البيرو إحدى الدولِ المهمةِ التي حرّرها سيمون بوليفار في أمريكا اللاتينيةِ من الاستعمارِ الإسباني، وشهدت منذُ بدايةِ القرنِ العشرين إرهاصاتٍ وتململاتٍ للتخلّصِ من حكمِ اليمينِ الرجعيّ والقمعي، الذي رسّخ سلطتَهُ بعد تمكنِهِ من هزيمةِ الثورةِ المسلحة، التي استمرت منذُ نهايةِ عقدِ السبعيناتِ حتى أوائلِ التسعيناتِ من القرنِ الماضي، بقيادةِ الحزبِ الشيوعي البيرواني (ماوي)، ومن أجلِ هزيمةِ الثورةِ التي شملت مساحاتٍ واسعةً من البلادِ تلقّى النظامُ الحاكمُ مساعداتٍ هائلةً من الولاياتِ المتحدةِ والكيانِ الصهيوني في المجالينِ: العسكريّ والأمني.
الرفيق " نييلز " أسيرُ حربٍ سابقًا وأحدُ الناجين من مجزرةِ المعتقلِ الذي كان يقبعُ به، الذي قصفه نظامُ " فيجوموري " الفاشي بالطيران؛ للتخلّصِ من الثوّار، وقد راح ضحيته عشراتٌ من القتلى
في ظلّ التطوراتِ الأخيرة، ونجاحِ تحالفِ القوى اليساريةِ المدعومِ من سكان الريف بشكلٍ أساسي، ولأهميةِ ما جرى في الانتخابات من نجاحِ مرشّحِ اليسارِ الرفيق "كاستيوو"؛ تمكنت مجلة الهدفِ من إجراءِ حوارٍ قيّمٍ مع الرفيق نييلز.
* ما أسبابُ هذا التغيّرِ الذي أدى إلى فوزِ مرشّحِ اليسار، هل يعزى ذلك إلى أسبابٍ اقتصاديةٍ أم أسبابٍ أخرى وضعت البيرو في مركزِ الأحداث؟
البيرو منذ ما قبل الاستعمار، أي قبلَ القرنِ الخامسَ عشرَ، وهو في مركزِ الأحداثِ والمواجهات، لأنّه ذاتُ أهميةٍ تاريخيةٍ، وقد اختتم بوليفار في البيرو آخرَ معاركِ تحريرِ البلدانِ التي استعمرتْها إسبانيا – وتعرف بمعركةِ أياكوشو عامَ ١٨٢٤ – حيث تحقق الاستقلالُ السياسيُّ لهذهِ البلدان وبقيت تابعةً اقتصاديًّا.
أزمةُ البيرو، كما كلّ دول القارة؛ لعدمِ تطورِها وسيطرةِ البرجوازيةِ البيروقراطية عليها؛ ما أدى إلى نضالاتٍ وانتفاضاتٍ شاملةٍ تطوّرت إلى حربٍ شعبيّةٍ وكفاحٍ مسلحٍ – كما حدث في ثمانينياتِ القرنِ الماضي وتسعينياتِه – التي قادها الحزبُ الشيوعيّ في البيرو، وتدخّلت الإمبرياليةُ الأمريكيةُ والصهيونيةُ لجانبِ النظامِ واقترفوا مجازرَ، وقاموا بحربِ إبادةٍ أدّت إلى هزيمةِ الثورة. بعد هذهِ الهزيمةِ تشرذمتِ الحركةُ الثوريةُ، لكنّها لم تتوقّفْ عن النضالِ رغمَ قوانينِ القمعيةِ التي حرّمت التظاهرَ، ورَفْعَ العلَمِ الشيوعي أو صورِ ماركس و لينين والرئيسِ ماو تسي تنغ. وكذلك منعت من رفعِ صورِ رئيسِ الحزبِ "إبيمايل غوزمان" تحت طائلةِ السجنِ مدّةَ ٢٠ عامًا لكلّ من يخالفُ هذهِ الأوامر.
