الجزء الثاني
الشتات الفلسطيني: 1948- 1983
أفول العائلات الحاكمة 1948 – 1967:
أدى تشتت الشعب الفلسطيني وسيطرة الصهاينة على جزء كبير من البلاد إلى تغييرات اقتصادية واجتماعية جذرية، حتى في تلك الأجزاء التي بقيت تحت السيطرة العربية – الضفة الغربية وغزة.
ولكن رغم أن خلق دولة إسرائيل أدى إلى نتائج كارثية بالنسبة لأجزاء كبيرة من الفلاحين والطبقة العاملة، وأجبر قطاعات من البرجوازية و الطبقة العليا على التشرد، إلا أنه أفاد بعض عناصر الأشراف والطبقة المالكة للأرض التي حافظت على ممتلكاتها في أجزاء فلسطين التي احتلتها الدول العربية. وأدى فيض اللاجئين إلى انخفاض الأجور إلى مستوى لم يسبق له مثيل منذ أواسط الثلاثينات، ووفر احتياطياً كبيراً من اليد العاملة الماهرة وغير الماهرة التي كانت بحاجة ماسة لإيجاد عمل ولو بأجر زهيد ليقيها الجوع. وفي الوقت ذاته شكل وجود سوق العمل الكبير هذا حافز لمالكي الأراضي والرأسماليين المحليين في الضفة وغزة لاستصلاح أراض جديدة، وللانخراط في التجارة الخارجية، وتطوير صناعة محلية قادرة على توفير احتياجات السكان الذين تضخم عددهم نتيجة اللجوء.
على أية حال مهد تقسيم فلسطين، وانتهاء هيمنة الطبقة الحاكمة، الطريق أمام نشوء طبقات جديدة، وتولى رجال لاينتمون إلى أعلى السلم الاجتماعي التقليدي السلطات السياسية.
يبحث هذا الفصل في موقع الأشراف والعائلات المالكة الكبيرة في أجزاء فلسطين التي وقعت تحت الاحتلال العربي، وبالتحديد وضع هذه الطبقات في الأردن حتى لحظة زوالهم بعد حرب 1967 عندما تحدت منظمة التحرير الفلسطينية، والكوادر المسلحة من الفصائل الفلسطينية مزاعمهم بقيادة الشعب الفلسطيني.
هزيمة الحركة الوطنية 1943 – 1948:
الحسينيون والاستقلال 43 -1945:
في بداية عام 1943 تأكد الطرفان العربي واليهودي في فلسطين بأن انتصار بريطانيا بات وشيكاً، فبدأوا بإعداد الخطط للحصول على مزيد من التنازلات البريطانية فور انتهاء الحرب.
أما العرب، الذين امتعضوا من الخطط الصهيونية في بلادهم، ومن الدعم المتزايد الذي تقدمه الولايات المتحدة للوكالة اليهودية، فقد طرحوا لامبالاتهم السياسية جانباً وبدأوا يتحركون من جديد من أجل إزالة القيود عن نشاطهم السياسي، ومن أجل خلق حركة وطنية موحدة.
من بين طبقات ملاك الأراضي والإشراف في فلسطين كانت المجموعة الوحيدة التي لم تفقد مصداقيتها الجماهيرية، ولم تكن في المنفى، هى من أعضاء حزب الاستقلال الذي تأسس في نهاية الحرب العالمية الأولى من قبل عدد من المثقفين المدينيين الذين ينتمون لطبقة ملاك الأراضي في فلسطين وسوريا والعراق. كان أعضاء هذا الحزب أصلاً من مؤيدي حكومة فيصل في سوريا ولكنهم هربوا بعد سقوط عرش فيصل ولجأوا إلى الأردن، وهناك دخلوا في صراع مع الأمير عبد الله، مما أدى إلى طردهم من الأردن في أواخر العشرينات. أسس الأعضاء الفلسطينيون في حزب الاستقلال فرعاً مستقلاً للحزب في فلسطين، كان ينادي بإنهاء الحكم البريطاني وبقيام الوحدة العربية.
رغم أنه كان يضم أعضاء من طبقة ملاك الأراضي الكبار مثل عوني بيك عبد الهادي ورشيد الحاج إبراهيم- سيد عائلة بارزة في حيفا – إلا أن حزب الاستقلال جذب إلى صفوفه شباباً من أبناء الطبقة الوسطى بينهم عدد من المؤهلين مهنياً ممن تلقوا تعليمهم في المدارس الغربية، إما في فلسطين وإما في الخارج. وجذب الحزب أيضاً بعضاً من أعضاء الطائفة المسيحية، بسبب أيديولوجيته العلمانية.
وفي لحظة اندلاع الثورة عام 1936، انتهى وجود الحزب ككتلة سياسية واحدة. ولكن رغم ذلك استمر أعضاء الحزب بلعب دور مهم في اللجان الوطنية التي شُكلت في بداية الإضراب، وساهم عدد منهم في العمل الثوري بفاعلية.
الاحتلال الإسرائيلي وهزيمة المفتي 1947 – 1948:
بهزيمة مصر وموافقتها اللاحقة على الدخول في مفاوضات هدنة مع إسرائيل انتهت هيمنة المفتي الطويلة على الحركة الوطنية الفلسطينية، وتوقفت اللجنة العربية العليا عن العمل. ورغم بقاء حكومة عموم فلسطين إلا أن هذا البقاء كان اسمياً فقط، حيث اقتصر عملها على إصدار بعض البيانات في بعض المناسبات من مقرها في القاهرة. بعد ذلك أغلق الرئيس عبد الناصر مكاتبها عام 1959.
في اتفاقية الهدنة بين إسرائيل وشرق الأردن والتي تمت في رودوس في أوائل نيسان 1949، وافق عبد الله على منع جميع القوات العسكرية وشبه العسكرية، البرية والبحرية والجوية، من القيام بأي عمل حربي أو عدواني ضد القوات الإسرائيلية.
