رسمٌ بسيطٌ لفكرةٍ كبيرةٍ مع تعليقٍ ساخرٍ أو دونه؛ يختصرُ عشراتِ الصفحات ويسفر عن ابتسامةٍ واسعة، ذات معانٍ كبيرة؛ لتسكنَ ذهنَ الإنسان، وتجبرَهُ على التفكير فيما هو داخلُ دائرةِ الواقع، وتدعوَهُ إلى تشكيل الدائرة من جديد؛ بفكرٍ وعقلٍ منفتحينِ من أجل واقعٍ أفضل.. هذا ما يمنحُ الكاريكاتير الأهميّة، ويجعله الفنّ الذي لا مثيلَ له...!
وكذا، فهو يعدّ من أصعب الفنون، كونه القادرَ على إيصالِ الفكرةِ والحدثِ بطريقةٍ مبسطةٍ؛ ليثيرَ الجدل؛ إنّه فنُّ السهلِ الممتنع. وخلالَ عمرِهِ الطويلِ احتلَّ مساحةً مهمّةً ومكانةً يستحقُّها لقدرتِهِ على اختزالِ كمٍّ هائلٍ من المشاعر والمواقف في مشهدٍ واحدٍ يعتمدُ على التكثيفِ البصريّ والمعالجةِ الغرافيكيّة، ويستخدمهما أدواتًا لاستنفارِ مخيّلةِ القارئ، وإشراكِهِ في العملِ الإبداعي.
يراقبُ الكاريكاتيرُ زلّات السلطة (مطلق سلطة) وهفواتها، سواءً المقصود منها أو العفوي، التي تتمثّلُ في القراراتِ والمواقفِ المتخاذلةِ المتّخذة، في اللحظاتِ الحيويّةِ الفارقة؛ فتصبحُ من أخصب الموضوعات الكاريكاتيريّة، ومن ثَمَّ تطرحُ السلطةُ وتسوّقُ مبرّراتٍ كثيرةٍ مُشكّلةً بمجموعةٍ من العوامل والمسبّبات تبدو خارجَ كيانِ السلطة، ومدعّمةً بالوسائط الاتّصاليّة الممكنة والمؤثّرة كافة، ومن ثَمَّ تتشكّلُ منها مجموعةٌ من الصور الذهنيّة المتخيّلة عند العامة، التي تتلاعبُ بعقليّةِ المتلقّي لتصلَ هدفَها. ويصحُّ هنا أنْ نطلقَ على هذه المبّرراتِ اسمَ "مجال التعمية"، حيث مستنقعُ الدلالات الخادعة، فهذا المجالُ يقومُ بمحاولةِ إبعاد المخيّلة والفكر عن مركزيّةِ الخلل الفعليّة، التي قد تكون في مجالٍ آخرَ كامنٍ (فساد، تآمر، خيانة، إهمال داخل كيان السلطة نفسه).
هنا يأتي دورُ الكاريكاتير، فيقومُ بعملِ تغييرٍ في مفرداتِ الواقعِ المعلنِ بعرضِهِ الأسبابَ الماورائيّةَ المكوِّنةَ للحدثِ أو الموقف، من خلال "أيقونةٍ" ذات أبعادٍ تعبيريّةٍ موجزةِ المعنى، وأكثرَ اختزالًا؛ حيثُ تقومُ بحذفِ هوامشِ التعميةِ وحواشي التضليل، التي تلعبُ لعبةَ المراوغةِ والتمرير، فهو يعضدُ محاولاتِ التمرّد البشري للخروج من المجال، ويقومُ بعمليّةِ تقليصٍ وغلقٍ لمجالِ التعمية من جهة، وفتحِ المجالاتِ الأخرى المضادةِ بعد إبرازِهِ للمركزيّةِ السببيّةِ للحدث، وبذلك يلعبُ لعبةَ تحويلِ اتجاهيه؛ الإدراك، وتعديل مسار الفكر.
