كتب غسان كنفاني الروايةَ والقصةَ والبحث، في كلِّ أعمالهِ الأدبية، على اختلافِ أشكالها، فكانت من القطعِ المتوسطة، وهي أكثرُ سهولة في القراءة والتداول، ومع ذلك كانت أكثرَ تكثيفًا وتركيزًا، وفي الغالب كانت مفعمةً بالأفكار والمواقف، لكنها تمحورت حولَ فكرةٍ أساسية من بين مُختلِفِ هذهِ الأفكار، وربما يُلاحظ القارئُ أن كلَّ روايةٍ أو قصةٍ تتمخّض عن مقولاتٍ من بينها مقولةٌ هي التي باتت كأنها شعارُ الروايةِ أو القصة، ويحارُ القارئُ المتابعُ لأعمالِ غسان، في أيِّ الأعمال الأهمُ والأفضلُ، فمن الصعب المفاضلةُ بين تلك الأعمال التي اتسمت بالتركيزِ والتقنيةِ الفنيةِ العاليةِ والرسائلِ الشائكةِ المعقدةِ الملغزة.
في تقديري الشخصي: أرى أن عائد إلى حيفا، أكثرُ رواياتِ غسان التي تُلقي بالقارئِ في بحرٍ من الأسئلةِ الشائكة، حتى الإجاباتُ تتضمن مثلَ هذهِ الأسئلةِ التي تتسم أحيانًا بالحَيْرَةِ حولَ مغزاها ومعناها ودلالتِها. كان المخرجُ المبدعُ قاسم حول، يريد أن يخرجً فيلمًا سينمائيًا عن روايةِ الأعمى والأطرش، لكنّ الجبهةَ الشعبيةَ أقنعته بإخراج فيلمٍ عن رواية "عائد الى حيفا" وفي تقديري أرى: أن قرارَ الجبهةِ الشعبيةِ يعود إلى تركيزِ العنوان، كما المضمونِ على حقِّ العودة.
سياقُ الروايةِ يصل بالقارئِ إلى حقيقةِ أن الابنَ لمن رباه وليس للأم البيولوجية التي ولدته، هذا السياق توقفت عنده العديدُ من القراءات النقدية، إلا أنني أعدُّ أن سياقاتِ الروايةِ تشكل نقدًا لاذعًا للحركةِ الوطنيّة الفلسطينيّة التي فشلت في إنهاء الاحتلال وتحقيقِ حقِّ العودةِ بعد عقدين في ذلك الوقت من اللجوء، عندما كتب غسان الروايةَ عامَ 1968 (عشرون عامًا ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك)، (عاجزون عاجزون) وحتمية الكفاحِ المسلّحِ لضمانِ استعادةِ الأرض والحقوق (لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا) إنّها محاكمةٌ لقيادةِ الحركة الوطنية بعد مرور عامين على انطلاق الثورة الفلسطينيّة بشكلِها الرسمي، وكأنّ غسان بذلك أراد أن يقول: وأخيرًا عرفنا الطريق إلى العودة، من خلال الكفاح المسلّح.
بعد أن وصل سعيدٌ إلى حيفا برفقةِ زوجتِه...ساعاتٌ قليلةٌ ويعود إلى خيمةِ اللجوء. صحيحٌ أنّه عاد، لكنها عودةٌ فرديّةٌ قصيرة، ذاتُ أبعادٍ شخصيّةٍ في الغالب، مع أنّها تطال كلَّ فلسطيني، مع ذلك، فهذهِ العودةُ الفاشلة، لم تكن العودةُ التي أرادها غسان، فالحلُّ ليس فرديًّا ولا شخصيًّا، إنّه حقٌّ طبيعيٌّ لعودةِ الشعبِ الفلسطيني إلى أرضِ أجدادِهِ ووطنِهِ المسلوب.
عائدٌ إلى حيفا، محاكمةٌ وصرخةٌ مبكّرةٌ لا تزال حيّةً وعاليةً حتى اليوم وإلى أن تتحقّقَ عودةُ الشعبِ الفلسطيني إلى وطنِه.. كلّ الوطن السليب.