في 26 نيسان 1949 تغير الاسم الرسمي للبلاد ليصبح المملكة الأردنية الهاشمية، حيث قرر الملك عبد الله، إسقاط كلمة فلسطين من اسم البلاد ومن قائمة ألقابه كملك. وفي كانون أول 1949 تقرر اعتبار الفلسطينيين المقيمين في المناطق التي تسيطر عليها الأردن، وفي الأردن نفسها، مواطنين أردنيين. وأخيراً، وفي 24 نيسان 1950، أعلن الملك عبد الله في خطاب العرش عن ضم وسط فلسطين بشكل رسمي، وصدر في اليوم ذاته مرسوماً يؤكد هذا الإعلان، ومنذ ذلك التاريخ أشارت كل البيانات الى تلك المناطق باسم الضفة الغربية (المملكة الأردنية الهاشمية).
باكتمال عملية التقسيم وإخماد بقايا المقاومة انتقل النضال من أجل استقلال فلسطين الى مرحلة العمل السياسي، وانتقل مسرح هذا العمل الى خارج فلسطين فأصبحت عمان خلال العقد القادم منبراً للتعبير عن الطموحات الفلسطينية بدل القدس . ولكنها كانت معركة من جانب واحد، فعبد الله وورثته المدعومون من معظم القوى الغربية، والعازمون على الحفاظ على الوضع القائم، فرضوا على بقايا الزعامات التقليدية الفلسطينية أحد خيارين مصيريين: إما القبول بالإلحاق الذي فرضه عبد الله، مع ما يوفره هذا الإلحاق من هدوء وفرص اقتصادية، وأما مواجهة الملك والمملكة ومن وراءها في بريطانيا والولايات المتحدة. في النهاية اختاروا الخيار الأول، مما افقدهم مصداقيتهم أمام شعبهم، هذا الشعب الذي أخذ يتطلع الى زعماء أكثر نضالية في العالم العربي لمواصلة النضال وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق دولة مستقلة.
استعادة الفصيل المؤيد لعبد الله:
تكللت محاولات عبد الله خلق عملاء له في فلسطين، يؤيدون التقسيم وضم وسط فلسطين للأردن، بالنجاح في خريف 1948 بعد أن اتبع انتصاراته العسكرية بمحاولة تجميع مؤيديه في الضفة الغربية. عقد في تشرين أول 1948" مؤتمراً يضم عناصر من الطبقة الحاكمة الفلسطينية المؤيدة للعرش الهاشمي والحكم البريطاني. انعقد المؤتمر في عمان برئاسة الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، أحد أعضاء النخبة التقليدية، ومؤيداً لحزب الدفاع في أواسط الثلاثينات. باشر المؤتمر بإصدار قرارات تنكر مزاعم حكومة عموم فلسطين التي شكلت في غزة قبل عدة أيام.
وفي 20 كانون أول، عين الملك عبد الله الشيخ حسام الدين جارالله، من عائلة مقدسية شريفة، متحالفة مع عائلة النشاشيبي، وعضو المجلس الإسلامي الأعلى في العشرينات، مفتياً للقدس بدل الحاج أمين.
وجاءت الضربة الأخيرة بل والقاضية للحسيني في الأسابيع القليلة القادمة، عندما غير العشرات من أتباعه في حكومة عموم فلسطين ولاءهم، وأيدوا عبد الله. من بين هؤلاء أربعة وزراء في حكومة عموم فلسطين المشكلة في غزة هم: أحمد حلمي باشا، عوني عبد الهادي، الدكتور حسين فخري الخالدي، وكذلك سكرتير مجلس الوزراء، أنور نسيبة. وهيمن هؤلاء الرجال ومعهم آخرون من عائلات طوقان ودجاني وخطيب ونمر وبرغوثي وجيوسي على ما تبقى من نشاط سياسي فلسطيني، وعلى قسم كبير من النشاط الاقتصادي.
الفوائد الاقتصادية:
لقد أدى ضم الضفة الغربية عام 1950 الى تحول تام في الاقتصاد والمجتمع الأردني. إذ ازداد عدد السكان أكثر من الضعف نتيجة تدفق اللاجئين الذين أقاموا في المناطق التي احتلها الأردن، فوصل عددهم عام 1955 الى أكثر من 1.450.000 بينهم حوالي 610 ألف – أي ما يقارب ثلثي مجموع السكان – من الفارين من المناطق التي احتلتها إسرائيل عام 1948.
أما أثر الهجرة الفلسطينية على المدن في الضفتين فكان مفاجئاً أيضاً: فعمان مثلاً، المدينة التي لم يتجاوز عدد سكانها 40 ألفًا في أوائل الأربعينيات، وصل عدد سكانها الى 120 ألف عام 1950 – ثلاثة أضعاف- ثم وصل عام 1960 الى 220 ألف أي بزيادة تتجاوز 550 بالمئة خلال عشرين عاماُ.
وفي الضفة الغربية شهدت المناطق المدينية مثل القدس ورام الله وأريحا ونابلس وطولكرم ازدياداً كبيراً في عدد السكان، وقد وفر هذا الوضع – قلة الأراضي والتمدن السريع- فرصاً لامثيل لها لملاك الأراضي الكبار في الضفة الغربية، فبعضهم كما ذكر سابقاً اشترى أراضٍ في وسط فلسطين في فترة الانتداب من الأرباح التي تراكمت لديهم من زراعة وتصدير الحمضيات.
هناك مؤشرات على أن عدد ملاكي الأراضي القادرين على الاستفادة من الوضع الزراعي الجديد وتوسيع ممتلكاتهم كان كبيراً نسبياً. قدرت دراسة أُجريت بهذا الخصوص عام 1964 عدد ملاك الأراضي ( ومن ضمنها أراضي الضفة الغربية)، 647 مالكاً تزيد ملكية كل واحد منهم عن 250 أكر، ومجموع ملكية هؤلاء تساوي ما يملكه 68.728 فلاح تقل معدل ملكية الواحد منهم عن 25 أكر. (أي فدان = 4 دونم).
في حزيران 1967 كان هناك 666 مالكاً تزيد ملكية الفرد فيهم على 250 أكر:
245 مالك تبلغ ملكية كل منهم 500أكر أو أكثر، و67 مالك تبلغ ملكية كل منهم 1250 أكر، و22 مالك تبلغ معدل ملكية الواحد فيهم 2500 أكر.
