Menu

شاعر شيوعي على جدار غرفتي

عبد الرزاق دحنون

إيميه سيزير

كانت صورة الشاعر الفرنسي إيمي سيزير ابن المارتينيك معلقة على جدار غرفتي في مدينتي في الشمال الغربي من سورية في أواخر سبعينات القرن العشرين وأنا ما أزال في مرحلة الدراسة الثانوية، ترافق الصورة قصيدة طويلة تشبه المعلقات، يقول في مقطع منها:

(نحن الآن واقفان

 بلدي وأنا

 شعرنا للريح، ويداي الآن في قبضته الضخمة، والقوّة ليست فينا، لكنها فوقنا، في صوت يثقب الليل، والجلسات مثل اختراق دبور مريع، والصوت يقول: إن أوروبا لقّمتنا الأكاذيب على مدى قرون ونفختنا بالأوبئة).

نعم، هي قصيدة جديرة أن تكون معلقة إلى جانب المعلقات، نحن الآن واقفان، بلدي وأنا. يا لها من فكرة، أن يندمج البلد والفرد هذا الاندماج الأسطوري. أنت هنا أمام شخصية شعرية وإنسانية فذة، جراح الناس جراحها، وهموم القوم همومها، وهذا أعلى مراتب الذوبان في الوطنية الحقة: (فمي سيكون فم كل المآسي التي لا فم لها، وصوتي حرية الأصوات التي تختنق في سجن اليأس).     

 كان إيمي سيزير قد كتب هذه القصيدة بعد أن غادر المدرسة العليا في باريس حيث كان يدرس ليعود إلى بلاده. وهي تحكي حكاية الصراع الدائر بين البلدان المستعْمَرَة والبلدان المستعْمِرَة. تُصوّر محنة الشعب الذي يعيش الفقر، والجهل بسبب الهيمنة الاستعمارية، وخلف كل هذا هناك الجرح المفتوح دائماً، جرح الاستعباد الذي أخضعت له الشعوب الأفريقية على مدى قرون مديدة.

 لقد شق الشاعر الفرنسي إيمي سيزير ابن المارتينيك طريقه إلى الشهرة من خلال مجلة "مدارات" في مطلع الأربعينات من القرن العشرين حيث نشر نصَّ قصيدة طويلة اكتشفها رائد السوريالية الأوربية أندريه بروتون وهو في طريقه إلى الولايات المتحدة الأميركية فاراً من نظام فيشي في باريس، بعد أن احتل النازيون بلاده، فتحت باب الشعر على مصراعيه أمام الشاعر الشاب، ليحظى في الحين بتقدير العديد من كبار الشعراء لا في فرنسا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم.

يقول أندريه بروتون في المقدمة المهمة التي كتبها في نيويورك عام 1943 لديوان إيمي سيزير الأول (كراس العودة إلى أرض الوطن):

(هي مصادفة سعيدة، حيث كنتُ في دكان لشراء حبسة شعر ملونة لابنتي، فتصفّحت منشورًا معروضًا في الدكّان حيث اشتريت حبسة الشعر، فكان العدد الأوّل الذي صدر في عاصمة المارتينيك "فور دي فرانس" لمجلّة "مدارات" بدأتُ قراءة المجلّة بحذر شديد لم أصدق عينيّ، فما يُقال هنا هو ما يجب أن يُقال، تمزقت كل تلك الحُجب البغيضة التي تحجب الحقيقة، تشتَّت كلّ ذلك الكذب، كل ذلك الاحتقار سقط مزقاً. اسم من كان يتكلّم: إيمي سيزير)

الدهشة التي اعترت رائد السوريالية الأوربية الفرنسي أندريه بروتون من قراءة كلمات إيمي سيزير أول مرة في مجلّة (مدارات) لها ما يبررها، فأنت أمام كلمات تهزُّ الوجدان هزَّاً عنيفاً، وتترك هذا الوجدان في بوتقة رهيبة من الخجل الإنساني الذي يدفع نحو تساؤل مقلق وعميق: ماذا فعلنا بهؤلاء البشر، وهل ما فعلناه بهم له ما يبرره، يا الله كم ظلمناهم، ها هم أمامنا بشراً سوياً، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.  

