هناك أشخاصٌ استطاعت أياديهم أن تلامسَ السماء، رفضوا وجودَ كلمةِ المستحيل في قواميسهم، فأبدعوا وتميّزوا وشقّوا طريقَهم نحوَ الرّيادةِ والتفرّد، تحدّوا العقبات، ثابروا، كافحوا، وبعد مشقةِ الطريق الوعِر وعناءِ الرحلة الطويلة وصلوا غاياتهم؛ مؤمنين بأنّ التعبَ سبيلُ الوصول إلى الرّاحة، وأنّ حلاوةَ قطف الثمار تمحو مرارة المعاناة، ومن بين قصص نجاح الإرادة ظهرت قصّةُ نجاح الشابة الفلسطينيّة الرّوائية نهيل الشرافي، التي قهرت العجز، وبرهنت أنّ الإعاقة الحقيقيّة ليست إعاقةً في الجسد والجوارح، بل في العقول المتحجّرة والصلبة التي لا تنظر إلى النجوم وتسعى لقطفها.
نهيل وداعمها الأوّل:
الرّوائيّةُ نهيل الشرافي من مواليد قطاع غزة عام ١٩٩٠، من بلدة هربيا المحتلّة، حصلت على شهادتها الجامعيّة في آداب اللّغة العربيّة من الجامعة الإسلاميّة؛ واجهت الكثيرَ من الصعوبات منذ اللحظات الأولى في حياتها، حيث تعرّضت لنقص أكسجين أثناءَ الولادة؛ ما أثّر على حركتها ونطقِها فولدت بإعاقةٍ حركيّة، فكان قدرُها أنْ تكونَ في هذا المكان لتواجهَ نظراتِ المجتمع القاسيّة التي كانت تشعرُها دائمًا بأنّها مختلفةٌ عن جميع أفراد مجتمعها.
لم يقف هذا الاختلافُ حاجزًا أمامَ نهيل، بل كان دافعًا قويًّا لها لتكونَ مميّزةً عن أقرانها، وواصلت مسيرتها التعليميّة رغمَ كلّ الصعوبات، وكان سندُها في الحياة أمّها التي تعبت من أجل أن تحقّق كلّ أحلامها. دافعُ الإرادةِ كان الطريقَ لوصولها لما تريد بعد إصرارِ أمّها على الوقوف بجانبها دومًا، خصوصًا بعد فقدها لوالدها الذي كان يوصلها لمقاعد الدراسة وهي في سنّ السابعة، فتحمّلت أمُّها هذه المهمّة وحدَها.
شعرت نهيل بالمجهود الذي تبذلُهُ أمُّها من أجلها، فأخذت على عاتقها أن تكونَ عند حسنِ ظنّها، فانتهتْ من دراستها الجامعيّة بعد بذلِ كلِّ ما تستطيع، وبدأت بتطويرِ موهبتها في الكتابة بعد أنْ قالت لها تلك المراقبةُ التي كانت تساعدها في كتابة الامتحانات: "أسلوبك في الكتابة جميلٌ جدًّا"، لتبدأ رحلتها في تطوير موهبتها في الكتابة.
الرّوايةُ الأولى:
وخلال حديثها "للهدف" قالت نهيل "حصلتُ على العديد من الدورات التدريبيّة مع كتّابٍ معروفين من غزّة، كما بذلت جهودًا كبيرةً في قراءة الكثير من الكتب والروايات لأتعلّمَ كيف أبدأ، وبالفعل بدأتُ في كتابة أوّلِ روايةٍ لي، حيث كنت أكتبُ وأجمعُ الأوراقَ إلى أن أصبحت الأوراقُ بحجمِ رواية، كنتُ في قمّة سعادتي، هرعت إلى أمّي لأبشّرَها، وبدأتْ أمي تفكّر "كيف ننشر الرواية؟ وأين نذهب؟!".
وتابعت "توجهتُ إلى اتّحاد الكتّاب، والتقيتُ بالروائي سليم عشيان وأطلعته على روايتي التي حملت عنوان "الانتظار"، ليبديَ إعجابَهُ الشديد بها، تركت الرواية هناك على أمل أن تتحقّق الأحلام بنشرها، وبالفعل كان ذلك حيث تواصلت معي دار النشر سمير منصور لتوقيع عقد معها من أجل نشر روايتي".
وأضافت "لقد كان توقيع روايتي الأولى بمثابة تنهيدةِ الانتصار بالنسبة لي، أثبتُّ للجميع وقتها أنّه لا شيءَ مستحيل. كانت النظرات قد بدأت تتغير تجاهي؛ ما بين نظرةِ فخرٍ واعتزازٍ واستغراب، لكن في النهاية حقّقت ما أريده وما كان من الجميع إلا أن يصفق لي على هذا الإنجاز".
كنفاني وأثره الممتدّ:
وفي معرض ردّها على سؤالٍ حولَ كاتبها المفضّل قالت نهيل: "الكاتب الذي أعجبت به هو غسان كنفاني ، فحينما تقرأ لغسّان تشعرُ وكأنّه يعيشُ في قلبِ كلٍّ منا، ويحمل مأساةَ كلِّ إنسان، أردت أن أكونَ مثلَ غسّان، حتى وإن عجز لساني عن النطق كوني أعاني من صعوباتٍ في النطق، إلّا أنّ قلمي السيّال أنقذني لأعبرَ عمّا يجولُ في داخلي بتجميع حروفي الصامتة بين ثنايا كتبٍ من تأليفي".
وأشارت الشرافي إلى أنّ مقولةَ كنفاني "أنّ الإنسان في النهاية قضيّة"، دفعها لتتّخذ من حياتها قضيّة، "فكان لا بدّ أن أغيّر نظراتِ الكثيرين، وأثبتُّ للجميع أنّني أستحقُّ وأنّني أستطيع".
