كشفت الانتخابات التشريعية الأخيرة في كولومبيا النقاب عن تحولٍ تاريخيٍ في الجمهورية التي خضعت للهيمنة الأمريكية منذ نشأتها.
وأظهرت نتائج الانتخابات التشريعية، يوم الأحد الماضي، أنّ الائتلاف اليساري "الميثاق التاريخي" حصد أغلبية المقاعد ممثلًا بـ17 عضوًا لمجلس الشيوخ و25 لمجلس النواب، مفرزًا أكثرية برلمانية يسارية لأول مرة في تاريخ البلاد.
بالإضافة إلى فوز المرشح اليساري عن "الميثاق التاريخي" جوستافو بيترو"بـ 80% من الأصوات في الاستفتاء الشعبي الأولي لرئاسة الجمهورية، ليصبح أقوى مرشح حاليًا لانتخابات الرئاسة في أيار/مايو القادم.
تاريخيًا، تُعد كولومبيا معقلًا استراتيجيًا للهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية. وحظيت الطبقة الأوليغارشية الحاكمة بدعم مفتوح من قبل الولايات المتحدة، عسكريًا وماليًا وسياسيًا منع بالقوة أي محاولة شعبية لتغيير الواقع السياسي في البلاد.
وأشهر مثالٍ على اغتيال الزعيم الشعبي المرشح للرئاسة خورخي ألييسر جايتان عام 1948م. إذ قام عنصر مجهول باغتياله في أحد شوارع بوجوتا، وهو محامٍ مدافع عن حقوق الفلاحين، ولإخفاء آثار الجريمة قام مجهولون آخرون بقتل القاتل.
لمع نجم جايتان عندما فضح المجزرة التي ارتكبتها الحكومة بحق عمال مزارع الموز المضربين شمال البلاد ليطالبوا بحقوقهم من شركة "يونايتد فروت كومباني" الأمريكية، والتي ثبت فيما بعد أنها تمت بالتنسيق مع السفارة الأمريكية والشركة نفسها.
صار جايتان بعدها المرشح الشعبي الأقوى والذي اكتسحت حركته الشارع، حيث كان يتجمع عشرات الآلاف لحضور خطاباته.
كان جايتان على موعد ظهر يوم اغتياله مع قائد طلابي شاب، كان في بوجوتا لينظم مؤتمرًا لممثلين عن الحركات الطلابية من بلدان أمريكا اللاتينية، تزامنا مع مؤتمر الحكومات الذي كانت تنظمه بنفس الوقت الولايات المتحدة في العاصمة الكولومبية لتأسيس منظمة الدول الأمريكية، وتحديًا له.
كان ذلك القائد الطلابي سيجتمع مع جايتان ليرتب مداخلته في الاجتماع الختامي للمؤتمر الطلابي، وكانت مداخلة جايتان ستعطي المؤتمر الطلابي زخمًا إعلاميًا كبيرًا على مستوى القارة في الوقت الذي كان الإعلام يركز فيه على مؤتمر الحكومات تحت رعاية الولايات المتحدة.
شاءت صدف التاريخ أن يكون اسم ذلك القائد الطلابي الشاب الذي سجل جايتان اسمه في مفكرة مواعيده ذلك اليوم إلى جانب ملاحظة (قائد طلابي من كوبا)، هو فيديل كاسترو.
كان اغتيال جايتان الشرارة التي أطلقت موجة العنف التي تحولت تدريجيًا إلى حرب أهلية استمرت أكثر من نصف قرن، وتطلب الأمر أربعين عامًا من المقاومة الشعبية بكافة أشكالها حتى استطاعت القوى الشعبية في نهاية السبعينيات أن تعود إلى السياسة عبر تحالف عريض عُرف بالاتحاد الوطني، الذي استطاع أن يفرز أكثر من مرشح يساري لرئاسة الجمهورية، تم اغتيالهم جميعًا في حملة اغتيالات مستهدفة ضد "الاتحاد الوطني" استمرت عشر سنين.
