Menu

صراع الكاريكاتير بين اشكالية الهوية القومية ومناهضة المحتل الصهيوني

د.عاطف سلامة

عرب الهزيمة

خاص بوابة الهدف

منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي طرحت بعض التيارات الفكرية القومية العربية رؤيتها حول علمنة الحياة الاجتماعية فتعامل مفكروها، ومن بينهم المثقفين والفنانين؛ مع الدين كحالة استنهاض الشعوب، فحدث التمييز النظري بين "دين الرسالة" الذي بات يعكس موقفا جديدا من الحياة وبين "دين المؤسسة" الذي سار وفق أنماط تقليدية لا تملك روحا نهضوية تحمل مضمونا ثوريا.

 

فتنامي نشاط قوى رجعية عربية، اتخذت من الدين وتياراته الإسلاموية السياسية مسارا في نشاطاتها، متجاوزة بشكل مقصود سؤال وجود الأمة العربية، وقد استغلت مثل هذه القوى الرجعية نتائج الهزائم والنكبات العربية المتتالية في فلسطين 1948 والعدوان الثلاثي على مصر 1956 وقضية الانفصال بين سوريا ومصر 1961 وتحويل حرب تحرير الأراضي العربية المحتلة إلى حرب تحريك قادها السادات 1973 واستغلت هذه القضايا لخلق وإشاعة حالة من التشكيك بجدوى الفكر القومي، وتحميل الأنظمة والأحزاب والقوى القومية الحاكمة خلال تلك الفترات المسؤولية في التراجع العربي العام، فطرحت قوى الإسلام السياسي شعارها "الإسلام هو الحل".

 

فتسلطت الأنظمة المستبدة، وتنامي الفكر الرجعي، وسرعان ما تأثر بالعولمة، فشاع الفكر الفوضوي واستخدمت الديمقراطية في تطبيقاتها المشوهة في عديد من البلدان العربية.

وتم استهداف الفكر القومي ومنعه على مراحل من بناء الدولة الوطنية والقومية، والتي انتهت بتكريس حالة متقدمة من المشروع الصهيوني وهو تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم.

 

الحكومات العربية الفاسدة التابعة للغرب وبتأثيرات منه عملت على استبعاد النخب القومية والفنانين ذوي التوجهات الوطنية من الوصول إلى التواجد في النخب السياسية صاحبة القرار في إدارة الحكومات والجامعات والصحافة وقطاع الأعمال وغيرها، مما سبب إرباكا واضحا في التوجهات السياسية والفكرية لهذه النخب ولتلك الدول نفسها، انعكس على قضية غياب الوعي والهوية والتوجه لاحقا في الانغماس في اللهو الفارغ وضياع الانتماء الوطني والقومي، وفقدان التمسك بالهوية، وهو ما أثر على فناني الكاريكاتير الذي بدأ في الصحافة الفلسطينية بالاعتماد على ما يمكن استنباطه من آلية الفعل والتفاعل اليومي في هذه المهنة، حيث لم تكن قد تبلورت المعارف والخبرات على الصعيدين، (الصحافة والكاريكاتير) ما حتم بالضرورة أن ترى الصحافة الفلسطينية (المحلية خاصة) في صحافة البلدان العربية المحيطة، نماذج يصلح تقليدها، كما فرضت ظروف الاحتلال نفسها وضرورة أن تستلهم الصحافة الفلسطينية بعض أساليب وطرائق العمل في صحافة البلدان العربية، خاصة في سورية ولبنان، التي أمكن التعرف إليها أو التقرب منها، مما انعكس على فن الكاريكاتير

