Menu

التناقضُ الأساسيُّ في النظامِ العالميّ المعاصر

مجدي عبد الهادي

نشر هذا المقال في العدد 32 من مجلة الهدف الإلكترونية

ربّما لم يشهد العالمُ تحوّلاتٍ بالعمقِ والتعقيدِ الذي يشهدُهُ هذهِ الفترة، حيثُ تتداخلُ وجوهُ التقدّم مع التراجع، والفرص مع الأزمات، والتغيّرات النوعيّة الجديدة حقًا مع الممارسات القديمة في أوعيةٍ جديدةٍ لا غير، ولعلّ هذا ما يعقّد فهمَ تلك التحوّلات وتحليل المشكلات المرتبطة بها، التي تبدو مركّبةً ومتداخلةً بشكلٍ يعزّ على التوصيف البسيط والتصنيف المباشر، فما بين تراكمٍ هائلٍ في الديون العالميّة، وتصاعدٍ للتوتّرات التجاريّة واهتزازٍ لأوضاعِ عملةِ السيولةِ الدوليّة، وظهورِ أشكالٍ جديدةٍ غامضةٍ من العملات غيرِ الوطنيّة والأصول الماليّة الرقميّة... إلخ، تبدو التحوّلاتُ الاقتصاديّة والاجتماعيّة متشابكةً، واتّجاهاتُ النظام الاقتصاديّ والسياسيّ الدوليّ غيرَ واضحة؛ ما يجعلنا نعود بالتناقضات الكثيرة المتراكبة لأشكالها الأوليّة الأكثر أساسيّةً، كطريقٍ أسهلَ للفهم في ظلّ تلك الغابة من الظواهر، التي يصعبُ تناولُها في هذهِ العُجالة.

تناقضٌ تنطلقُ منهُ كلُّ الإشكالات!

لا يحملُ الصعودُ الصينيُّ تحوّلًا واحدًا في جعبته، بل تحوّلاتٍ عدّةً مجتمعةً ومتشابكةً تنطلقُ من تناقضٍ واحد، وهو ما يعقّد التحوّلَ التاريخيَّ الجاري، فهمًا على المستوى النظريّ، وإدارةً على المستوى العملي!

أمّا التناقضُ فهو ذلك الذي نراه فيما ما يمكنُ وصفُهُ "مجازًا" بالتناقض ما بين البِنية التحتيّةِ والبِنيةِ الفوقيّةِ للاقتصاد العالميّ. فبينما أصبحت الصينُ تمثّلُ القوّةَ الاقتصاديّةَ الأولى عالميًّا على مستوى الاقتصاد الحقيقيّ، بسيطرتها على ما يقربُ من ثُلث الصناعة العالميّة وحصة معتبرة من العلاقات التجاريّة، والتوغّل الاستثماريّ العيني..إلخ، لا تزال الولايات المتّحدة تمتلكُ مفاتيحَ الهيمنة الاقتصاديّة والسياسيّة العالميّة بسيطرتها على ثلاثيّة: (1) عملة السيولة الدوليّة (2) وقنوات توريد الطاقة ومنابع المواد الخام عالميًّا (3) والمنظّمات الدوليّة المُوجّهة لحركة الأموال والتصنيفات الائتمانيّة والعقوبات الاقتصاديّة وغيرها. إنّه التناقضُ التقليديُّ بين السلطة الاقتصاديّة، التي انتقلت للاعبٍ صاعدٍ متزايدِ القوّة، والسلطةِ السياسيّة التي لا يزال يحتكرُها لاعبٌ قديمٌ تضعضعت أساساتُهُ وخارت قواه، لكن على نطاقٍ عالميٍّ هذهِ المرّة، وبتعقيدٍ أكبرَ من أيّ حالةٍ سابقةٍ بالتشابك والتداخل في المصالح بين أطراف التناقض أنفسهم!

