Menu

قراءة في كتاب "تأملات في الصوفية الجمالية" للكاتب جواد العقاد

ماهر محمود داوود

قبل البدء أود القول بأن الصوفية ليست انفصالاً عن الواقع، بقدر ما هي فهم عميق للذات.

"إن الفكر الصوفي مثل فهمًا جوهريًا للأديان والكون والبشر، ولأنه يدعو إلى التفكير والتفكر؛ اضطهد وهمش وشُوه على مدار التاريخ، فمثل هذا الفكر لا يتماشى مع المصالح السلطوية".

العمل الثقافي ليس عملاً توثيقاً أو تسجيلياً، وإنما يتم اللجوء إلى توظيف التاريخ من عدة منطلقات معاصرة وليس فقط من أجل تقديم معلومات تاريخية، أو تقديم قيمة معرفية عن التاريخ الماضي، فمن خلال المعالجات الفنية نقدم قيمة فنية وجمالية إنسانية تتجاوز خصوصية المكان والزمان، وننطلق من فترة تاريخية معينة لها خصوصية إلى الأفق الإنساني ليخاطب الإنسان في الوقت المعاصر، فالإنسان عندما يكتب، إنما يكتب وفي ذهنه المتلقي الآن إذ يريد توصيل رسالة تتعلق بواقع الإنسان المعاصر دون تعسف، ودون أن يوظف التاريخ بطريقة فجة بمعنى أن يخرج فيها عن سياقه، ويُسقط عليه أفكاره إسقاطاً غير مقنع.

فعندما نقرأ جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، وابن عربي، والحلاج لانقرأ لنعرف كيف كانت حالتهم في زمنهم أو أن نستخدمها وثيقة تاريخية بطريقتها الجافة فقط لتدلنا على عصر من العصور، بالطبع ليس هذا المطلوب، ولكننا ما زلنا نقرأ فيهم معانٍ جديدة تعمل على إيقاظ الوعي بالحاضر، وانعكاس لرؤية واقعية معاصرة، فالزمن الفيزيائي يختلف ولكن الظلم والقهر واحد، فالمتلقي له الحق أن يحكم على أحداث الماضي من منظور نقدي ليسقطه على الحاضر والواقع المُعاش، وكما يقول: المسيري "لا يمكن لأمة أن تفهم حاضرها وتستعد لمستقبلها إن لم تفهم ماضيها بشكل عميق"، وبهذا يمثل الفعل الثقافي أداة مهمة في تشكيل الوعي الثقافي والمعرفي، من خلال دفع الإنسان للاستكشاف والتعجب والتأمل في جميع نواحي حياته، وهذا ما فعله الكاتب جواد العقاد في كتابه.

تظهر حالة الغموض للأمور التي نحياها من خلال استخدام الكاتب اللون الأسود في غلافه، مما ساعده على الوقاية والحماية من الإجهاد العاطفي الذي يتعرض له في واقعه، حيث صنع حاجزاً بينه وبين العالم الخارجي، واستطاع أن يوظف الطابع التأويلي مبدوءًا بعنوانه " تأملات في الصوفية الجمالية" وهو بهذه التسمية يسعى لتبيين محتوى النص وإغراء القارئ لمتابعة المتن ومضامينه، مستخدماً لفظة تأملات المستندة على الصور والبيانات التي يكتنزها الكاتب في ذهنه وبهذا يصنع خط دفاع عن ما طرحه، متوسطاً غلافه بالرقصة الصوفية التي تملأ النفس بالجمال الكوني.

يبدأ الكاتب جواد العقاد كتابه بتوطئة وتمهيد تظهر دوافعه للإجابة عن تساؤلات راودته في مسيرته الشعرية والأدبية أفضت للبحث العميق والكشف عن أهمية النزعة الصوفية وتأثيراتها على الفنون وخصوصاً الأدب، ويقدم وجهاً مغايراً لما هو متداول عن الصوفية بمفهومه السلبي، ليظهر لنا السياقات السياسية والاجتماعية الفاعلة في تقديم رؤية شمولية واعية بالتراث الصوفي.

يقع الكتاب في ثلاثة فصول يقدم الشاعر في مبحثه الأول: المفاهيم الأساسية للصوفية ونشأتها ومضامينها معتمداً على خمس عشرة مصدراً، وفي مبحثه الثاني: يظهر علاقة التصوف بالفنون وتأثيراتها في توظيف الصوفية في فنونهم على محمل جمالي، فهذا العبث الذي نحياه والتخريب المقصود في التركيبات النفسية والذاتية للبشر يجعلنا ننظر باهتمام للحكمة الصوفية المُستخدمة في الفنون، لنشر هوية فردانية تمتاز بفهم ذاتها لتمكنها من ممارسة الرقابة الذاتية على تحليل المعلومات المحيطة بها، ليستطيع من خلال ذلك تجاوز أزماته الوجودية في خدمة الجميع، وعليه نستطيع الوصول لمجتمع يتكون من أفراد تفهم ذواتها بالشكل الذي يؤدي لمجتمع متعايش بشكل إنساني، واتكأ في مبحثه الثاني على الرقص الصوفي والموسيقى والفن التشكيلي، مجانباً المسرح الذي يجمع كل فنون الرقص والشعر والكلام والايقاع والحركة والأزياء المتداخلة تداخلاً متجذراً مع مفاهيم الصوفية، من خلال اتحاد الروح والجسد على الخشبة لتفجر الطاقات الكامنة في الإنسان لإخراجه من متاهات الانسياق وراء الوهم من العالم اللامرئي إلى العالم المرئي المحسوس، وفي مبحثه الثالث: يظهر العلاقة الوثيقة بين التصوف والأدب فهناك ثمة تقارب بين استخدام الصوفية للغة وبين اللغة الشعرية، ويقدم الكاتب في نهاية فصله تأملاته في مسرحية مأساة الحلاج للشاعر المصري صلاح عبد الصبور، والنزعة الصوفية في ديوان " مري كالغريبة للشاعر أنور الخطيب، والأنثى والتصوف في ديوان " في المرآة أشبهني" للشاعر سليمان دغش، وأيضاً المناجاة في نص "عزم" للشاعرة باسمة غنيم، و صراع المثقف والشاعر في نص " وإن اختلفت الأسماء".

العقاد في كتابه المقدم بين أيدينا أراد أن يصف واقعه البائس، وجدلية الصراع ما بين الواقع والمأمول من خلال هدم منظومة الفساد، وتعرية كل من يعتبر نفسه خليفة الله في الأرض، ويحتكره عن دونه، يتضح من خلال المشهد السردي أن الكاتب يخوض صراعاً غير متكافئ القوة حيث تعد ذات الكاتب الحلقة الأصغر في الصراع رغم أنه يتمظهر بالقوة ، في الوقت الذي يعتبر فيه التمظهر بالقوة أعلى درجات هزيمته الذات أمام الآخر.