ومع تطور الأحداث السياسية والاجتماعية والمتغيرات العاصفة في أرجاء الوطن العربي كافة، ومع نهاية منتصف العقد الخامس من القرن العشرين، وخصوصًا تلك الأحداث المرافقة لنكبة فلسطين وتشريد الشعب العربي الفلسطيني عام 1948واحتدام دورة الصراع  العربي الصهيوني في حروب متعاقبة؛ جعلت كل الأمور الحياتية للشعب العربي مرتهنة ومندمجة في متطلبات الصراع والمواجهة، في كل تفاصيل الحياة اليومية، وعلى كل الجبهات، إلى أن هبت رياح العولمة لتشكل فرصة في إنعاش أحوال العرب؛ إلا أنها (في جوهرها ونتائجها القريبة والبعيدة) عملت على آليات ونظم أخرى، خاصة على استهداف الفكر القومي،  عن طريق محاولاتها دمج المجتمعات العربية في النظام العالمي الجديد بتعويمها على شعارات ليبرالية ظاهرية تدعو لفظيا إلى حقوق الإنسان والديمقراطية وتحرير المرأة وظهور منظمات المجتمع المدني، في حين ركز الإعلام المعولم على استهداف منظم ومقصود للمؤسسات القومية واستهداف الفكر القومي ومنظماته وأحزابه السياسية، ومنع التقارب العربي وتفكيك ما تبقى من حركات كانت مهتمة في النشاط إلى حد ما في حراك حركة التحرر الوطني والقومي العربية التي انبثقت في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها كانت الداعية لاستكمال بناء الدول ال قطر ية العربية ودفعها إلى التكامل والاتحاد ضمن المجموعات أو التكتلات العربية التي انبثقت في مشرق ومغرب الوطن العربي دون ان تصل إلى حالة الوحدة والتكامل الاقتصادي المنشود والمطلوب.

وهكذا إلى أن تم إشغال الوطن العربي دوما بأخطار واستهدافات مرتبطة بسياسات الدول الكبرى والإقليمية وتدخلها في الشأن العربي، أهمها  تدخلات الكيان الصهيوني

 

وقتها برز للفنون التشكيــليــة، وفن الكاريكاتير تحديــــدًا، دورا بارزا، فكانت في مقدمة الأسلحــة الثقافيــة الفاعــلة والمشاركة في هذا الميدان؛ منتقلة من حيز شكلي بصري عبثي، غايته التسلية والإضحاك، إلى اتخاذ موقف جاد هدفه المساهمة في معركة التصدي للمشروع الصهيوني في فلسطين والمنطقة العربية عمومًا؛ محملا برياح التغيير والإيديولوجية والتعبير عن السياسات المرسومة في هذه المطبوعة العربية أو تلك، وقد أمسى مع رياح التغيير وكشف المستور داخل السياسات الدولية وطبيعة الأنظمة العربية العميلة والمُصنعة في أروقة المخابرات الغربية، وغدا دور رسام الكاريكاتير، الأداة البصرية الفاعلة والمعبرة عن تراجيديا المواقف المعاشة والمرافقة لدروب الآلام العربية وشعوبها المظلومة والمكلومة والمهجرة، ولسان حال الموقف اليومي، المعبر عن طبيعة الحكام وعلاقاتهم.

كان فن الكاريكاتير العربي مشحونًا (على الدوام) بدلالات ورموز وخلفيات فكرية متوالدة من قصص الأولين، عبر حكايات ألف ليلة وليلة، وجعبة الجاحظ الثقافية، وخيال الظل، وسهرات الحكواتي؛ معانقًا لإشكاليات الواقع العربي المأزوم والمحكوم بقدر الاستعمار والاستيطان والصهيونية والقهر الطبقي والعولمة والأمركة؛ معتمدًا على قدرة رسامي الكاريكاتير العرب في مواجهة أقدارهم وصراحتهم، التي كلفت بعضهم حياته وحريته

فقد لعب الكاريكاتير دورا هاما في أشكال الصراع المختلفة، خاصة الصراع (الإسرائيلي-العربي) لما له من قدرة على مخاطبة الفئات الاجتماعية على اختلاف مستوياتها الثقافية؛ حتى الأمية منها، وذلك لقدرته على ترجمة أحاسيس ومشاعر هذه الفئات على شكل رسومات مبسطة، رصد من خلالها جرائم الاحتلال الصهيوني تحديدا على مدار العقود الماضية، من حروب وقتل وتشريد وتدمير ..الخ.

 

فصدرت العديد من الصحف بين (1948-1967)، منها (الانتعاش) لمحمد الشريف و(الجهاد المقدسي) لداوود الصايغ و(الوطن العربي) لرشاد الشوا و(اللواء) للدكتور صالح مطر و(الرقيب) لعبد الله العلمي و(الجهاد) لمحمود أبو الزلف وسليم الشريف، و(فلسطين) ل غسان كنفاني وكانت لسان حال القوميين العرب ..وغيرها

أما بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع بقيت الأراضي الفلسطينية المحتلة دون صحف أو مجلات حتى نهاية  1968وهو العام الذي صدرت فيه صحيفة ( القدس ) لمحمود أبو الزلف و(الفجر)1970ليوسف مطري و(الشعب) لمحمود يعيش و(الطليعة) لبشير البرغوتي و(الثبات)  1980لمحمود الخطيب.. وغيرها.