أُجريت دراسات أُخرى في أواسط الخمسينات دلت على أنه رغم ارتفاع عدد الملكيات الصغيرة في الضفة الغربية، إلا أنه توجد في مناطق عديدة من الضفة الغربية ملكيات كبيرة، أهم هذه المناطق: المنطقة المحيطة بالقدس ونابلس والخليل. ففي منطقة القدس وزع 36.9% من الأراضي على وحدات تبلغ الوحدة منها 250 أكر، وفي الخليل وصلت النسبة 17.4% وفي نابلس 16.2%.
الى جانب قدرتهم على تحريك رأس المال والعمل، استفاد مالكو الأراضي الكبار من قدرتهم على الوصول الى الأسواق الداخلية والخارجية، ومن سيطرتهم على التجارة بين الضفتين الغربية والشرقية.
كذلك كانت لبعض العائلات في الخليل، وبعض القبائل المسيحية التي تسيطر على المنطقة الوسطى من وادي الأردن، صلات قوية مع عشيرة المجالي من شرق الأردن، ومن خلال هذه الروابط توصلت الى إقامة علاقات مع مسئولين في أعلى المستويات الإدارية في عمان ومع مسؤولين في البلاط الملكي والجيش. لذلك لم تشكل مسائل الحصول على رخص تصدير أو تصاريح حدود أو نقل أي مشاكل حقيقية.
إضافة الى ذلك مارس مشايخ قبائل التميمية والطربين والعزازمة والجبارات في جنوب فلسطين أعمال التجارة بين الضفتين، حيث كانوا يتاجرون بشكل رئيس بالماشية وبالإنتاج الزراعي من أراضيهم الموجودة على جانبي الحدود. وكانت تجارة الحشيش مزدهرة بشكل كبير وتتضمن تهريب مايزرع منه في لبنان وسوريا عبر فلسطين وصحراء سيناء ليصل الى مستهلكيه في مصر.
فيما بعد وعندما أصبح منتوج الأراضي الجديدة ثابتاً ومتزايداً، بدأ ملاك الأراضي الكبار في الضفة الغربية بتسويق سلعهم بأنفسهم – كما حصل مع منتجي الحمضيات فترة الانتداب- أو شكلوا تحالفات مع العائلات التجارية الكبيرة في الضفة الشرقية للهيمنة على تجارة التصدير.
ومن أكثر المغامرات التجارية نجاحاً، كانت تجارة زيت الزيتون من ممتلكات آل طوقان في منطقة نابلس. فبتأسيسهم لشركة مساهمة واستخدامهم لصلاتهم في الوزارات المعنية في عمان نجحوا في منع استيراد زيوت غذائية أخرى، وفي تصدير زيت الزيتون الى الخارج في موسم الزيتون، الأمر الذي ضمن لهم ولكبار المنتجين المتحالفين معهم سعراً عالياً لمنتوجهم في السوق.
بالإضافة الى ذلك، استثمر آل طوقان أموالهم في إنشاء المستودعات واليات التخزين، مما مكنهم من تخزين السلعة للوقت الذي يصل فيه السعر الى قمته القصوى.
أما عائلة جرار التي كانت تملك كروم زيتون كبيرة في منطقة جنين، والتي كانت متحالفة مع عائلة طوقان، فقد استثمرت رأس مالها في زراعة أشجار الفواكه إضافة الى أشجار الزيتون. بهذه الطريقة استطاعت أن توسع استثماراتها ذات المدى الطويل وبطريقة مربحة جداً، إضافة الى أرباحها من تصدير الفواكه الى شرق الأردن.
وبدأت عائلة عبد الهادي بزراعة أشجار الزيتون وبالمتاجرة بأشتال الزيتون في الستينات.
أما مالكو الأراضي الآخرين، ومن بينهم آل طوقان، فقد رفعوا مستوى إنتاجهم بتوسيع أسواق الصابون، وبفتح أسواق جديدة للصابون المصنوع من زيت الزيتون في سوريا والخليج العربي، إضافة الى الأسواق التقليدية في مصر وشرق الأردن. واستثمر آخرون رؤوس أموالهم في زراعة البطيخ من أجل السوق المحلي والخارجي، وفي زراعة البندورة والخضار التي كانوا يصدرونها الى عمان.
هؤلاء الملاك والعائلات، احتكروا أيضاً مراكز مهمة أخرى في الوزارات وإدارات الخدمات العامة، في الفترة بين آبار 1949 ونيسان 1957 احتُل المنصب من قبل راغب النشاشيبي، وخلوصي الخيري، وسليمان الطوقان، والشيخ محمد علي الجعبري، وهاشم الجيوسي، وعبد القادر الصالح وكلهم من أبناء العائلات المالكة للأراضي أو من النخبة التجارية التي أيدت الحكم الهاشمي في الضفة الغربية.
وفي المقابل، فقد عانت باقي قطاعات الطبقة الحاكمة الفلسطينية، والتي استمرت في معارضتها للإلحاق، كما عانت البرجوازية الصناعية الوليدة والفلاحون الصغار. وفي عام 1956 أصبحت هذه المجموعات- مدعومة من العمال المدينيين والعمال الزراعيين العاطلين عن العمل والذين يقطنون في المخيمات، والمثقفين المستقلين – جاهزة لتحدي الهيمنة الهاشمية ولتحدي سيطرة الأعيان الفلسطينيين المتعاطفين مع الملك.
مشاركة ما يسمى بالأشراف وكبار الملاك والبورجوازيين الفلسطينيين في حكومة الملك عبداللة :
رحبت قطاعات واسعة من الأشراف بالعلاقة الجديدة مع عبد الله، آملين ان يستعيدوا نفوذهم الذي تمتعوا به في ظل الحكم العثماني، والذي قضى الانتداب عليه، وبالتالي فان العديد من زعماء الأشراف وأبنائهم استمروا في خدمة الملك بإخلاص مقابل الحصول على امتيازات اجتماعية واقتصادية حرم منها أقرباؤهم الأكثر نضالية.