قلمٌ منحازٌ لفلسطين:
وحولَ المواضيعِ التي تناولتها في رواياتها، أوضحت الشرافي أنّها تخصّ الوضع الفلسطيني، حيث تحدّثت روايتُها الأولى عن أحلام الكثيرين في قطاع غزّة المحاصر، وعن الأحلام العالقة على لوائح الانتظار، كما تطرّقت إلى المعيقات التي سبّبها الحصار، وكيف أنّ "العدوانَ أصبح أحد الجهات الأربعة لقطاع غزّة، وكيف أنّنا لا نحفر من أجل العثور على كنزٍ ما، إنّما نحفرُ من أجل العثور على ضحايا الحروب العالقة تحت ركام المباني".
أمّا في روايتها الثانية (حلم العودة) كتبت نهيل عن ذلك الحلم الذي يتمناه كلُّ فلسطينيٍّ شُرّدَ من أرضِهِ قسرًا، وعن مسيرات العودة التي كانت الوسيلةَ والفاصلَ الوحيدَ من أجل التذكير بأنّ العودةَ باتت قريبةً جدًّا، وأنّ مفتاح العودة الذي تحمله الجدّات في جيدهنّ لن يصدأ أبدًا.
وأردفت الشرافي: "الدافعُ وراءَ كتاباتي عن هذه المواضيع كوني فلسطينيّةً وعشتُ ما يحدثُ ولا بدّ من توثيقِ ما يحدثُ لنخبرَهُ للأجيال القادمة".
معيقاتٌ وحواجز:
وحولَ أثر الوضع الفلسطيني وأزماته الراهنة، قالت نهيل "الواقعُ الفلسطينيُّ لم ينصفنِ أبدًا ككاتبةٍ فلسطينيّةٍ، وخصوصًا أني كاتبةٌ من ذوات الإعاقة حقّقت ما لم يستطع أشخاصٌ دون إعاقةٍ تحقيقه، ربّما بسبب ما نعيشه من حصارٍ وقلّةِ إمكانات".
وتابعت "أبرز المعيقات التي واجهتها في مسيرتي في الكتابة هو عدمُ وجودِ دورِ نشرٍ داعمةٍ تكفلُ الكُتّاب وتحفظُ إصدارتهم، علاوةً على عدمِ وجودِ مؤسّساتٍ كافيةٍ تدعمُ وتكرمُ المواهبَ من أجل الاستمرار في مسيرة الكتابة".
وطالبت الشرافي بضرورة الاعتناء بالشباب المبدعين، والعمل على تطوير مهاراتهم بشكلٍ أكبرَ، وعمل دوراتٍ تدريبيّةٍ لهم، وإشراكهم في محافلَ دوليّةٍ ليكونوا لسانَ ذويهم في أنحاء العالم.
واستدركت القول: "لكن أستغربُ عدمَ قيام المؤسّسات سواءً مؤسّسات خاصّة بذوي الإعاقة، أو بالمرأة بشكلٍ عامٍ بدعمي بأيّ شكلٍ من أشكال الدعم، حيث إنّ إعداد حفل توقيع روايتي الأولى والثانية كان بجهدٍ ذاتيٍّ لم يتطلّع لي أحدٌ من هؤلاء، وللأسف لم يحضر الحفلَ سوى قلّةٍ قليلةٍ من هؤلاء الذين يدعون المناصرة والدفاع عن حقوق ذوي الإعاقة".
توجّهاتٌ وطموحات:
وعن توجهاتها في رواياتها القادمة، أفادت الشرافي أنّها ستتطرّقُ لقضايا المرأة بشكلٍ عام، وخصوصًا قضيّة العنف ضدّ المرأة، "حيث تنامت ظاهرةُ العنف بحقّها في مجتمعنا الفلسطيني، وبتنا نسمعُ بين الفينة والأخرى عن جرائمَ وصلت لحدِّ القتل".
وفي السياق ذاته، نوّهت الشرافي إلى أنّها تنوي تسليطَ الضوء على قضايا ذوي الإعاقة وحقوقهم في العيش بحياةٍ كريمةٍ وحصولهم على أبسط الحقوق التي تضمنها الأعرافُ والمواثيقُ الدوليّةُ المعنيةُ بحقوق الإنسان كافةً.
وأضافت "ربّما أتطرّقُ لكتابة كتابٍ يتضمّنُ سيرتي الذاتيّة منذ ولادتي حتّى آخر إنجازٍ لي، وكفاحي من أجل الوصول إلى تعويضٍ بسيطٍ لأمّي التي تعبت من أجلي".
وتابعت القول "مستمرّةٌ في تطوير قدراتي وموهبتي في الكتابة من أجل إصدار العديد من الكتب والروايات، ولدي طموحٌ كبيرٌ في المشاركة بمحافلَ دوليّةٍ وإصدار العديد من الكتب والروايات والحصول على العديد من الجوائز المحليّة والدوليّة".
تساؤلٌ مشروع:
لعلَّ قصةَ نجاحِ نهيل، تضعُنا أمامَ تساؤلٍ رئيسي، ترى كم من قصّةِ نجاحٍ أخرى كان يمكنُ لها أن ترى النّور في حالِ توفّر الدّعم والإسناد اللّازمين؟!
فوفقًا لبيانٍ صادرٍ عن الجهاز المركزّي للإحصاء الفلسطيني في ديسمبر 2019، يوجد 93 ألف فرد من ذوي الإعاقة في (الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة) فقط، ما يعني وجود 93 ألف بارقةِ أملٍ وتحدٍّ، في كلّ فردٍ منهم طاقةٌ هائلةٌ يمكن استثمارُها لبناءِ مجتمعٍ سويٍّ وقادر.