يقول أندري بروتون:

 (يبدو كراس العودة إلى الوطن وثيقة متفردة غير قابلة للاستبدال. العنوان بمفرده -وإن محونا القصيدة- يهدف إلى وضعنا في قلب الصراع الأكثر حساسية بالنسبة إلى الكاتب، الصراع الذي يُعد تجاوزه حياتيًّا بالنسبة إليه. فواقعيَّاً، كُتبت القصيدة في باريس بعد أن غادر المدرسة العليا وهو يستعد للعودة إلى المارتينيك. الوطن الأم، نعم، كيف يمكن مقاومة نداء هذه الجزيرة، كيف لا نستسلم لإغراء سماها، لتموجات حورياتها، لكلماتها التي تفيض دلالاً. لكن، فجأة ينتصر الظل: يجب أن نكون مكان إيمي سيزار لندرك إلى أي مدى كانت هذه القفزة وعرة. خلف هذه المجزرة يوجد بؤس الشعب الاستعماري، واستغلاله الوقح بواسطة حفنة من الطفيليين الذين يتحدون حتى قوانين البلاد التي ينتسبون إليها ولا يحسون بأي حرج من أن يكونوا عارًا عليها، يوجد خضوع هذا الشعب الذي يقف ضده أنه ظل دومًا بعيدًا منثوراً على البحر. خلف كل هذا، توجد، على مسافة أجيال قليلة، العبودية، وهكذا ينفتح الجرح من جديد، ينفتح على كل عظمة إفريقيا الضائعة، وذكريات الأسلاف عن المعاملات الوحشية التي تلقوها، وعي حاد بإنكار مطلق للعدالة كانت شعوب بأكملها ضحية له. شعوب بأكملها ينتمي إليها ذلك الذي سيسافر، غنيَّاً بكل ما يمكن للبِيض أن يعلموه)

وهذا من دون شك ما يفسر قيمة دفتره وجميع أعماله اللاحقة التي نتجت بدورها من بصيرة نادرة والتزام شرس بقضايا عصره. أعمال تنير بعمق تمزقات ذلك العصر، وفي مقدمها (خطاب حول الاستعمار) الذي خطَّه على شكل صرخة تمرد في وجه الغرب المتربع على (أعلى كومة من جثث البشرية)، وأيضاً نصوصه المسرحية الأربعة ("وكانت الكلاب تصمت"، "مأساة الملك كريستوف"، "فصل في الكونغو"، "عاصفة") هذه الأعمال السياسية بامتياز والمشحونة شكلاً ومضموناً بثورة صاحبها.

 وتبين الباحثة الفرنسية المختصة بشعره كورا فيرون في كتابها الضخم (850 صفحة) والتي سجّلت فيه سيرة حياة (إيمي سيزير) وصدر حديثاً في باريس، بأن نشاط سيزير كمناضل ورجل سياسي لم يأت أبداً على حساب أصالته كشاعر. فمع أنه بقي عمدة مدينة فور دو فرانس على مدى 56 عاماً ونائباً في البرلمان الفرنسي عن إقليم المارتينيك من 1945 إلى 1993، لكن اضطلاعه بهاتين المهمتين الرسميتين لم يمنعه من إنجاز مشروعه الشعري وإحداث ثورة بواسطته داخل الشعر الفرنكفوني. مشروع تتحكم به جدلية الخاص والشامل، وتشكل جزيرة الشاعر، بناسها وبركانها وشمسها وأعاصيرها وشواطئها ونباتاتها وحيواناتها، بوصلته، والهوية الزنجية موضوعه. مشروع يصلح تعريف لما كتبه إيمي سيزير في تمهيده لكتاب (جملة جديدة من شعر العالم الأسود):

(ضحية الصدمة الاستعمارية، باحثاً عن توازن جديد، لم ينته الزنجي من التحرر. جميع الأحلام، جميع الرغبات، جميع الضغائن المتراكمة، جميع الآمال غير المصاغة والمكبوتة على مدى قرن من الهيمنة الاستعمارية، كل هذا كان يحتاج إلى الخروج. وحين يخرج ويعبر عن نفسه، جارفاً معه بلا تمييز الفردي والجماعي، المدرَك وغير المدرَك، المُعاش والتنبئي، فهو يدعى الشعر، لغة الجوهري التي تؤدي بالكامل دورها كفعل محرر).

في زيارات الأصدقاء والرفاق إلى غرفتي المعلق على أحد حيطانها صورة ذلك الشاعر الأسود، كانوا يسألون من يكون هذا الشاعر الذي يشبه شاعرنا في شكله وعنفوانه عنترة العبسي كما صورته السينما العربية في أفلامها؟ كنت قد نسيت اسم المجلة التي أخذت منها صورة الشاعر إيمي سيزير وقصيدته المترجمة للعربي، فقط حفظت أنه من جزر المارتينيك تلك المستعمرة الفرنسية في الكاريبي، وبأنه شاعر شيوعي، لذلك حظيت صورته بمطرح على جدار غرفتي. 

إيميه سيزير.jpg