Menu

«النموذج الإسرائيلي» واللامبالاة العربية

ميشال اده

تمضي إسرائيل، بقيادة نتنياهو، بلا هوادة في الاستيلاء المبرم على المسجد الأقصى بغاية إزالته، وإقامة الهيكل اليهودي المزعوم على أنقاضه. أمّا العرب، بلداناً ودولاً، وأنظمة حاكمة، وجامعة عربية، فمستغرقون في الصمت المطبق. لكأنّهم قد نفضوا أيديهم، حقاً وجهاراً، من ذلك الانتماء القومي ذاته الذي طالما اعتبروا على أساسه - وإنْ حياءً ولفظاً ـ أنّ فلسطين هي قضيتهم المركزية، وأنّها، فلسطين هذه، جوهرة هذا الانتماء ودرّته اليتيمة الشريدة. وهذا كلّه، بعدما كانوا قد حوّلوا هذه القضية الى مجرّد أداة أو ذريعة لإحكام قبضة أنظمتهم الأحادية الاستبدادية على رقاب بلدانهم والعباد.
أمّا عن نتنياهو، فَعَلامَ يستند اليوم، مُسْتَأنفاً سياسة التطرّف الصهيوني الاستراتيجية الثابتة القاضية بتهويد كل القدس ، ومعها كلّ الضفّة الغربية، باعتبارها «أرض إسرائيل»ERETZ ISRAEL، أي «أرض الميعاد» وفق الأطلس الصهيوني، وهي غير أرض الكيان الصهيوني الحالي.
إنّ نتنياهو يستند اليوم، ومن حيث الأساس، الى هذا التردّي المتفاقم المفجع الذي بات السمة الأساس للأوضاع العربية الراهنة. أَلا رحم الله الشاعر محمود درويش الذي انتبه باكراً، ونبّه، الى طابع الفجيعة فلسطينياً بالأخصّ، فكتب قبيل رحيله عن هذه الدنيا في جريدة تصدر في رام الله بعدما فضّل الانتقال إليها على إقاماته العربية، معلّقاً بسخرية بالغة المرارة على الحرب الأهلية الداخلية التي استفحلت بين «فتح» و «حماس» بغزّة: «نحن شعب موهوب جداً. لقد نجحنا بخلق بَلَديْن حتى قبل أن يكون لنا دولة».
الانقسامات والصراعات العربية ـ العربية، الانقسامات والاقتتال المذهبي بين السنّة والشيعة، وبين السنّة والسنّة، الحروب الأهلية المشتعلة بين المسلمين أنفسهم، حروب الإرهاب والفتك والإبادة التي تشنّها قوى وعصابات تكفيرية منظّمة تدّعي الانتماء للإسلام زوراً وبهتاناً على المسيحيين العرب الأصلاء في بلدانهم العربية، لاستئصالهم وتهجير من يتبقّى منهم بدعوى إقامة «الحكم الإسلامي النقي التقيّ» المزعوم، هذه الوقائع العربية القائمة، والمحتدمة المتفاقمة، هي ما يعزّز اندفاعة نتنياهو العنصرية الصهيونية المتشدّدة الى مطالبة عسكره بإطلاق الرصاص الحيّ القتّال على الأطفال والأولاد المحتجين بمجرّد أعمارهم الصغيرة على احتلال المسجد الأقصى وتدنيس حرماته.
هذه الوقائع العربية، وهذه الصراعات والاقتتالات الإقليمية المدمّرة في منطقة الشرق الأوسط بخاصة، هي الصخرة التي إليها يستند نتنياهو في إنجاز «تطهير» القدس والضفة الغربية من فلسطينييها الأصلاء. إنّها الحروب الأهلية وغير الأهلية المتأجّجة في جغرافية العرب والإسلام المشرقي: هكذا، تُـحَيَّدُ إسرئيل بل تُـحْذَف، بقدرة قادر، من قاموس التداول العربي وغير العربي. لَكَأنّها لم تعُد هي العدو، ولا هي المغتصِب، ولا هي أصل البلاء.
أمّا من جهة ملازمة أخرى، فيبدو أنّ نتنياهو مرتاح فعلاً الى نجاح إسرائيل والتطرّف الصهيوني في إقناع الغرب بصوابية الأطروحة الإسرائيلية القائلة منذ 11 أيلول 2001 بأنّه لا وجود البتّة لقضية فلسطينية، ولا لشعب فلسطيني أصلاً. بل كل ما في الأمر هو حرب دفاعية تخوضها إسرائيل ضد متطرّفين وإرهابيين إسلاميين وضد الإسلام ذاته، دفاعاً عن إسرائيل ذاتها وعن المسيحية والمسيحيين قاطبة في أرجاء العالم.
نتنياهو مرتاح فعلاً. والتطرّف الصهيوني كذلك. لقد باتا يحســــبان خطتهما على وشــــك النجاح: الإسلام هو المشكلة، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.
كم يحزّ في نفسي أن أعاين اليوم هذا النكوص العربي الرسمي، بل كلّ هذا التخلّي العربي، المتواطئ علناً بعدما كان سرّاً مع ساسة التطرّف الصهيوني وعتاة قادته الساعين أبداً الى حلّ القضية الفلسطينية من طريق فرض توطين اللاّجئين الفلسطينيين في لبنان تحديداً.