بدأ توزيع المناصب على الفلسطينيين المؤيدين للأسرة الهاشمية مع احتلال الفيلق العربي للضفة الغربية في النصف الثاني من عام 1948. فعُين فلسطينيان هما عارف العارف- الذي عمل في شرق الأردن، وأحمد حلمي باشا حكام مناطق بإمرة إبراهيم هاشم. وبعد مؤتمر أريحا عين فلسطيني آخر، عزمي النشاشيبي، حاكماً عسكرياً وكان مقره رام الله.
وفي آذار 1949 عين فلسطينيان هما حامد خليل، رئيس بلدية حيفا الأسبق والذي ساهم بفاعلية في تنظيم مؤتمر أريحا، ونعيم طوقان لرئاسة منطقتي رام الله والخليل. وفي أيلول 1949 عُين راغب النشاشيبي، رئيس بلدية القدس الأسبق، حاكماً عاماً لفلسطين العربية. قبل ذلك بعدة أشهر، أي في آيار 1949، أجرى الملك تعديلاً وزارياً ليضم الى مجلس وزرائه ثلاثة فلسطينيين مؤيدين له هم: موسى ناصر مالك أراضي وحاكم منطقة رام الله في فترة الانتداب البريطاني، وروحي عبد الهادي (الذي ينحدر من أكبر العائلات المالكة للأراضي في فلسطين وكان مساعداً رئيساً للسكرتير العام لفلسطين في فترة الانتداب)، وخلوصي الخيري. وفي آب عُين راغب النشاشيبي وزيراً لوزارة اللاجئين الجديدة، حيث وفر له هذا المنصب سيطرة كاملة على صندوق المساعدات والأغذية الضخم، التي كانت ترسلها الأمم المتحدة والمنظمات الأخرى الخيرية.
عين الملك رجلين من أشد المعارضين للمجلس الإسلامي الأعلى وللمفتي في فترة الانتداب هما: الشيخ حسام الدين جار الله مفتياً للقدس (بدل الحج أمين) ورئيساً للقضاة في 20 كانون ثاني 1948، وراغب بيك النشاشيبي حارساً للاماكن المقدسة وللحرم الشريف، وأخيراً أمر الملك بتشكيل مجلس إسلامي أعلى جديد برئاسة عوني عبد الهادي.
ففي الانتخابات التي جرت في نيسان 1950، ترشح 65 مرشحاً من الضفة الغربية لعشرين مقعداً برلمانياً – ثلاثة مقاعد حفظت لفلسطينيين مسيحيين. فسيطر أبناء العائلات الشريفة والمالكة للأراضي الموالية للملك على قائمة الفائزين بالانتخابات، ضمت هذه القائمة تحسين عبد الهادي ورشاد الخطيب وعبد الرحيم جرار وأنور نسيبة وقدري طوقان.
مُنح كل من الشيخ محمد علي الجعبري والشيخ سليمان التاجي الفاروقي، اللذين لعبا دوراً بالغ الأهمية في حشد المؤيدين لإلحاق الضفة الغربية، مقاعد في مجلس الأعيان في نيسان 1950.
كذلك احتكرت العائلات نفسها الحصة الفلسطينية في مجلس الوزراء، فعُين هاشم الجيوسي مثلاً في ست مجالس وزارية بين 1950 و 1957 كوزير للاتصال والداخلية والتجارة والمالية والزراعة والطيران المدني. أما أنور نسيبة المنحدر من العائلات المقدسية الشريفة فعُين لأول مرة في مجلس الوزراء في أيلول 1952 حيث عمل وزيراً للإنماء والاعمار ثم وزيراً للدفاع ثم التعليم. أما أحمد طوقان خريج جامعة اكسفورد، والذي عمل أيام الانتداب في دائرة التعليم في فلسطين، وزيراً للخارجية ووزيراً للدفاع ورئيساً للوزراء.
وفي حالة الشؤون الخارجية مثلاُ، أدت سيطرة الفلسطينيين على الوزارة خلال الخمسينات والستينات الى امتلاء سفارات الأردن بالعاملين الفلسطينيين، وخصوصاً من العائلات الموالية.
ففي تلك الفترة ضمت صفوف السفراء الأردنيين أمثال يوسف هيكل، رئيس بلدية يافا الأسبق (وعمل سفيراً في واشنطن ولندن وتايي)، وحازم زكي نسيبة (عمل سفيراً في الأمم المتحدة) وعوني عبد الهادي ( القاهرة)، وعيس البندك رئيس بلدية بيت لحم الأسبق (عمل سفيراً في اسبانيا)، وجمال طوقان (في بيروت) وعبد الله صلاح (الكويت ونيودلهي وباريس)، وعادل الخالدي (مدريد)، وأنور الخطيب في (القاهرة).
وأوجدت قيود أخرى في القانون البلدي تقصر حق التصويت على من يدفع ضريبة الملكية، أو مبلغ محدود كضريبة بلدية كل عام. هذا القانون جاء لمصلحة التجار والعائلات الكبيرة التي سيطرت الى حد ما على المجالس البلدية في مناطقها خلال فترة الحكم الأردني.
فمثلاً انتخب الحاج معزوز المصري رئيساً لبلدية نابلس في ثلاث دورات انتخابية من بين أربع دورات، عقدت بين 1951 و1967 وكان عادل الشكعة عضواً في المجلس ذاته خلال فترة الحكم الأردني كله. في تلك الأثناء جُند أبناء العائلات الكبيرة كضباط في الفيلق العربي وفي القوى الجوية.
التحدي الوطني الجديد:
لم تكن هيمنة المؤيدين للنظام الهاشمي من الطبقة الحاكمة الفلسطينية عملية سهلة. ففي الضفة الغربية واصلت المقاومة المسلحة، المدعومة من المفتي في موقعه في مصر، شن غارات ضد المناطق التي احتلتها إسرائيل حتى بعد الإعلان الرسمي لضم الضفة الغربية للأردن.
وفي تموز 1951 وقع الملك عبد الله نفسه ضحية هذا الغضب الفلسطيني، حيث اغتاله خياط فلسطيني على درجات المسجد الأقصى في القدس.