ينتجُ عن ذلك التناقض، ويرتبطُ به، التحوّل التاريخيّ في البِنيةِ السياسيّةِ والحضاريّةِ العالميّة، بتراجعِ الغرب إلى حجمِهِ الطبيعيّ ما قبل الثورة الصناعيّة، بتعافي الصين وعودتها لحجمها السابق المكافئ لوزنها الديموغرافيّ قوّةً عالميّةً، لكن هذه المرة دون عُزلة "إمبراطوريّة السماء"، بل باشتباكٍ وتوغّلٍ شاملينِ في أرجاء المعمورة كافةً، وفي جميع مناحي الحياة، ليتأكّدَ قولُ العديد من الخبراء بأنّ وضعيّةَ سيادةِ الغرب ليست سوى حدثٍ عابرٍ في التاريخ العالميّ، حتّى وإن اعتدناها عبرَ ثلاثةِ قرونٍ مضت، ولا غرابة في أن يصف البعض نهضةَ الصين بأنّها ليست صعودًا بقدر ما هي استعادةٌ لوضعها الطبيعي عالميًّا، فحتى أواخر القرن الثامن عشر كانت آسيا، وفي قلبها ومركزها الصين، تنتج نحو 80 % من الناتج العالمي .

وقد رتّب هذا التحوّل الكبير تناقضاتٍ في القيادة الدوليّة، وصراعًا بين الصاعد والهابط، بدأت تظهر معالمها في صراعاتٍ مكتومةٍ حينًا وصريحةٍ أحايينَ أخرى، وفي صعود تكتّلاتٍ عديدةٍ بدأت في مناطحة الغرب، ومنافسته جزئيًّا على الموارد والأسواق، أشهرها وأهمّها تكتّل دول "البريكس"، الذي تقوده الصين وروسيا.

مركزُ الصراع: الهروبُ من الدولار!

أمّا موضوعاتُ الصدام، فبعيدًا عن الصراعاتِ الظاهرةِ من تجارةٍ دوليّةٍ وأسعارِ صرفٍ وما شابه، فإنّ الصراعاتِ الحقيقيّةَ تتمحوّرُ حولَ أدواتِ القوّةِ في البِنية الفوقيّة، وعلى رأسها دور الدولار بالخصوص، كعملةِ السيولة الدوليّة السائدة، التي لا تزال تعطي أميركا مزيّةً اقتصاديّةً شديدةَ الاستثنائيّة، فضلًا عن مكاسبها كأداةِ هيمنةٍ سياسيّةٍ وآليّةِ تفاوضٍ خبيثةٍ مع دول العالم كافّةً تقريبًا، لا تتوانى أميركا عن الإفراط في استنزاف مزاياها، مركّزةً على مصالحها الضيّقة منها ولو على حساب العالم كلّه، ما تجلّت مظاهره الفجّة في جرعات التسيير الكمّي المتتالية، التي وصلت لذروتها مع أزمة كورونا، بدفقاتٍ تريليونيّةٍ من النقود السهلة والدولارات الرخيصة، بدأ العالمُ كلُّهُ يدفعُ ثمنَها حاليًّا، بإسهامها في موجات التضخّم المتصاعدة، التي توشكُ على تفجير أزمةٍ عالميّة، تتلظّى جذوتها تحت الرماد بالفعل!

فقد وصلت معدّلاتُ التضخّم العالميّة فعليًّا لأعلى مستوياتها منذ الأزمة الماليّة العالميّة عامَ 2008م، وبلغت معها توقّعات متوسط أسعار المستهلك الأمريكيّ على أساسٍ سنويٍّ نحو 5% (ما يُعدّ معدلاً مرتفعًا بالمقاييس الأمريكيّة)؛ ما سيجبرُ الحكومةُ الأمريكيّةُ مهما ماطلت على رفع أسعار الفائدة؛ بما له من آثارٍ سلبيّةٍ عالميّةٍ على اقتصادات الدول الناشئة والعملات الوطنيّة، فضلًا عن معدّلات التمويل، وهياكل الاستثمار واتجاهات المخاطر وتفضيلات المستثمرين..إلخ.