كرست بعض الصحف أهمية خاصة لفن الكاريكاتير، فأفردت كل من (الميثاق، والقدس، والفجر، والشعب، والطليعة) مساحة جيدة للكاريكاتير، وهنا أخص بالذكر (الميثاق) التي كانت تفرد مساحة خاصة لرسم الفنان الفلسطيني الراحل ناجي العلي .

في الوقت نفسه صدرت العديد من الصحف خارج الأرض المحتلة، والتي أفردت مساحة كافية للكاريكاتير بجميع أنواعه، خاصة الكاريكاتير السياسي، فصدرت مجلة (فلسطين الثورة)1971

و(الجماهير)1970و(الهدف)1969و(الشرارة)1969و(الجبهة)1969و(الطلائع)1969و(الثائر العربي)1969و(الحقيقة)1969و(النضال، )1967و(المقاتل الثوري،)1969و(الراية العربية) 1970.. وغيرها.

وهنا أيقنت الصحافة الفلسطينية أهمية الكاريكاتير، وحرصت على إفساح مساحة خاصة بفن الكاريكاتير السياسي، من منطلق أنه أداة أساسية وهامة من جهة، ومن جهة أخرى كونه عنصر ترفيهي، فقد دأب فنانو الكاريكاتير على استحداث رسومهم من الواقع اليومي والمعاناة الدائمة جراء أفعال وجرائم الاحتلال، معبرين عن رأيهم وأفكارهم السياسية والاجتماعية وغيرها.

ومع استمرار الصراع العربي الإسرائيلي، تابع فناني الكاريكاتير الأحداث وتطوراتها لحظة بلحظة، يتحينون الفرص ويقتنصون الممتع منها، يتمحصون وجوه العدو، ويراقبون الحركات الانفعالية، يبحثون عن نقاط ضعف هنا أو هناك ومواقف يعكسونها من خلال لوحاتهم المعبرة والساخرة الناقدة، مع مراعاة المزاج الشعبي دوما، كناجي العلي، وعماد حجاج وبهاء البخاري وجلال الرفاعي وخليل أبو عرفة.. وغيرهم، كانوا دوما يقظين مراقبين دائمين، يتفقدون ويسخرون ويحرضون، فقد عكسوا أفعال وحركات وتصرفات العدو الصهيوني وقرأوا أفكاره، بحيث لم يعطوا فرصة للمماطلة في إبداء الحيرة أو حتى الخوف من هذا العدو المحكوم بمبدأ وهاجس الأمن.

 

ومع ذلك بقي تكريس حالة التخلف والتجزئة هدفا مزدوجا للنظم العربية التقليدية، فعملوا على ابعاد المثقفين وفناني الكاريكاتير عن المشهد، وهو ما ينسجم مع تطلعات نهب النظام الرأسمالي العالمي، فهذه الدول انكفأت إلى الماضي ومنعت التطور الحقيقي لشعوبها؛ رغم أنها تمظهرت بتوريد الحداثة من مبان وأنماط استهلاك متردية ومنفلتة، وإعلام مرتبط بمنظومات العولمة الثقافية، وكذلك النخب السياسية والاجتماعية، القطرية منها أو القومية. فمنعت فناني الكاريكاتير من الظهور، وحجبت وأغلقت صحفا ومجلات واعتقلت مسؤوليها

في ذات الوقت ارتفعت نسب البطالة وازدادت الحاجة إلى العمل، فتم استغلالها وتوظيف الدين ورجالاته وأحزابه ومؤسساته الطفيلية على الهامش الاجتماعي التي تدفع نحو تبني أنماط من النماذج المشوهة، فعززت من انتشار دائرة الاضطراب الاجتماعي والتصادم وحصار الفكر القومي المتنور فساد القلق ليدفع إلى حالة عدم الاستقرار وانتشار الصدامات والاضطراب في بلدان الوطن العربي، ورحيل فناني الكاريكاتير أو العزوف عن الرسم.

فخار يكسر بعضة.jpg