بعد ذلك بعام أُسقط نظام فاروق في مصر، وسرعان ما لمست نتائج ذلك في الضفة الغربية حيث ترافق هذا الأمل مع تصاعد الاستياء من الإجراءات القمعية التي يمارسها الفيلق العربي ومع تصاعد المعارضة للإلحاق بالأردن.
جلب تتويج الملك حسين في أيار 1953 فترة من الهدوء النسبي. ولكن في خريف العام نفسه نزل الفلسطينيون الى الشوارع مرة أخرى. تبعه شغب في كانون الأول وخرجت المظاهرات الجماهيرية ضد نظام الملك في ربيع وصيف 1954.
لقد وضع إصرار الملك على إنقاذ عرشه ولو على حساب أرواح الفلسطينيين، العائلات الفلسطينية التي تدعم العرش في مأزق صعب، فإما أن يتبعوا خطوات رجل السياسة الوطني سليمان النابلسي- شاب يملك بنكاً ومن عائلة متنفذة من أصل فلسطيني- وينسحبوا من الانتخابات، أو أن يتجاهلوا ما يقترفه الفيلق العربي ويدعموا الإجراءات القمعية.
في عام 1954 هدد تزامن الاحتجاج الجماهيري مع تنامي المعارضة في البرلمان بإثارة المزيد من المطالب بالإصلاح الديمقراطي وإنهاء الوجود البريطاني في الأردن.
وبإصرار من الملك اصدر رئيس الوزراء أبو الهدى في تشرين أول قراراً باعتقال عدد من مرشحي المعارضة كان من بينهم النابلسي. حُظرت النشرات الحزبية وأبُعد المناضلون المعروفون عن اللوائح الانتخابية. ولكن غضب الجماهير الذين لجأوا الى إحراق وتخريب الفيلات الخاصة والمباني الحكومية في عمان أُثنى الحكومة والفلسطينيون فيها على ممارسة المزيد من الاحتكار الانتخابي خوفاً من تضرر ممتلكاتهم الخاصة.
وبتسلحهم بالتعديلات الدستورية الجديدة، شن أبناء العائلات الكبيرة المنشقون على عائلاتهم، والذين أُبعدوا عن السلطة، شنوا حملة مكثفة وواسعة في السنتين اللاحقتين من أجل فرض انتخابات برلمانية جديدة. وبزعامة النابلسي شكلوا حزباً جديداً هو الحزب الاشتراكي الوطني ضم مالكي أراضي وشيوخ عشائر فلسطينيين وشرق أردنيين، وكذلك ممثلين عن البرجوازية الوليدة الذين أرادوا إحداث إصلاحات اقتصادية وسياسية.
أدى انتصار المعارضة في الانتخابات التي جرت في تشرين الأول الى دخول أغلبية وطنية في مجلس النواب ومجلس الوزراء. وكان حزب النابلسي الذي حصل على 18% من مجموع أصوات الناخبين التي بلغت 405 آلاف صوت هو المنتصر الحقيقي، حيث حصل على 12 مقعداً من بين أربعين مقعداً نيابياً. وبتحالفه مع حزب البعث الذي حصل على مقعدين والجبهة الوطنية بقيادة الشيوعيين التي حصلت على ثلاث مقاعد، والنواب المستقلون الثلاثة استطاع النابلسي أن يشكل ائتلافاً حكومياً من 20 مقعداً نيابياً. لقد تقلص عدد النواب المؤيدين للحكومة الى 8 أعضاء فقط بعد أن كانوا 35 نائباً في المجلس السابق.
أما في مجلس الوزراء فقد حل الاشتراكيون الوطنيون والبعثيون محل حلفاء الملك من عائلات النشاشيبي والنسيبة وطوقان. وأعطى منصب الدكتور حسين فخري الخالدي الذي كان وزيراً للخارجية الى محرر شاب من رام الله هو عبد الله الريماوي، الذي أسهم في تأسيس حزب البعث والذي اعتقل مراراً بسبب معارضته لنظام الملك ولبريطانيا.
لم تكن الحكومة الجديدة، رغم راديكاليتها، معارضة كلياً للعرش، ولم تكن ملتزمة بإقامة النظام الجمهوري. دعا النظام الجديد الى إرساء الحريات الديمقراطية والسياسية وإدخال اصلاحات اقتصادية واجتماعية، هذه الإجراءات كانت تسعى لتحويل نظام الحكم من ملكي مطلق الصلاحيات الى نظام يشبه الملكيات الدستورية في أوروبا.
لم تضيع الحكومة الجديدة وقتاً طويلاً بل أسرعت الى تغيير تحالفات الأردن الخارجية. فأعلنت أن الأردن حكومة وشعباً هو جزء من الأمة العربية ودعت الى تحرير الأراضي العربية من السيطرة البريطانية والفرنسية.
في نهاية تشرين ثاني 1956 كان النابلسي يتمتع بدعم الوزارة والبرلمان والبلاد كلها، عندها شجب الإمبريالية بجميع وجوهها، وأُعلن عن نية حكومته إلغاء المعاهدة البريطانية- الأردنية، وطالب بريطانيا بسحب جميع قواتها من الأراضي الأردنية.
وأخيراً وكجزء من إعادة صياغة تحالفات الأردن الخارجية، أقيمت العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين الشعبية.
على أية حال لم تدم وحدة البلاط والوزارة والبرلمان طويلاً، فعندما تراجع خطر الغزو وخطر الانتفاضة الداخلية، تحرك الملك مدعوماً من البلاط والفلسطينيين الموالين له ولبريطانيا لقلب سياسات النابلسي فحصل في خطواته هذه على تأييد كبير من الولايات المتحدة.
وفي 10 نيسان 1957 أذعن رئيس الوزراء لمطلب الملك لأن هذا ما ينص عليه الدستور.
وفي 25 نيسان عندما أيقن الملك استحالة إمكانية تشكيل حكومة تنسجم مع تطلعاته، وبعد خروج الجماهير الى الشوارع في عمان والقدس ونابلس، أوقف الملك العمل بالدستور، وحل البرلمان، وأعلن الحكم العرفي، وحظر الأحزاب السياسية، وإنزال الجنود الى الشوارع، وفرض حظر التجول على مدار اليوم في القدس ونابلس ورام الله واربد.