ويدعم المخاوف بشأن الأزمة، ما يمكن أن ترتّبه الفقاعةُ الحاليّةُ بأسواق المال الأمريكيّة، ومعها أسواقُ معظمِ دولِ المراكز الرأسماليّة؛ بسبب جرعات التحفيز المذكورة ذاتها وعوامل أخرى، فقد وصل مؤشّرُ “مُضاعف ربحية شيلر” The Shiller PE Ratio، الذي طوّره البروفيسورُ روبرت شيلر، الذي توقّع فقاعةَ الدوت كوم أوائل الألفية، وحائز نوبل الاقتصاد 2013م، لمستوى ٣٩.٥٨ نقطة في شهر نوفمبر الجاري، مُتجاوزًا متوسطه لآخر ثلاثة عقودٍ بما يقرب من 50%، بل تجاوز مستواه إبان آخر أزمةٍ ماليّةٍ عالميّةٍ عامَ 2008م، مُقتربًا بشكلٍ واضحٍ من أعلى مستوى له في تاريخِهِ كلِّهِ عبرَ قرنٍ ونصف، بمقدار 44 نقطةً عامَ 1999م، إبان فقاعة الدوت كوم، وهى الفقاعةُ التي تؤكّدُها ملاحظةُ شركة “أبسلوت استراتيجي” للاستشارات بأنّ أكثرَ من خمسين سهمًا، تمثّل أكثرَ من عُشر أسهم مؤشر “ستاندرد أند بورز 500، تتجاوز أسعارُها الحالية متوسّطات أسعارها للمئتي يومًا الأخيرة بأكثرَ من 40%؛ الأمرُ الذي لم يحدث سوى أربعِ مرّاتٍ فقط خلال ما يقرب من نصف قرن؛ الأمرُ الذي لا يمكن أن يدوم طويلًا؛ فعاجلًا أو آجلًا سيصفّي السوق تلك الفقاعات السعرية، ويعود بها للمتوسط المذكور!

ومع كلِّ هذا التأزّم، تعملُ أميركا يائسةً على احتواء الانفجار المتوقّع، الذي سيصيبُ بشظاياه الجميع؛ الأمرُ الذي يزدادُ تعقيدًا باستخدام أميركا لآليّاتٍ تضرُّ بالجميع، بل وبها هى نفسُها في الأجل الطويل، وحتّى دون جدوى حقيقيّةٍ على مستوى المعالجة الجذريّة، فمزيدًا من التسيير الكمّي وخفض الفوائد لتوفير النقود الرخيصة..إلخ من وسائلَ وسياساتٍ اقتصاديّةٍ "تنظيميّة" أو "تأشيريّة"، مما لا يمسّ ولا يغيّر بِنيةَ ديناميّات عمل الاقتصاد الأمريكي نفسه على المستوى الهيكلي، هو شيءٌ لن يحلّ جوهرَ المشكلة، ولا يفعل سوى التأجيل المُكلف للأزمة!

لا عجبَ في التوقّعات باستمرار ارتفاع أسعار الذهب في الأجلين؛ المتوسّط والطويل، باعتباره الملاذَ الآمنَ التاريخيَّ في ظلّ التدهوّر الحتميّ للدولار كعملةٍ لم تعد آمنةً كمخزن قيمةٍ مع السياسات غيرِ المسؤولةِ للفيدراليّ الأمريكي؛ ولا عجبَ أيضًا في الاتجاه المتزايد للبنوك المركزيّة في الدول الكبرى، وعلى رأسها الصين ذات الاحتياطيّ الدولاريّ الأضخم في العالم بأكثرَ من ثلاثةِ تريليونات دولار، لشراء الذهب والعقارات والأصول على مستوى العالم؛ كنوعٍ من التحوّط ضدّ الانهيار القادم للدولار! بل إنّ دفعات الصعود الخرافيّ المشهودة مؤخّرًا في العملات الرقميّة الغامضة، التي لا يملكُ ولا يعرفُ أحدٌ أيَّ أساسٍ اقتصاديٍّ واضحٍ لها، يمثّلُ أحدَ وجوه تلك الإشكاليّة؛ حيث يسعى الجميعُ لخلق بدائلَ تصلحُ وسائط تبادل ومخازن قيمة مستقبليّة للدولار المُهدّد، ما فتح معه إمكاناتٍ جديدةً لاقتصادات الجريمة الدوليّة وغيرها من أنشطةٍ عابرةٍ للحدود، كما قد يفتح البابَ مستقبلًا للتحرّر من سلطات البنوك المركزيّة المُسيّسة.