لكنّ الأمورَ لا تسيرُ كما يريدُ النظام، حيث تفاقمت الأزمةُ؛ بسببِ تعمقِ الفسادِ وشموليّتِه، خاصةً في ظلِّ عدوى كورونا. وقد شهدت السنواتُ والأشهرُ السابقتيْنِ الإطاحةَ برؤساء، إذْ طفحَ كيلُ الأزمةِ؛ فخرجت الجماهيرُ للشارع، وانتخبت المدرّسَ "بيذرو كاستيو" رئيسًا رغمَ أنفِ النظام، الأمرُ الذي لم يرقْ للبرجوازيةِ واليمين البيروقراطي البيرواني، التي ما زالت تبحث عن حججٍ وذرائعَ؛ لعدمِ الاعترافِ بفوزِهِ، أي يحاولون التنكّرَ لقوانينهم التي سنّوها هم وساروا عليها سنواتٍ طويلةً! كلّ هذا لا شكّ يضع البيرو في صدارةِ الأحداثِ المحليّةِ والعالمية.
* الرئيسُ المنتخبُ من المفترض أن يشكّلَ حكومةً ائتلافيّةً يسارية، أنتم هل تدعمون حكومةً كهذه؟ وما توجهاتُها السياسيّة والاقتصاديّة؟
بلا شكٍّ، الحكومةُ القائمةُ حاليًّا هي حكومةُ اليمين حتى ٢٨ تموز، حيث في هذا التاريخ يمكن القولُ: إنّ الحكومةَ التي ستتشكل هي من ائتلافِ اليسار، لكن ليس من حركاتٍ أو أحزابٍ يسارية، بل من القواعدِ الشعبيّة التي – مع الوقت – استطاعت بنضالاتِها ومطالبِها أن تبنيَ الحركةَ الجماهيريةَ فقرةً فقرةً وأن تتوصلَ إلى مطلبٍ مشترك، ألا وهو تغييرُ الدستور، هذا المطلبُ تبناه وزرعه الحزبُ الشيوعي منذ البدايةِ في نضالات الحركةِ الجماهيرية، وقد تبنّى الرئيسُ المنتخب، بيذرو كاستيو، هذا المطلب. وعلى هذا الأساس نحن ندعمُهُ ونعدُّه خطوةً إلى الأمام ستساهم في توفير ظروفٍ أفضلَ للاستمرارِ في بناءِ الحركةِ الجماهيرية، وتركيبِ فقرات عمودِها الفقري.
أريد أن أؤكدَ أن ما يحدثُ هو تغييرُ حكومةٍ، سنكون أمامَ حكومةٍ ذاتِ مواقفَ يساريّةٍ، وليس تغييرَ النظام، الأمرُ الذي يتطلّبُ نضالًا دؤوبًا من أجلِ الوصولِ لتغييرِ النظامِ الذي تقومُ عليه الدولة.
* كيف تنظرون إلى بعض الانتصاراتِ التي يحقّقها اليسارُ في بعضِ دولِ أمريكا اللاتينية؟ وما ضمانةُ عدمِ الارتدادِ عنها؟ وهل من سعيٍ لتوحيدِ جهد اليسارِ في القارّةِ وتعظيمِ إنجازاته؟
للشعبِ منطقُهُ ويتمثل في النهوضِ والنضالِ والفشل، بعد الفشلِ ينهض من جديدٍ ويناضلُ واحتمالُ الفشلِ قائم، أي نضال - فشل - نضال حتى تحقيقِ النصر. أيضًا للرجعيةِ والإمبرياليةِ منطقُهما الذي يتمثل في إحداثِ الشغَبِ والفوضى، وعندما يفشلون يُحدثون فوضى وشغبًا من جديدٍ ويفشلون بتَكرارِ هذه العمليةِ حتى يصلوا إلى الإفلاسِ والانكسارِ النهائي. إننا تحدينا ونتحدى ألةَ القمعِ وندفعُ بالنضالاتِ الجماهيريةِ إلى الأمام بكلّ ما يعنيه من تضحياتٍ بالنفس أو الإصابةِ أو الاعتقال، يمكن للحركةِ الجماهيريةِ أن تُهزمَ، لكنها – بلا شكٍّ – تنهض من جديد، كما يحدث في كولومبيا وشيلي والبيرو، المهم في كل هذا، هو الإصرارُ وعدمُ النكوص، حيث تأتي حكوماتٌ يساريةٌ وتبقى في إطارِ المواقف، ولا تغيّر البِنية التي تقوم عليها الدولةُ البرجوازية، ويمكن أن تفشل، وهذا يجب أن لا يجعلَنا نيأس بل الاستمرار حتى تحقيقِ التحولاتِ الجذريةِ العميقة في البِنيةِ الاقتصاديةِ والاجتماعية، وهذا لن يتحققَ إلا إذا وصل حزبُ البروليتاريا إلى قيادة النضالِ واستلامِهِ للسلطة، غير ذلك ستبقى الحكوماتُ اليساريةُ بشكلٍ عام أداةً لتحسينِ شروطِ النضالِ لا أكثر. إن حزبَ البروليتاريا يجب أن يتخذَ من الماركسيةِ موجهًّا ودليلًا، وفي هذه الأيام تبني اللينينيةِ والماويةِ خطوةٌ مطلوبة.