لقد كان توطين اللاّجئين الفلسطينيين، وما يزال، استراتيجية إسرائيلية دائمة. وهذا ليس فقط لأنّه يريح إسرائيل ممّا تعتبره «مصيبتها» التي ينطوي عليها القرار الدولي بحقّ العودة للاّجئين الفلسطينيين الى وطنهم الفلسطيني. بل لأنّه يمكّن إسرائيل، في الوقت ذاته، من تفجير لبنان نهائياً والقضاء عليه. فترتاح بذلك إسرائيل من هذا الوطن المختلف، المعــــترِف بالتنوّع الديني، والذي يشـــكّل، بمجرّد بقائه واستــــمراره، المــــثال النقيض، والبـــــرهان المجتمعي المعاكس لصيــــغة الكيان الإسرائيلي، الأحادي دينياً وعرقياً وعنصرياً.
هذا هو بيت القصيد الذي تسعى إليه إسرائيل: تقديم البرهان للعالم بأجمعه، على استحالة قيام دولة في هذه المنطقة تتميّز بتنوّعها الديني، وذلك كلّه تبريراً لأحادية إسرائيل الدينية العرقية العنصرية.
لماذا أعود اليوم الى تأكيد هذه الحقيقة؟
لأنّنا بدأنا نلمس في المواقف الرسمية المعلنة مؤخّراً من كبار المسؤولين في بعض دول الغرب، في أوروبا على وجه أخصّ، مطالبة لبنان علناً وصراحة، باستيعاب تدفّق اللاّجئين السوريين والإبقاء عليهم في ربوع هذا الوطن الذي تضيق أرضه أصلاً بأبنائه.
أجل! ثمّة رؤساء وحكومات دول في الغرب الأوروبي بخاصة، تتعالى أصواتهم بتحميل لبنان عبء الإبقاء على المليون ومئتي ألف لاجئ سوري حتى الآن، مع تأمين فرص العمل لهم!
وهذا في الوقت الذي يعلنون فيه رفضهم استقبال ما يتجاوز العشرة أو العشرين ألف لاجئ في بلد كلّ منهم.
وهنا لا يسعنا إلاّ أن نبدي أسفنا الشديد لهذه المواقف، لا سيما لناحية صدورها عن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الذي خاطب لبنان بضرورة الإبقاء على المليون ومئتي ألف لاجئ سوري حتى الآن وتأمين فرص العمل لهم!
هل فات هؤلاء حقاً أنّ السبعين ألف لاجئ فلسطيني الذين احتضنهم لبنان العام 1948، على أساس مؤقت، قد أصبحوا اليوم خمسمئة ألف، بما يعنيه ذلك كلّه من أعباء ديموغرافية واقتصادية وتشغيلية على كاهل هذا الوطن الصغير المساحة، القليل الموارد، الموصوف بكونه في الأصل بلد هجرة؟
إذا كانت مواقف أولئك الكبار من المسؤولين الأوروبيين تنبع اليوم من الموجبات الأخلاقية والإنسانية، فلماذا لم تخطر على بال أسلافهم ولا على بالهم هم أنفسهم اليوم، أن يرشقوا، ولو بوردة، دولة إسرائيل لأنّها لم تنفّذ حتى اليوم قرارات حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين التي اتخذتها الأمم المتحدة منذ 1948؟
إنّها فعلاً فضيحة فاقعة فظّة أن يستر مثل هؤلاء المسؤولين تنصّلهم من الواجبات السياسية والاقتصادية والعملانية والأخلاقية والإنسانية التي تلزمهم بها مبادئ وقوانين حقوق الإنسان والشرعية الدولية حيال الفظائع البربرية التي تفتك بأبناء سوريا.
أَفلا يدرك هؤلاء المسؤولون، وأمثالهم، أنهم يحمّلون لبنان أعباءً يستحيل على بلد بحجمه وإمكاناته ومساحته الجغرافية والبشرية الضيّقة أن يتحمّلها، هذا ناهيك عمّا يُفْرَض عليه من اهتزازات وأزمات سياسية واقتصادية ومالية كارثية بل مصيرية الطابع؟ ألا يدركون أنّ مواقفهم وسياساتهم هذه لن تؤدّي إلاّ الى الإجهاز المبرم على لبنان أرضاً وشعباً ودولة ووطناً؟ وأنّها ليست إلاّ تنفيذاً صريحاً كامل الأوصاف لسياسة التطرّف الصهيوني الإسرائيلية، وبالنيابة عن إسرائيل ذاتها؟
أَفلا يجدر بمثل هؤلاء المسؤولين أن ينظروا الى الوقائع اللبنانية من الزاوية الوجودية على الأقلّ، لا سيما إذا كانوا يعتبرون أنفسهم مسؤولين في دول كبرى صديقة للبنان؟ هل هكذا تتجلّى الصداقة مع لبنان؟ هل بمطالبة اللبنانيين، أو من سيتبقّى منهم بالأصح، بأن يستعدّوا ليكونوا قريباً هم اللاّجئين النازحين من لبنان ذاته؟

المصدر: السفير