Menu

قضيّةُ التطبيع في الأدبِ المصري 

د. أحمد الخميسي

كاتبٌ وقاصٌّ وروائيّ/ مصر
أعتقدُ أنّ تأثيرَ نكسة 1967 في الأدب المصري لم يظهر – بكلّ أبعادِهِ - إلا متأخّرًا، ومتأخّرًا جدًّا، وربّما في السنوات الأخيرة، فقط، شاع في الروايات موضوعُ "العشق بين العربي واليهوديّة" أو العكس، أو القصّة التي ينبغي أن تستدرّ الدموع عن اليهوديّة التي اشتاقت لوطنها مصر، وغير ذلك من مواضيعَ تصبُّ كلُّها في خانة استدرار العطف على الصهيونيّة وقاعدتها العسكريّة. في حينه – عام 1967 - اقتصرت النكسة – تقريبًا – على وقائع الهزيمة العسكريّة والسياسيّة، بينما استغرقت وقتًا طويلًا عمليةُ اختمار نتائج النكسة؛ خاصّةً في المجال الروحي، أي في مجال الإبداع الأدبي. كان ظهورُ آثار النكسة أسرعَ في المجال الأيديولوجي والسياسي والثقافي بمعناه العام، وفي ذلك السياق... برزت مبكّرًا عامَ 1974 دعوةُ توفيق الحكيم في "عودة الوعي"(1) لمراجعة حصاد التصدّي للاستعمار بفكرة الحكيم الرئيسيّة؛ وهي أنّ مواجهة الاستعمار بلا جدوى وبلا فائدة، وأنّ هذا هو الدرسُ المستفادُ من النكسة، والنتيجةُ المنطقيّةُ المترتّبةُ على تلك الفكرةِ واحدةٌ، وهي: أنّه لا مفرّ من القَبول بشروطِ العدو ولا مفرّ من الصلح معه؛ هذه النتيجةُ التي لم يعلنها الحكيمُ صراحةً - وإنْ وضع كلّ الأسس لاستنتاجها - وسرعانَ ما وجدت من يلتقطها ويصوغها صراحةً، مثل: د. إبراهيم عبده في كتابه "تاريخ بلا وثائق" (2) الذي تحدّث بوضوحٍ عن أنّ: "مواجهة الاستعمار جنونٌ مطبق". ولم يكن نجيب محفوظ بعيدًا عن فكرة توفيق الحكيم وإبراهيم عبده - وإنْ أعرب محفوظٌ عن ذلك في ثنايا أحاديثَ عابرةٍ - لكنه يقول بوضوح: "وعندما دعوت لاتباع السلام مع إسرائيل، كنت أدعو لاتباع هذه السياسة العاقلة، حيث يبدو واضحًا للجميع أنّنا لا نحارب إسرائيل وحدها"(3). أما مشكلةُ عبد الناصر؛ فإنّها - كما يراها محفوظ – تكمنُ في أنّ عبد الناصر دخل في صدامٍ مع أمريكا: "دون أنّ يقدّر إمكانيّاته الحقيقيّة، ولم يؤمن بالمثل الشعبي القائل: (مد لحافك على قد رجليك!) ولم يكن محفوظ أو الحكيم سوى رأس رمحٍ للاتجاه إلى التطبيع في الأدب. ومن هنا أخذ الكثيرون في مجال الثقافة يضعون الأساس الأيديولوجي لعمليّة تراجعٍ فكريٍّ شاملٍ عن كل قضايا ثورة يوليو من التصنيع والتنميّة والعداء للاستعمار، والتزام مصر بقضايا التحرّر العربي. وسرعانَ ما ظهرت روايةُ "فجر الزمن القادم" لعبد الله الطوخي (4) التي تدعو إلى النظر للصراع مع إسرائيلَ من منظور المحبّة والتسامح، وتجاوز "العقدة النفسيّة". وشيئًا فشيئًا أخذت الرؤوس تطلّ - بجرأةٍ - بزعامةٍ مؤلّف مسرحيّة مدرسة المشاغبين على سالم وأشباهه (5). وظهرت رواياتٌ كثيرةٌ تستدعي قصص الحب الموهومة بين مصري ويهوديّة، وتنسج عليها كلّ نقوش الخلط بين مختلِف المسائل الدينيّة والسياسيّة بهدفٍ واحدٍ هو إسقاطُ العداء لإسرائيل، والنظر إليها بصفتها صديقًا. 
