تعيش الساحة الفلسطينية؛ مخاضًا سياسيًا صعبًا قد يؤدي إلى تغيير واجهة المشهد السياسي الفلسطيني وينذر ببروز تيارات وقيادات جديدة ويذهب بأخرى. تشكل الأزمة التي عاشتها وتعيشها حركة فتح أبرز المعالم في هذا المشهد، حيث أدى الانقسام الداخلي غير المعلن داخل الحركة على أثر الخلاف بين عباس ودحلان وفصل الأخير وتقديمه للمحاكمة ولجوء دحلان إلى أطراف عربية واستقوائه ببعضها للضغط على عباس وفرملة الهجمة التي يتعرض لها وفرض برنامج للمصالحة بين الطرفين؛ أدى إلى حالة من الاصطفاف غير المعلن داخل صفوف الحركة.
إن الأزمة البنيوية التي تعيشها حركة فتح بحكم تكوينها الطبقي؛ كمعبر سياسي عن مصالح وطموحات البرجوازية الوطنية الفلسطينية؛ جعل من برنامجها السياسي فضفاضًا وعامًا ويخضع إلى حالات من المد والجزر حسب قوة وامتداد تيار دون آخر ضمن هذا التحالف الطبقي وفتح المجال أمام تيارات سياسية مختلفة داخل الحركة (تيار أبو عمار/أبو جهاد/أبو إياد/أبو صالح/أبو موسى/قريع/عباس/دحلان)؛ يجمعها مصالح مشتركة، وليس برنامج سياسي موحد، وهذا ما يفسر الولاءات الشخصية لدى مؤيديهم، وليس الولاءات السياسية.
لقد نجح تيار محمود عباس بالسيطرة على حركة فتح وإقصاء تيار ياسر عرفات ، وبدعم (أمريكي/صهيوني/عربي)، واستلم زمام السلطة الفلسطينية بعد التخلص من أبو عمار بطريقة مشبوهة، لا تزال خيوطها غير واضحة المعالم. كما نجح محمود عباس باحتواء الحركة وتركيز القرار السياسي والمالي بيده وإطلاق يد مؤيديه للتلاعب بالمال العام والثراء غير المشروع واستغلال الوظيفة، مما خلق شريحة من الفاسدين؛ تتربع على قيادة السلطة والحركة ولا تسمح بتقليص امتيازاتها، وتدافع عن مصالحها؛ وأولى تلك المصالح استمرار عباس بالسلطة؛ لأن قرار استمرارها بيده. وهذا الواقع الذي تعيشه الحركة ينسحب على السلطة الفلسطينية بقيادة عباس، حيث نجحت أمريكا والعدو الصهيوني؛ بخلق سلطة ريعية وظيفية، تنفذ سياساتها، وتكون طرفًا فلسطينيًا يصادق على كافة مشاريعها ومخططاتها في المنطقة.
لقد عمل عباس والشريحة المتنفذة بالحركة والسلطة الفلسطينية على تقويض مؤسسات العمل الوطني الفلسطيني وأبرزها منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها: المجلس وطني/المجلس مركزي/اللجنة تنفيذية، وكل أطر العمل الوطني، وتحويلها إلى مؤسسات ديكورية، وتحويل الكثير من فصائل العمل الوطني الفلسطيني إلى ديكور ديموقراطي؛ بحكم سلطة المال والمعونات المقدمة لها. كذلك عمل على تقويض المعارضة داخل حركة فتح، وقمع أي تمرد أو عصيان داخلي؛ عبر الفصل وإنهاء الخدمة، كما حصل مع أبو عرب وجهاد طملية عضو المجلس التشريعي والثوري، وأخيرًا ناصر القدوة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وترشيح مجموعة من كوادر الحركة لنفس المصير.
إن هذا الواقع المهين الذي أنتجته سلطة أوسلو ورئيسها (انقسام/فساد/وضع اقتصادي متردي/قتل وقمع وحشي واعتقالات)، وحالة التغول على الثورة الفلسطينية ومؤسساتها وكوادرها، والتنازلات المجانية التي يعطيها عباس للعدو الصهيوني، وسلخ النضال الوطني الفلسطيني عن عمقه العربي، والتطبيع والتفريط المجاني بالحق الفلسطيني؛ كلها تدفع باتجاه بروز تيارات وقيادات فلسطينية تضررت من هذه السياسات، وتؤشر إلى دخول الساحة الفلسطينية؛ حالة مخاض عسير يتحمل عباس وزمرته أسبابه ونتائجه.