خلال تلك الحملة السرية تم تصفية الآلاف من كوادر ومنتسبي ومناصري الاتحاد الوطني، وكان صاحب الفكرة الذي أشار على المخابرات الكولومبية بتصفية الاتحاد الوطني عبر الاغتيالات المستهدفة، كما كشف الصحفي الكولومبي ألبيرتو دوناديو في كانون الثاني/ يناير من العام الماضي، هو جنيرال إسرائيلي صديق للرئيس الكولومبي آنذاك، اسمه رافائيل إيتان.
كان من ضمن ضحايا تلك المجزرة السرية الطويلة المرشح للرئاسة الكولومبية عن الاتحاد الوطني، خايمي باردو ليال، الذي اغتيل عام 1987، والمرشح اليساري لويس كارلوس جالان الذي اغتيل عام 1989 في تواطؤ تاريخي بين المافيا والحكومة الكولومبيتين، ومرشح ثانٍ للاتحاد الوطني، بيرنانردو خاراميليو اغتيل عام 1990.
ومرشح يساري آخر وهو كارلوس بيزارو ليونجوميز.
كان "بيزارو" قائدًا لحركة 19 إبريل المسلحة، الذي وقع اتفاق السلام مع الحكومة وأشرف على نزع سلاح مقاتليه مقابل المشاركة في إصلاحات دستورية اعترفت لأول مرة بحقوق السكان الأصليين، وأصبح بيزارو خلال ذلك من أقوى قادة اليسار وأوفرهم حظًا في التأييد الشعبي ومرشحًا للرئاسة، قبل أن يتم اغتياله.
بعد عقود من الحرب المفتوحة على جميع الجبهات، وفرت الغطاء السياسي والإعلامي للدولة الكولومبية لتواصل قتل وقمع كل الحركات الشعبية بما فيها الحركات الاجتماعية السلمية، قامت أقوى حركة مسلحة متبقية على الساحة، "القوات المسلحة الثورية الكولومبية - فارك" عام 2017 بتوقيع اتفاق سلام مع الحكومة ونزع سلاح مقاتليها.
ضمرت قوة "فارك" بعدها كثيرًا حتى اختفت عن الساحة تقريبًا، وتشتت أعضاؤها بين مقاتلين سابقين لم توف الحكومة لهم بما وعدت من مساعدات للاندماج في الحياة المدنية، فارين من العصابات اليمينية التي راحت تقتلهم لتصفية حسابات الحرب، وبين من ترك كل شيء وعاد إلى الجبال مقاتلًا، لكن هذه المرة بأعداد قليلة جدا وبلا قوة حقيقية.
كذلك تصاعدت في الأعوام الأربع الأخيرة عمليات الاغتيال والتصفية ضد القادة الاجتماعيين ونشطاء الشعوب الأصلية والسود والفلاحين والطلاب والحركات النسائية والنقابيين وحتى الحقوقيين والصحفيين، بالمئات، حتى أجزم كثير من المحللين أن الأمل في السلام والتغيير في كولومبيا ذهب ادراج الرياح.
لكن أمرًا آخر كان يحصل في الوقت نفسه. النهاية الرسمية للحرب الأهلية، بحل القوات المتمردة وتوقيعها السلام مع الحكومة، فتحت الباب أمام كل القطاعات الشعبية للانخراط في عملية إعادة بناء واسعة، حيث سلط الضوء عليها وعلى قضاياها من جديد وتضاعف نشاطها، ولم تعد اخبار الحرب والعمليات العسكرية هي مركز السياسة الكولومبية، بل كل القضايا الاجتماعية العالقة من ظلم وتهميش، والتي كانت منذ البداية هي أصل الحرب.
ويبدو أنّ الاغتيالات التي تضاعفت منذ توقيع اتفاق السلام، ما هي إلا محاولة من قبل الفئات المسيطرة في كولومبيا لكبح لجام عودة تلك الفئات الشعبية إلى الواجهة، خوفًا مما قد ينتج عن ذلك.
في ضوء ذلك، تأتي انتخابات، الأحد الماضي، لترسي قواعد تحولًا تاريخيًا ظلت قوى الهيمنية الأمريكية والأوليغارشية الكولومبية المرتبطة بواشنطن و"تل أبيب" وفي أماكن أخرى تمنع وقوعه، وعليه؛ لا يمكن التنبؤ بما سيحدث إذا فاز "بيترو" برئاسة كولومبيا في أيار/مايو القادم.