Menu

(الجزء 1)إسقاط الطائرة الروسية : كيف ولماذا ؟

القاذفة الروسية سوخوي 24

خاص_ بوابة الهدف

لا يحمل إسقاط الطائرة الروسية أي مفاجأة أو قيمة نوعية كفعل عسكري، وإن كان للحدث ما يقال فيه فهو حديث في الأبعاد السياسية للحدث وبالأخص للقرار التركي بإسقاط الطائرة.

مبارزة لم تحدث

الطائرة الحربية الروسية "سوخوي 24" هي طائرة قاذفة مخصصة لمهاجمة الأهداف البرية الأرضية، دخل طرازها الخدمة في القوات الجوية للاتحاد السوفياتي عام 1974م ، وتمتاز هذه الطائرة بالأساس بقدرتها على شن هجمات مباغتة على الأهداف الأرضية والقوات البرية ومواقع الخصوم، عبر قدرتها على الطيران بسرعة هائلة وعلى ارتفاعات منخفضة نسبياً، (القاذفة التي أسقطت أول أمس كانت تحلق على ارتفاع 6 كم وهو ارتفاع منخفض نسبياً).

والحقيقة البسيطة هنا هي أن أي طائرة مقاتلة في هذا الكوكب مهما بلغت رداءتها تستطيع إسقاط أي طائرة قاذفة مهما بلغت قيمتها وأهمّيتها؛ فالقاذفات لم تصمم للمعارك الجوية أو مواجهة الطائرات المعادية، بل لتضرب أهداف على الأرض، ولا تطير مثيلاتها عادة إلا بصحبة مقاتلات تتكفل بمهمة حمايتها من أي طائرات معادية، أو بعد ضمان خلو الجو من أي طيران منظومات دفاع جوي معادي، ففي ليبيا ً، مثلا، نظفت الصواريخ الجوالة بعيدة المدى ليبيا من أي منظومات صاروخية مضادة للطيران ودمرت مطارات ذلك البلد قبل أن تبدأ القوى الغربية في تسيير القاذفات لضرب الأهداف الأرضية.

بالتالي إن ما نناقشه هنا، ليس كيف تمكنت طائرتيّ "إف 16" تصنفان ضمن الجيل الرابع من بين أجيال الطائرات المقاتلة (أحدث الطائرات تعتبر ضمن الجيل الخامس)، من إسقاط طائرة قاذفة يجوز تصنيفها كطائرة من الجيل الثالث في أفضل الأحوال -من المفيد ذكر أن نظيرتها الأمريكية "إف 111" قد خرجت من الخدمة منذ سنوات طويلة-  ولا مجال هنا للحديث عن إنجاز عسكري تركي أو تفوق للسلاح الغربي على السلاح الروسي؛ فالطائرة قد سقطت فعلياً حين صدر القرار التركي بإسقاطها، وخلفيات القرار التركي وتداعياته هي ما يجب مناقشته هنا، عوضاً عن الانشغال بنتائج المبارزة الجوية المتخيلة التي تحمس لها الكثير من قطاعات الإعلام العربي.

تركيا عسكرياً.. بين الشرق والغرب

الجيش التركي الذي يعتبر أكبر جيش على الإطلاق تمتلكه دولة عضو في حلف الناتو في أوروبا، قد لعب وظائف أساسية في الإستراتيجية الغربية للمواجهة مع الاتحاد السوفياتي، إبان فترة الحرب الباردة، ليكون حائط الصد في مواجهة الحضور والتحالف السوفياتي مع سوريا، وكذلك تجاه اليونان التي كانت أحد البلدان المرشحة لسيطرة الأحزاب والقوى الشيوعية فيها، وكانت إحدى الدول المستهدفة بالخطط الغربية لمكافحة الشيوعية.