* من المعروف أن مجموعةَ "ليما" هي منظمة الدول الأمريكية في خدمة الإمبريالية، ماذا سيحدث لهذا التجمعِ بعد وصولِ اليسارِ إلى الحكمِ في ليما - بيرو؟
من المعروف أن البيرو هو مركزُ اليمين في القارة، ودائمًا كانوا يحاولون الحفاظَ على هذا الدور. أحدُ الاحتمالات أن يتمَّ حلُّ هذهِ المجموعة، أو خروجُ البيرو منها، ثمّ البحثُ عن مقرٍ آخرَ لها. هذا يبقى في إطارِ الاحتمالات، أي ليس من المؤكّد أن يحدثَ هذا؛ لأنه من المعروف عن الرئيسِ المنتخب أنه براغماتي ولا يريد الصدامَ في المسائلِ الخارجية، ويريد التركيزَ على حلِّ المسائلِ الداخلية، خاصةً الاقتصادية، وأن يتركَ الأمورَ كما هي، أي أن لا يباليَ بالموضوع.
* كما هو معروفٌ القضيةُ الفلسطينيةُ حاضرةٌ ومركزيةٌ في نضالاتِ معظمِ شعوبِ أمريكا اللاتينية، ما موقفُكم من هذه القضيةِ ومن وجود "إسرائيل"؟ وما دورُ الصهيونيةِ في أمريكا اللاتينية؟
موقفُ الحزبِ الشيوعي البيرواني أن "إسرائيل" صنيعةُ الإمبرياليةِ وأوجدوها في هذه المنطقةِ المهمةِ من العالم لِلَجْمِ نضالاتِ شعوبِها، واستعمالِها كقاعدةِ ارتكازٍ لهم؛ لإبقاءِ سيطرتِهم عليها. في أمريكا اللاتينية، الصهيونيةُ بالاشتراكِ مع الإمبريالية، تموّلُ مشاريعَ محددةً وتمول أيضًا المنظماتِ غيرَ الحكوميةِ وغيرِها من المؤسساتِ والمجموعاتِ السياسيّة؛ لتُبقيَ على نفوذِها وسيطرتِها على الأنظمةِ اليمينية في أمريكا اللاتينية. فيما يتعلّقُ بالقضيةِ الفلسطينية، هي غيرُ موجودةٍ في سياساتِ حزبِ "بيرو" حرةً الذي سيكون الحزبَ الحاكم، فقط هنالك إداناتٌ للمجازرِ التي تقترفُها "إسرائيلُ" ضدَّ الفلسطينيين.
قبل أن أُنهي حديثي أُريد أن أُذكّر أننا في الحزب الشيوعي البيرواني وقفنا ضد توقيع اتفاقيات أوسلو من قبل ياسر عرفات ، لأنه بهذا التوقيع يتخلى عن أهداف الحركة الوطنيّة الفلسطينية في تحرير كامل التراب الفلسطيني ويمنح الصهاينة حقوق لا يستحقونها في فلسطين ويعزز ادعائهم وزعمهم بأنهم "أصحاب حق تاريخي ورباني" في فلسطين، وهذا يثقل كاهل عرفات ويحمله مسؤولية تاريخية لما حدث وسيحدث للشعب وحركته الوطنية المناضلة.