في اليوم الثاني تم اعتقال المئات من معارضي الملك من بينهم النابلسي ونعيم عبد الهادي وعبد الحليم النمر ليحاكموا أمام المحاكم العسكرية. ثم عين الملك مجلس وزراء جديد ضم عدداً من الفلسطينيين الموالين للملك مثل سليمان طوقان.
ولكن رغم ما قد يبدو من أن الجبهة الداخلية باتت آمنة نتيجة القمع الملكي، فإن مشاكل الملك لم تنته بعد. فقد اندلعت حرب الكلام بين الأردن من جهة وكل من مصر وسوريا من جهة أخرى. ثم أعلنت كل من مصر وسوريا في شباط عن نيتهما الاندماج في الجمهورية العربية المتحدة، فبات أعداء الملك في العالم العربي أقوى من أي وقت مضى.
بعد شهور قليلة عندما أطاح انقلاب عسكري في بغداد بابن عمه فيصل الثاني وخشية أن يلحق بابن عمه، طلب الحسين مساعدة طارئة من بريطانيا والولايات المتحدة.
بعد ثلاثة أعوام خفف الانفصال بين سورية ومصر والذي تم عام 1962، الضغط عن الملك، ولكن حينها كانت مسألة الحقوق الفلسطينية ومواصلة النضال من أجل الوحدة العربية بشكل عام قد خرجت من يده.
أما النبلاء الفلسطينيون الذين مازالوا موالين للملك والعرش في الأردن، فقد جلبت لهم هزيمة النابلسي والمتعاطفين معه الارتياح، حيث تجنبوا غضب مواطنيهم وكافأهم الملك عل إخلاصهم له بإعطائهم مناصب رفيعة وامتيازات اقتصادية كبيرة.
أما أولئك الفلسطينيون الذين انضموا الى المعارضة وسعوا الى المحافظة على مصداقيتهم أمام مواطنيهم بإقامة علاقات مع الطبقة البرجوازية الوليدة، وبدرجة أقل مع المثقفين والفلاحين المجرين فقد واجههم خيار صعب، فإما الانضمام الى فلسطيني المنافي والإذعان أمام إبعادهم عن السلطة وإما التضحية بروابطهم مع الجماهير الفلسطينية مقابل أن يحظوا برعاية الملك.
مع حلول عام 1967 كان أشخاص مثل أنور الخطيب وأنور نسيبة والشيخ محمد علي الجعبري وبعض المنشقين من عائلة طوقان يعتبرون من أقرب المقربين في الضفة الغربية. وتابعوا هذا الدور، معتمدين على رواتبهم كوزراء وسفراء وقضاة ورؤساء بلديات، حتى بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية عام 1967، وبعد الحرب الأهلية في الأردن عام 1970-1971. ومع العناصر الموالية للملك من العائلات المالكة الفلسطينية وزعماء القبائل الموالين لحسين أسهم هؤلاء بمنع تبلور وعي فلسطيني خاص في الضفة الغربية وفي الأردن حتى أواخر الستينات.
القومية والبرجوازية:
لم يكن الأردن البلد الوحيد الذي عانى من النتائج السلبية لضياع فلسطين فقد سقط نظام الملك فاروق في مصر في تموز 1952، وبداية المرحلة الناصرية، حيث تعرض عبد الناصر عام 1955 لحملة شجب مريرة من آلاف الفلسطينيين الغاضبين الذين طالبوا بحمل السلاح بعد الهجوم الإسرائيلي على مواقع مصرية وأهداف مدنية في غزة في شباط مما أدى الى مقتل 39 شخصاً. واحدث الغزو الإسرائيلي للسويس، والذي تم بعد 18 شهراً من الهجوم الإسرائيلي على غزة، مظاهرات جماهيرية في عشرات العواصم العربية من الظهران الى بيروت والقاهرة والجزائر. وبعد فترة وجيزة من نزول القوات الأمريكية في لبنان عام 1958 أُسقطت الأسرة الهاشمية في العراق بانقلاب دموي قاده العميد الركن عبد الكريم قاسم. وأصبحت القومية العربية الراديكالية كما لو أنها الخبز اليومي للجماهير، وباتت الأنظمة العربية القائمة مهددة بالسقوط نتيجة انقلابات عسكرية أو تحركات جماهيرية.
على أية حال كان واضحاً أن العديد من العرب اعتقدوا أن يوم التحرر من بقايا الاستعمار بات وشيكاً، بينما واقع الحال كان يشير الى أن المنطقة تمر في مرحلة جديدة من الهيمنة الغربية ولكن بصورة غير مباشرة، أو بكلمة أخرى تخضع "للاستعمار الجديد" وكان أهم تطور في تلك المرحلة هو التوسع الكبير في إنتاج النفط في الخليج العربي.
أدى هذا الازدهار النفطي الى توسع مدن أخرى في المنطقة نتيجة تدفق الواردات وفتح شركات جديدة لخدمة حقول النفط، وإنشاء مصاف للنفط وموانئ لتصديره على شواطئ المتوسط، والازدياد الكبير على طلب المواد الاستهلاكية. فبيروت مثلاً، شهدت نمواً ملحوظاً بعد هزيمة 1948 مباشرة، إلا أنها أصبحت منذ أواسط الخمسينيات وما تلاها مركزاً رئيسياً للتجارة من والى الخليج، وباتت محطة رئيسية لإعادة تدوير أموال النفط العربي.
وأضحت عمان، والتي كانت عشية هزيمة فلسطين بلدة صغيرة، مدينة رئيسية وفرت فرص استثمار جديدة للفلسطينيين الذين يملكون رأس المال اللازم وخصوصاً في أوائل الخمسينات ومن ثم في الستينات والسبعينات عندما تزايدت إمكانيات الاستثمار بسبب تدفق الأموال المرسلة من الفلسطينيين العاملين في الخليج الى عائلاتهم في الضفة الغربية وشرقي الأردن.