يسهمُ الكاريكاتيرُ الناجحُ في توجيه متّخذي القرار السياسيّ بحقّ الشعب لصالح تحقيق أحلام البسطاء في الحياة الكريمة، وتحسين مستوى حياتهم.. فالكاريكاتيرُ صورةٌ من صور الخطاب الشعبيّ المختصرِ جدًّا في رسمِةٍ واحدة. لذا يعدُّ لغةً عالميّةً يعشقُها الكبيرُ والصغير؛ المثقّفُ وغيرُ المثقّف.. المتعلّمُ وحتّى الأميّ، ولكونه فنًّا ولغةً مشاغِبةً فهو بالفعل ثقافةٌ لها قوّتُها وتأثيرُها على تشكيل ثقافةِ الفرد والمجتمع، وهو فنٌّ ساخرٌ ناقدٌ مشاغب.. تتميّزُ لغتُهُ بجماليّتِها وقدرتِها على التكثيفِ والاختزالِ ممّا لا تستطيعُ أيُّ لغةٍ أخرى طرحَه، أو فنٌّ آخرُ تحقيقَهُ.. ويمتازُ بالوضوح والمباشرة واختصار الكلام، عدا عن أنّه يعدُّ سلاحًا للتنويرِ والتثقيفِ المجتمعيّ، كونه يحملُ رسالةً إنسانيّةً لا تقلُّ أهميّةً عن أيّ رسالةٍ أخرى؛ تهدفُ إلى تثقيفِ الناس بحقوقِهم المشروعة وسبل الدفاع عنها، والتحريض بالريشة لتطهير المجتمع من أشكال الاستعمار الذهني والفساد الاجتماعي، وهنا يمكننا أن نصنّفَ فنونَ الكاريكاتير العربيّة في اتّجاهين رئيسين:
الأوّل: من حيثُ الموضوعاتُ المطروحةُ التي يتناولُها الرسّامون بأبعادها الإنسانيّة الرمزيّة والوجوديّة - ذات الطبيعة الإيديولوجيّة - التي تعكسُ حقيقةَ واقعٍ اجتماعيٍّ معيّنٍ وقضايا سياسيّةٍ شائكةٍ ومظالمَ شتّى، وتدوينٍ بصريٍّ لمفارقاتٍ يوميّةٍ بين مختلِف طبقاتِ المجتمع وفئاته ونخبه وعامته، ومواقفهم ودورهم في هذهِ المفارقات، وما تحملُهُ الرسومُ من همومٍ ومشكلاتٍ معايشة ومنظورة في جميع أرجاء البلدان الناطقة بالعربيّة عمومًا.
الثاني: من حيثُ المعالجةُ التقنيّةُ وآلياتُ الحركةِ المرسومة، والمساحات الملوّنة المنتشرة على الورق، التي لا تخرجُ عن أحبار الرسم والطباعة التقليديّة والرسوم المنفّذة بواسطة برامج الحاسوب، وتعكسُ روحيّةَ كلِّ فنانٍ وأسلوبَه، بما يحملُهُ من خصوصيّةِ البحث والتجريب والتأليف ومساحة أفكاره وحريّته وتفرّده في ميدانه.
فالصحافةُ بكلِّ أنماطِها وأنواعِها المكتوبةِ والمرئيّةِ والإلكترونيّة، خاصّةً وسائل التواصل الاجتماعي، هي مجالٌ حيويٌّ للكاريكاتير، فلا حياةَ ولا انتشارَ ولا فعاليّةً لفنِّ الكاريكاتير خارجَ أبوابِها؛ فالقضيّةُ الفلسطينيّةُ ومسألةُ الصراعِ العربيّ الصهيونيّ مثلًا، كانت هي الشغلُ الشاغلُ للأمّةِ العربيّة؛ شعوبًا وحكّامًا ومؤسّساتٍ مدنيّةً وأهليّة، مفتونةً بشعاراتٍ حزبيّةٍ وعربيّةٍ كبرى، كلٌّ بحسب رؤيتِهِ السياسيّة والمطلبيّة. وقد كان لفنّ الكاريكاتير الواجهة الملائمة للتعبير عنها، وقد أُنيطَ به حملُ لوائها، ليؤدّيَ دورًا مهمًّا ووظيفةً تحريضيّة، تعملُ على رصد الأحداث والمواقف وتعريتها بعين الفنّان البصيرة والناقدة، وانعكاسًا طبيعيًّا معبّرًا عن هموم الشعب ومتطلّباته وأحلامه، وتجسيدها في حلولٍ شكليّةٍ بصريّةٍ مفهومةِ الخطوط والألوان والكلمات، بوصفِ أنّ فنَّ الكاريكاتير - في عالمنا العربي - هو فنُّ الضرورةِ الاجتماعيّة والمواقفِ السياسيّةِ المعبّرةِ عنه بصريًّا، ولكن بتبسيطٍ شكليٍّ واختزالٍ ملحوظين، وبوابةٍ مفتوحةٍ على حروب الكلام والشعارات الكبيرة والدخول في مساحة الكوميديا السوداء النقديّة، والمنتقدة لسلوك القادة والحكّام وسوء أفعالهم فترة ما سُمّي بالربيع العربي، والمبرّرة لتذمّر الجماهير وحركة الشعوب في مطالبها الحقّة في الحريّة والعيش الكريم؛ نجد في واحة رسومها اختصارًا للزمن والمواقف وخلفيّات الدول والأفراد والشخصيّات، وكشفًا رمزيًّا لتبعيّتهم وميولهم السياسيّة الحزبيّة والطبقيّة الوطنيّة أو القوميّة أو العالميّة، أمّا بعد الربيع العربيّ، فقد أصبح اهتمامُ الفنّانين بقضايا بلدانهم التي لا تقلّ همومُها ومشاكلُها أهميّةً بالنسبة لهم عن القضيّة