الدورةُ الخبيثةُ للصراع:

والغريبُ أنّ هذهِ الممارساتِ التحوّطيّةَ ضدَّ التدهوّر المُتوقّع للدولار، تسهمُ بذاتها في زيادة مهمّة أميركا في تأجيل الأزمة صعوبة، وتعجّل بتراجع الدولار، وتدهوّر وضعها العالمي؛ ما يزيد من الضغط عليها، خصوصًا مع تشبّثها الشديد بمزايا الموقع الدوليّ للدولار؛ ما يفاقمُ الصراعَ بينها وبين الصين وروسيا اللتين تسعيان تعزيزًا لتلك الممارسات التحوّطيّة، من خلال تكتلهما الشهير بريكس بالأخصّ، لتقليص دور الدولار في المعاملات الدوليّة، بزيادة اتفاقيّات المبادلات الثنائيّة المباشرة؛ بما ينقلُ المعركةَ لمدى أبعدَ ونطاقٍ أوسع، من مجرّد إيجاد بدائل للدولار كمخزنِ قيمة، إلى خلق بدائلَ له كوسيطِ تبادل، أي كعملةِ سيولةٍ من الأساس؛ ما يمثّل مكمنَ الخطورة الحقيقيّة على احتفاظه بموقعه.

يزيد هذا الضغوطَ على أميركا، بحيث تزداد تشبّثًا بتفوّقها العسكريّ وهيمنتها السياسيّة، باعتبارها القاعدةَ الأخيرةَ لاستمرار موقع الدولار العالميّ؛ الأمرُ الذي يعزّز - أوّلًا - الضغوطَ على الاقتصاد الأمريكي، ويدفعُ لاستمرار السياسات الاستنزافيّة للدولار والاقتصاد العالميّ، ويرفعُ تكاليف استمرار الإمبراطوريّة عمومًا، بحسب النظريّة الشهيرة لبول كيندي، كما يزيدُ - ثانيًا - من التوتّر السياسيّ المكتوم بينها وبين الأقطاب العالميّة الصاعدة؛ ما قد يدفع لصراعِ تسلّحٍ جديد، تبدو بوادرُهُ واضحةً في السياسة الروسيّة بالأخصّ، فضلًا عن تعزيزه للنزعات اليمينيّة والشعبويّة؛ سواءً داخل دول الخصوم أو داخل أميركا ذاتها.

الفرصةُ التاريخيّةُ لملحِ الأرض!

ورغمَ هذهِ المخاطرِ والضغوطِ والتوتّرات ما بينَ الأفيالِ العالميّة، التي ستطالُ برذاذِها حتمًا بقيّةَ دول العالم، تظلّ أكثر جوانب الصورة إضاءةً، هو ما يمكن لهذهِ التناقضاتِ أن تفعلَهُ من تفكيكٍ للتماسكِ الداخلي لمنظومةِ الهيمنةِ العالميّة، خصوصًا مع التوتّرات المتوقّعة بين الاتّحاد الأوروبيّ وأميركا نتيجةَ تفاقمِ تكلفةِ استمرار قيادة الأخيرة؛ ما يؤدّي بمجموعِهِ لإضعافٍ نسبيٍّ لهيمنة المراكز الرأسماليّة القديمة على الأطراف الرأسماليّة (ذلك الإضعاف الذي يسمّيه استراتيجيو الغرب فوضى النظام الدولي!)، قبل أن تمتلكَ المراكز الصاعدة الجديدة التي تسعى لاحتلال مواقعها القوّة الكافية لامتلاك ذات الهيمنة؛ ما قد يوفّر مجالًا أوسعَ من حريّة الحركة، والمناورة واللعب على التناقضات؛ لتحقيق بعض المكاسب لتلك الدول الطرفية على صعيد علاقتها بالمراكز، وإن لم يكن بالضرورة على صعيد خدمة تنميتها وتحرّرها الكامل من الهيمنة الإمبرياليّة، حيث يتوقّفُ ذلك - أوّلًا وأخيرًا - على توازنات القوى المحليّة المسيطرة وانحيازاتها ومصالحها، التي لا يزال أغلبُها مرتهنًا ومرتبطًا بالمراكز الغربيّة؛ الأمريكيّة بالأخصّ.