم تعطِ لمسألة الاعتراف هذه الأبعاد الواسعة إلا في الآونة الأخيرة، فهي لم تعد تقتصر على المفهوم فقط، بل على بناء نظريات حقيقية للاعتراف. مقاربة من بين المقاربات الحديثة التي تستحق أن تذكر بشكل خاص في هذا الصدد: مقاربة تشارلز مارغريف تيلور- Charles Taylor (فيلسوف كندي) الذي ينخرط في إطار دينامية تفكيرية فلسفية تهم الروابط بين العدالة والهوية، التي تتميز به التجارب السياسية الكندية، وخاصة تلك التي تتعلق بامتدادات مشروع مدرسة فرانكفورت الذي يمثله أكسيل هونيث (Axel Honneth) والذي لا ينفصل فلسفيًا واجتماعيًا عن النظرية النقدية للمجتمع.   
  ثقافات مختلفة وحقوق عالمية

كما يسجل Taylor أن كل الثقافة السياسية الحديثة تدور حول شرط الاعتراف المتبادل، بينما المجتمع الفيودالي يتسم بتراتبية هرمية تمنح للفرد الامتياز حسب ولادته. فالمبادئ الأساسية التي تعود أصولها إلى الثورات الفرنسية والأمريكية تؤكد على الكرامة المتساوية بين الناس، والسؤال كله يدور حول أين توجد هذه الكرامة المتساوية؟ هل يتعلق الأمر فقط، بمجموع الحقوق المتعارف عليها عالميًا المرتبطة بممارسة الحرية الفردية، كما توحي بذلك النصوص الدستورية الفرنسية والانجليزية، ومثل ما يزال يدافع عنها اليوم كل من يندرج في التقاليد الليبرالية السياسية؟ أو هل يجب علينا أن نقبل أيضًا أن للأفراد كامل الحق في الاعتراف بالكرامة ما يجعلهم مختلفين بعضهم عن بعض، نظرًا أن الضمانات القانونية للحريات يمكن لها أن تفقد كل معنى إذا كانت القيم المؤسسة متضمنة في ثقافات ولغات وعادات لا يتم الاعتراف بها؟

وفقًا ل Taylor، ينبغي الاحتفاظ بالخيار الثاني، لأن ازدراء الاختلاف الثقافي ينتج أشكالًا من القمع لا تقل خطورة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. لذلك حسب رأيه يجب قبول شرعية مبدأ الاعتراف بالاختلاف؛ ولكن هذا لا يعني في الواقع، كل اعتراف بالاختلاف هو مشروع، شريطة أن يكون متوافقًا مع مقتضيات واشتراطات الاعتراف الكوني للكرامة.. وبهذا المعنى يمكن ل Taylor أن يكتب أن "سياسات الاختلاف تمتد وتزداد عضويًا انطلاقًا من سياسات الكرامة".....