لستُ بصددِ حصرِ تلك الرّوايات، أكتفي - فقط - بالإشارةِ إلى عملٍ لنعيم تكلا (6) باسم "نهلة" يروّج فيه لفكرة أنّ الكثيرين في إسرائيلَ يتعاطفون مع الحقّ الفلسطيني، بل إنّ: "النضال الفلسطيني يعتمد عليهم كثيرًا"! هناك روايةٌ أخرى باسم "حد الغواية" لعمرو عافية (7)، وفيها تلتقي سميحة ليفي اليهوديّة المصريّة بمحمود حنفي المصري في المغرب عام 1950؛ أي بعد إقامة الكيان الصهيوني، وتنشأ بينهما قصّةُ حبّ، ويقومان معًا برحلةٍ إلى قرطبة، وهناك تلتقي بهما سائحةٌ أمريكيّةٌ، وتندهش من اجتماعِ مصريٍّ ويهوديّة، فتقول لهما: "كنتُ أظنّ أنّكما في حالة حرب؟"، فيرد عليها محمود: "نحن في حالة حب"! وخلال حالة الحب المزعومة تلك ينهمك محمود في إعداد رسالة دكتوراة حول "نزوح العرب مسلمين ويهودا من أسبانيا"، في إشارةٍ إلى اضطهادٍ مشتركٍ يفترض أن يجمع العرب واليهود، ويفترض أن يكون ركيزةً للمحبّة، التي ينبغي بمقتضاها غضّ النظر عن الطبيعة العسكريّة العدوانيّة للاحتلال الصهيوني. 
وفي مطلع 2007 تجدّد التطبيع الأدبي، برواية "طلعة البدن" التي كتبها مؤلّفٌ من سيناء هو مسعد أبو فجر، الذي قام بنشاطٍ محمومٍ تجاه فصل سيناء عن مصر تحت مختلِف الذرائع. والروايةُ عبارةٌ عن حكاياتٍ صغيرةٍ متفرّقةٍ من أحداثٍ وذكرياتٍ متناثرةٍ في حياة ثلاث شخصياتٍ من سيناء، لا يجمعها فنيًّا بناءٌ مكانيٌّ وزمانيٌّ واحدٌ أو حبكةٌ روائيّة. ويقدّم لنا الكاتب عالم البدو في سيناء، ليس كما يرى المصري سيناء بصفتها جزءًا من الوطن، وساحةً شهدت المعارك، لكن من وجهة نظرٍ أخرى، وعند الكاتب أن سيناء تكاد أن تكون منطقةً احتلّها أهلُ النيل! وأساءوا معاملةَ سكانها من البدو بشكلٍ مستمر. يبدو ذلك حين يدرج الكاتب – وليس مصادفةً – مشهدًا لصديقينِ ينظرانِ في متحفٍ إلى لوحةٍ للملك سنفرو وبيمناه عصا لضرب "البدوي"، ثم تأتي حكايةُ قطيفي البدوي الذي مرّ على حدود مصرَ وإسرائيلَ، فعذّبه الضباط المصريون؛ ليعترفَ أنّه جاسوس، ثمّ عذّبوا أمّه أمامَهُ حتّى جنّ. وحين تمنع السلطاتُ المصريّةُ زراعةَ التبغ، فإنّها تجبر البدوَ على اقتلاع ما زرعوه، وعلى الهتاف "تحيا مصر". هكذا يغرز الروائي الشقاق بين أجزاء مصر، مثلما جاء عنده في قول الأستاذ الجامعي للطالب: "أنا عارفكوا كويس يا بتوع سيناء.. سنة سبعة وستين كنتوا بتآخدوا السلاح من العسكري بشربة ماء"! أي أن سكان سيناء عند باقي المصريين خونة. إذن، هي علاقةٌ حافلةٌ بالشكّ في البدو وتعذيبهم وإهانتهم رغم أن ذلك لم يمنع البدو من إنقاذ الضباط المصريين في حرب 67 وإرشادهم إلى طرق العودة، وكان من الممكن قَبول تلك الصورة لولا أنّ الكاتب يستشهد على الجانب الآخر بذلك "الإسرائيلي" ويصوّره أقرب إلى الملائكة، وليس ممثّلًا لقوى الغزو! وانظر على سبيل المثال عساف البدوي الذي هرب إلى إسرائيلَ وعمل هناك في كافيتريا مواجهةٍ لمعسكر للجيش. لقد استدعاه الإسرائيليون بكلّ أدبٍ وحذّروه من الوقوف هناك، ولم يعذبه أحدٌ كما فعل المصريّون مع قطيفي! وحين ترِد سيرةُ احتلال اليهود لسيناء في 67 يقول: "احتلّ اليهودُ سيناءَ وطالبوا الناس أن يسجّلوا أنفسهم وأبناءهم ليعطوهم تموينًا"! وأين – إلى جانب التموين - المذابحُ التي قام بها اليهود حينذاك على الأقل في العريش، وقتلهم الأسرى من الجنود المصريّين العزل أحياء؟ 
الأكثر من ذلك أنّ أحد الطلاب من البدو يقف في جامعة القاهرة تطوّقه في مَعْرِضِ صورٍ طلابيٍّ لمذابح مدرسة بحر البقر وغيرها، فيتذكر، ماذا؟ يتذكّر: "كيف كان طفلًا حين أمسكه جنديٌّ إسرائيليٌّ من كتفيه.. وقبله من جبهته وأعاده إلى مكانه"! الجنود الإسرائيليّون ملائكة هبطت لانقاذ مصر! 