بالنسبة لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذين فقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم عام 1948 كانت هذه البلدان بمثابة احد أبواب الأمل أمامهم. ولكن الفرص الجديدة التي منحها استثمار النفط العربي وتدفق رؤوس الأموال الغربية لم تكن متساوية لكل الفلسطينيين، فبالنسبة لأكثرية الفلسطينيين وبخاصة أولئك الذين يعيشون في المخيمات والضواحي الفقيرة للمدن داخل البلدان المجاورة لإسرائيل لم يؤد الثراء النفطي إلا الى ارتفاع أجور البيوت وغلاء المعيشة وتشتت العائلات، ذلك أن أبناء العائلات الفقيرة كانوا يهاجرون الى الخليج ليعملوا في الأشغال ذات الأجور المتدنية، أو يذهبون الى المدن الكبيرة في لبنان وسوريا والأردن. من ناحية أخرى استطاع الفلسطينيون من أصحاب رؤوس الأموال والمؤهلات العلمية الحصول على وظائف ذات دخول عالية في الشركات الأجنبية، أو في الوزارات والمعامل الخاصة في دول الخليج. أو استطاعوا الاستقرار خارج المخيمات: في بيروت وعمان والقاهرة والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
بعد الهزيمة بثلاثين عاماً تشكلت طبقة جديدة في المجتمع الفلسطيني قوامها الفلسطينيون الذين تمكنوا من تحويل رؤوس أموال كافية للبدء بأعمال جديدة خارج فلسطين، وأولئك الذين تمكنوا من الإقامة في الخليج، ومن كان لهم دور في التطور الاقتصادي السريع الذي طرأ على البلدان العربية الرئيسية. تعطينا الأرقام عن عدد الفلسطينيين المقيمين في الخليج عام 1970 (وهي أول سنة تظهر فيها مثل هذه الإحصائية) فكرة أولية عن حجم هذه الطبقة الجديدة. تظهر هذه الإحصائية أن 189 ألف فلسطيني يعيشون في دول النفط العربية مثل العراق والعربية السعودية والكويت وقطر وإمارات الخليج وأن 5000 آخرين استقروا في ليبيا ليصبح الرقم الإجمالي 194 ألف، أي حوالي 6.6% من مجموع الشعب الفلسطيني.
وفي العام 1980 ازدادت نسبة الفلسطينيين المقيمين في الخليج وليبيا لتصل 12.6% من مجموع الشعب الفلسطيني ككل، ضعف ما كانت عليه عام 1970.
البرجوازية الجديدة هذه تتشابه مع نظيرتها الأوروبيات في القرن التاسع عشر ببعض السمات إلا أنها تختلف عنها في أمور كثيرة مهمة، أهم هذه الاختلافات هو أنها تفتقد للأرض والممتلكات العقارية والمصانع، والاهم من هذا كله أنها تفتقد قاعدة أرضية- دولة- لتعمل فيها. نتيجة ذلك ترافق تأييدها العلني النمط الغربي للتطور الرأسمالي والاستثمار الحر مع دعم العمل السياسي ذي الطبيعة الراديكالية أكثر مما كان سائداً لدى البرجوازية الأوربية، بالتحديد لجهة مساندتها للكفاح المسلح وحرب الشعب. (مفارقة)!
رغم أن بعض أعضاء هذه الطبقة وبخاصة الذين شكلوا الانتلجنسيا الجديدة في الستينات، دعوا الى التغيير الاجتماعي الجذري داخل المجتمع الفلسطيني وفي العالم العربي أيضاً، فإن أغلبيتهم حددت دعمها للمنظمات الفلسطينية التي أعلنت عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية(بالتحديد فتح).
سنستعرض فيما يلي أصول البرجوازية، نموها في الخمسينات والستينات، وتحالفاتها مع الطبقات الأخرى في المجتمع الفلسطيني وعلاقاتها مع نظيراتها العربيات منذ عام 1948 وحتى أوائل السبعينات- لحظة اندلاع الحرب الأهلية في الأردن. من الجدير بالذكر أن سياسة التسوية لم تكن تطرحها في السابق سوى بقايا الارستقراطية الفلسطينية التي عاشت في الضفة الغربية والأردن.
تحويل رؤوس الأموال:
لم تكن فلسطين عام 1948، ذلك البلد المتخلف والمتأخر كما صورتها الحركة الصهيونية. فقد أدى الازدهار العمراني، والتطور السريع في مجال الصناعة، وتدفق رؤوس الأموال الناجم عن الوجود العسكري البريطاني فترة الحرب العالمية الثانية، الى نمو اقتصادي واضح ووصول مستوى الدخل الى درجة لم يسبق لها مثيل بالنسبة لكل طبقات المجتمع الفلسطيني ومن ضمنها الفلاحين الذين يملكون الأرض التي ارتفعت أسعارها ارتفاعاً كبيراً، هذا إضافة الى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية. وبينما أُنفقت معظم الأموال التي تدفقت إلى المناطق الريفية على بناء المدارس والمستشفيات والعيادات.
وبالمقابل مال التجار والحرفيون في المناطق المدينية، وخصوصاً الساحلية منها، الذين استفادوا من الازدهار الذي رافق الحرب، إلى استثمار جزء كبير من أموالهم كمدخرات في البنوك في الوطن والخارج- بشكل أساسي في بريطانيا- وفي شراء الأسهم والسندات والقيود وأشكال أخرى من الأوراق المالية التي أصبحت متوفرة في فلسطين نتيجة تداخل اقتصادها بالسوق العالمية. لايوجد لغاية الآن تقدير كامل لرأس المال الفلسطيني في الداخل والخارج لحظة إقامة دولة إسرائيل – وقد لايعرف أبداً بسبب إتلاف الوثائق أثناء الانسحاب البريطاني والغموض الكبير الذي يحيط بمسألة "التعويض" للفلسطينيين الذين أُجبروا على الفرار- ولكن يمكن التوصل الى بعض التقديرات للثروة والممتلكات الفلسطينية من المعطيات التي قدمتها حكومة فلسطين للجنة التقصي الانكليزية- الأمريكية في العامين 1945 و1946. والأرقام هي تقديرات تقريبية فقط، ولاتتضمن الممتلكات العربية من المباني المدنية والاستثمار في تحسين هذه المباني، إن ملكية رأس المال في فلسطين 1945 بلغت (132.6) مليون جنيه والأرجح أن الرقم الفعلي أعلى من هذا، وتراوحت قيمة الأملاك العربية في القسم الفلسطيني الخاضع للسيطرة الإسرائيلية بين 500 مليون دولار و3 بليون دولار أمريكي وذلك حسب التقديرات المختلفة، ومن بين مبلغ 60 مليون جنيه فلسطيني في التداول في فترة الهزيمة (نكبة 48) انتقل 27 مليون جنيه فلسطيني منها الى حكومة إسرائيل لتحولها الى عملة إسرائيلية، وبقي مبلغ 12.5 مليون جنيه فلسطيني في المناطق العربية من فلسطين، وادخل من المبلغ المتبقي ما يقدر بمبلغ 10 مليون جنيه فلسطيني الى الأردن- حيث بقي الجنيه الفلسطيني هو العملة الرسمية هناك حتى عام 1950-و3 مليون جنيه فلسطيني الى لبنان، و1.5 مليون الى سوريا، و100 -200 ألف جنيه فلسطيني الى كل من مصر والعراق.