الفلسطينيّة، التي أخذت رسوماتُ الكاريكاتير بالتراجع شيئًا فشيئًا؛ وذلك يعود إلى ظروف الحروب والتهجير والتشريد والقتل التي تمرّ بها بلدانُ الربيع العربي، عدا عن تراجع التعاطف مع القضيّة الفلسطينيّة بعد الانقسام الفلسطينيّ - الفلسطيني، وما يتابعُهُ المتلقّي العربيّ من ردحٍ على الشاشات، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على فناني الكاريكاتير الفلسطينيّين قبل العرب، فهم أنفسُهم يحملون مواقفَ – حزبيّةً – خاصة؛ عدا عن خوفهم على مستقبلهم ومستقبل أولادهم، في حين أنّ هناك قضايا أهمّ بكثيرٍ من المناكفات؛ أهمُّها: الاحتلالُ وما يقترفُهُ من حروبٍ وهدمٍ وقضمٍ واقتحاماتٍ متكرّرةٍ وتهجيرٍ للسكان وقطع الأشجار والاستيطان.. عدا عن قضيّة حي الشيخ جرّاح في القدس وغيرها... ما جعل فناني الكاريكاتير العرب ينأوْا بأنفسهم عن الخوض في غمار مشاكل الفلسطينيّين الداخليّة.. فهي ليست أولى اهتماماتهم... عدا عن عدم وجود وسائل إعلامٍ فلسطينيّةٍ مستقلّةٍ وحرّة، وحالة الفساد المستشري التي يعلم بها القاصي والداني، وكذا، قمع المعارضات السياسيّة ومحاربة وسائل إعلامها. ومن جهةٍ أخرى، ما أقدمت عليه العديدُ من الدول العربيّة من تطبيعٍ مع الاحتلال وتبادلٍ تجاريٍّ وسياحةٍ معه.. وغيرها، مما عزّز حالة الفتور في العلاقات العربيّة الفلسطينيّة، التي بدورها انعكست على فناني الكاريكاتير.
قديمًا، كان فنُّ الكاريكاتير العربيّ يعكسُ ويعبّرُ أكثرَ عن مزاج الشارع المتناقل عبرَ الأروقة والأزقّة والأحياء، من المحكي الشفهي، في الأماكن العامة، إلى المسرود البصري عبر خطوط الفنانين التشكيليّين، ومدى تفجّر قرائحهم في تصوير تلك النوادر والحكايات بطريقةٍ فنيّةٍ مغايرةٍ لمألوف الرسم الأكاديمي، وكان الهمُّ اليوميُّ ومشكلاتُ الأسرة في الكسب ومشاكل الأزواج وصراع الطبقات وحديث النساء.. وغيره، من أهمّ العناوين المطروقة. كلُّ هذا وغيرُهُ كان من أكثر الموضوعات الساخنة التي كانت تلقى رواجًا، أمّا اليوم فقد انتقل الكاريكاتيرُ مرّةً أخرى؛ وتحديدًا بعد ما سُمّي بالربيع العربي وانعكاساته على الشعوب العربيّة - ليعبّرَ عن حالةٍ من المزاج الشعبي المتقلّب، بعد أنْ دُمّرت بلدانٌ وتشتّت أهلُها وكثرت الجريمة.. الخ.
وبهذا انتقلت روحيّةُ الفكاهة البصرية لتتجاوزَ المطبوعات وصولًا إلى وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونيّة التي أصبح التعاملُ معها سلسًا وسهلًا، عدا أنّها أسرعُ انتشارًا وأوسع، فصارت الرسومُ الكاريكاتيريّةُ تحاكي الشارعَ العربي بلسانه - كما يفكّر – ممّا خلّف بديلًا عن التوجّهات الوطنيّة والقوميّة إلى الانقسامات والتشرذمات التي تعكس مشاغل الناس واهتمامهم ومكنوناتهم الحياتيّة ومعاناتهم اليوميّة؛ وبذلك خرج الكاريكاتير من طور الدعابة والتسليّة إلى طور العمل على بناء الفكرة والموقف من الأحداث الموجعة.
الرسالةُ الفعليّةُ للكاريكاتير لا تأتي إلا عندما يتوافقُ منطلقُ تقييم الصورة للحدث مع منطلق رؤية المتلقي، وبذا فكلُّ صورةٍ كاريكاتيريّةٍ لها إطارٌ فكريٌّ تنطلقُ منه، وفي النهاية ينتجُ صورًا كاريكاتيريّةً عدّةً لحدثٍ واحد، ولكن من زوايا مختلفة، بل وأحيانًا متعارضة.
فالصورةُ الكاريكاتيريّةُ هي رسالةٌ من الفنان إلى المتلقي في سياقٍ مشتركٍ قائمٍ على بِنية الواقع الذي يعيشانه معًا، ورغم أنّ الكاريكاتيرَ يستخدمُ الخطوطَ البسيطةَ في نقل المعنى والمضمون، إلا أنّ دورَهُ الأبرزَ يتجسّدُ في الدفاع عن قضايا حقوقِ الإنسان.
إنّ هذا الفنَّ بسيطٌ ومؤثّرٌ في آنٍ معًا فضلًا عن أنّه يتمتّعُ بخواصٍّ كثيرةٍ منها إظهارُ عيوبِ المجتمعِ في صورةٍ ساخرةٍ ممتعةٍ تدعونا إلى إحداثِ التغييرِ في ثوابتَ راسخةٍ متجذّرةٍ في الوقع، التي غالبًا ما تتطلّبُ التجديد.