في العمل هناك أيضًا شخصيّةٌ سائحةٌ يهوديّةٌ تدعى "راتشيل" وهي في حديثٍ مع عساف تقول له: "كل حروفنا مكونةٌ من هلالٍ وعصا. القمر هو السين والسين هي سيناء" ولا يجد عساف ما يقوله ردًّا على ذلك، بل يعدّ أن راتشيل بكلماتها: "تكاد تكسر كلّ ما اعتاد الفخر به ليخرج من صلب التاريخ فخرٌ آخر"، أيّ فخرٍ في ادعاءات إسرائيلَ الكاذبة بحقوقٍ تاريخيّةٍ في سيناء؟ وما طبيعة ذلك "الفخر الآخر" الذي يرى الكاتب أنه خرج من صلب التاريخ، وليس من صلب الأساطير الكاذبة؟  
تيارُ التطبيع في الأدب إحدى أبرز نتائج النكسة، وإن كانت ثمارُهُ هي الأشدُّ رخصًا وابتذالًا من الناحية الأدبيّة والفكريّة والفنيّة؛ لأنّ أعين أصحاب تلك الأعمال معلقةٌ بجوائزَ ومؤتمراتٍ في عواصمَ أخرى، مثلما فعل الرسّام المصري جورج البهجوري، الذي شدّ رحاله إلى تل أبيب عام 2008، للمشاركة  في معرِض "رسومٍ كاريكاتوريّةٍ من أجل السلام"، علمًا بأنّ رسّامين عرب، وغير عرب، رفضوا المشاركة في المعرِض الذي يموّه بحديثه عن السلام على الإجرام اليومي للدولة الاستيطانيّة، أمّا البهجوري فقد برّر فعلته بقوله: "إنّ رسمةً كاريكاتيريّةً قد تحدث ابتسامةً على وجه جندي تمنعه من إلقاء قنبلةٍ في يده"! ولو أن مواجهة الاحتلال – أي احتلال - كانت ممكنةً بادعاءات البهجوري لما كان علينا نحن المصريين أثناء الحروب التي خضناها سوى الاصطفاف على الحدود، وإرسال النكت إلى الجنود الإسرائيليّين لقتلهم ضحكًا! 
قديمًا كتب الأديب الألماني العظيم فرانز كافكا: "الكتابةُ هي أن تهجرَ معسكر القتلة"، وهو قولٌ يصحّ على كلّ ألوان التعبير الفني. وختامًا لا بدّ من الإشارة إلى التيّار الأدبي والثقافي الشعبي وبين النخبة، الذي يتصدى بكلّ قوّةٍ للتطبيع، ويسد منافذه أوّلًا بأوّل قدر المتاح والممكن. 
هوامش: 
1-توفيق الحكيم: عودة الوعي، دار شروق، يونيو 1974.   
2- د. إبراهيم عبده: تاريخ بلا وثائق، القاهرة، أكتوبر 1975. 
3- صفحات من مذكرات نجيب محفوظ: إعداد رجاء النقاش، دار الشروق، 1997، ص 320.
4- عبد الله الطوخي: فجر الزمن القادم، دار الثقافة الجديدة، 1978.
5- على سالم: رحلة إلى إسرائيل، كتاب اليوم عن أخبار اليوم، 1994. 
6- نعيم تكلا: نهلة، مطبعة منشأة عارف، 1986. 
7- عمرو عافية: حد الغواية، دار ميريت، 2004.