لا تتوفر أرقام دقيقة للودائع البنكية ولكن يمكن معرفة المبالغ التي حولت من دراسة أجراها عدد من البنكيين المعنيين في أوائل الخمسينات. قدرت الدراسة أن المودعين الذين لجأوا الى الأردن حولوا ما يقارب من 10 مليون دينار أردني (10 مليون جنيه فلسطيني).
ففي نهاية آب عام 1956 بلغ مجموع المبالغ المحررة التي أعطيت للفلسطينيين 2.633.175 جنيه إسترليني. الجزء الأكبر من هذه المبالغ وهو1.6 مليون جنيه إسترليني ذهب للفلسطينيين في الأردن، وحصل الفلسطينيون في لبنان على 700 ألف جنيه إسترليني. وأعطيت مبالغ اصغر لأصحاب الحسابات المقيمين في سوريا ومصر وبلدان عربية أخرى. إضافة الى ذلك حرر مبلغ آخر وهو25.516 جنيه فلسطيني في الفترة بين آب 1956 الى 1958، مما أوصل مجموع ما حرر 2.660.000جنيه إسترليني.
استثمر جزء لابأس به من المبالغ المودعة بالإسترليني والسندات والودائع التي تم تحويلها في الأراضي والأملاك العقارية المدينية أو بناء البيوت السكنية الخاصة في شرق الأردن. أما في البلدان العربية المضيفة الأخرى مثل سوريا ولبنان ومصر ودول الخليج فإنه كان صعباً على الفلسطينيين التملك بسبب عدم حصولهم على جنسيات تلك البلدان وبسبب القيود التي وضعتها حكومات تلك البلدان على تملك الأراضي والأملاك العقارية، مما أدى الى استثمار الأموال الفلسطينية المحولة الى تلك البلدان في منشآت محلية أو إقامة شركات فلسطينية جديدة. فمثلاً استغل يوسف بيدس- موظف بنك سابق وصراف أثناء فترة الانتداب- الأموال التي حصل عليها زملائه من المبالغ المحررة من بنك باركليز وأموال أخرى حصل عليها بعد سقوط الجنيه الفلسطيني للبدء بعمل صرافة جديد في بيروت، تحول فيما بعد الى بنك يملك ملايين الدولارات وشركة لها عملياتها على امتداد العالم العربي وأجزاء من أوروبا.
أما عائلة طوقان في نابلس فقد استثمرت أموالها لتوسيع عملياتها في شرق الأردن ولإنشاء مجمعات صناعية مثل شركة الزيوت النباتية في الأردن، وقد ضم مجلس إدارة الشركة المذكورة عام 1964 أربعة من أغنى تجار نابلس وكذلك تجار وصناعيون من عمان.
وبالنسبة للفلسطينيين الذين كانوا يعملون في دوائر حكومة الانتداب، والذين تقاضوا قيمة تقاعدهم وتعويض الحرب بالجنيه الإسترليني، فإنهم إما أنشأوا شركات سفر وتجارة صغيرة في العالم العربي وأوروبا، أو فتحوا مكاتب مختلفة التخصصات ( المحاماة والمحاسب وغيرها)، أو أنفقوا أموالهم على تعليم أبنائهم في الجامعات الأمريكية والأوربية.
لقد اتخذت معظم الشركات الموجودة في فلسطين قبل 1948 والتي ملكها أفراد أو أسر أو شركاء شكل الشركات المساهمة المحدودة، وبعد النمو السريع لهذه الأشكال من الشركات في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، تمكنت هذه الشركات بسهولة من نقل أموالها الى الخارج. فمثلاً الخطوط الجوية للشرق الأوسط التي أسست عام 1943، وشركة التأمين العربية أعادتا مزاولة نشاطهما في لبنان بعد هزيمة 1948. وفي نهاية الخمسينات عندما شهدت الشركتان نمواً ملحوظاً في أرباحهما وازداد عدد المساهمين فيهما انضم إليهما عدد من أغنى الفلسطينيين في العالم العربي.
وهناك فلسطينيون آخرون أمثال فؤاد سابا الذي ضمت شركته للمحاسبة مكاتباً فرعية في سوريا وشرق الأردن ولبنان وفلسطين، وأسس عدد من أفراد عائلة شومان البنك العربي في فلسطين عام 1930، واستطاعوا في أواخر الأربعينات نقل مقر البنك من القدس الى عمان، بعد سلسلة من الإجراءات الجريئة التي تضمنت تهريب الوثائق والخزائن والأموال النقدية وحسابات البنك.
إضافة الى تحويل المبالغ الإسترلينية والسندات والودائع البنكية والأسهم والتأمينات الى الخارج تمكن العديد من الفلسطينيين من أن يخرجوا معهم وينقلوا كميات من الذهب والمجوهرات والنفائس الأخرى والأدوات الزراعية والماشية ومفروشات البيوت. ويستطيع المرء أن يجزم أن هذا النوع من المال لم يستخدم بالاستثمار أو الصناعة، بل كانت الأمهات تبعنه قطعة وراء أخرى لإطعام عائلاتهن خلال سنوات اللجوء الأولى.