الدور الأهم للجيش التركي كان في منع وصول أي قوة غير صديقة للناتو للحكم في تركيا، وقد قام بعدة انقلابات في هذا الاتجاه استهدفت الاسلاميين تارة واليساريين تارة أخرى، هذا الدور سمح بتحول تركيا لمنصة صواريخ للناتو وكذلك محطة للقواعد الجوية، التي تعتبر قاعدة "إنجرليك" الجوية أكثرها شهرة؛ لما لعبته من أدوار كمحطة انطلاق للغارات في إطار العدوان الأمريكي المتكرر على دول وشعوب المنطقة.

الدور التركي في دعم المعارضة السورية المسلحة لم يكن للحظة معزولاً عن موقعها التاريخي، وسرعان ما تم القفز على السنوات القليلة للتقارب السوري التركي التي شهدتها المرحلة الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، فهذا الحزب لم يأتِ لينقلب على مصالح تركيا أو دورها، ولم يتخلّ عن دور تركيا ضمن المنظومة الغربية في التعامل مع المشرق، وإن عمل على تطوير هذا الدور بمدّ النفوذ التركي لمناطق جديدة أبرزها المنطقة العربية، وكذلك الامتداد لمنطقة التخوم الروسية في دول الاتحاد السوفياتي السابقة التي تحتوي على نسبة وازنة من الناطقين باللغة التركية.

باختصار، إن تركيا قررت توسيع نفوذها في مناطق تعتبرها روسيا جزءًا من مصالحها الحيوية.

ورغم تطور العلاقات، وخصوصاً التجارية، بين روسيا وتركيا في سياق السياسة التركية لتعزيز مكانتها إزاء شركائها الأوروبيين، إلا أن تركيا لم تغادر يوما المركب الغربي خصوصاً فيما يتعلق بالشؤون الإستراتيجية.

تركيا اليوم، تعتبر اللاعب الأكبر في الشمال السوري، ودورها لا يقتصر على السماح بمرور الأسلحة والمقاتلين لفصائل المعارضة المسلحة، بل يدير الأتراك جيش رديف تم تشكيله من هذه الفصائل تحت مسمى "جيش الفتح"، هذا بجانب أداتها الأكثر قرباً، وهي "الجبهة التركمانية"، التي تتكون من مقاتلين من الأقلية التركمانية في سوريا وتعمل عن كثب بإشراف تركي.

روسيا تدافع عن تخومها

روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي، وجوهر جهودها اليوم يمكن فهمه كجزء من محاولة للحفاظ على إمكانيات بقاءها وتطورها كدولة، بعد أن وصل زحف الناتو والمنظومة الغربية لجدرانها لا لمحيطها الحيوي فحسب، وعلى هذا النحو تصرفت روسيا إزاء الأزمة السورية، وخصوصاً تجاه الدور التركي في هذه الأزمة.

ورغم أن الهدف المعلن لروسيا من التدخل العسكري في سوريا هو محاربة "الإرهاب" وخصوصاً تنظيم "الدولة الإسلامية"، إلا أن اختيار منطقة الشمال السوري كساحة مركزية لعمليات الطيران الروسي وما ارتبط بها من عمليات برية على الأرض للجيش السوري وحلفائه؛ أوضح أن الهدف الأساسي لهذا الفعل بجانب إجبار الأطراف المختلفة على التسوية السياسية هو قطع الأذرع التركية في الأراضي السورية وأبرزها "جيش الفتح" الذي كان الهدف الأبرز للعمليات الجوية الروسية.

وقد جُوبه الدور العسكري الروسي بتحرك غربي مضاد تمثل في عمليات نقل سريع لأسلحة مضادة للدروع وأخرى مضادة للطيران، لفصائل المعارضة السورية في الشمال، لعبت كل من تركيا وفرنسا والسعودية و قطر الأدوار الأساسية فيه.

ولا يمكن وصف المشهد الميداني في الشمال السوري إلا بكونه مجموعة من العمليات العسكرية التكتيكية تلعب فيها روسيا دوراً أساسياً، للحد من تمدد فصائل المعارضة المدعومة من أعدائها الغربيين في الأراضي السورية.

لماذا اتُخذ القرار التركي بضرب الطائرة؟

منذ بداية العمليات العسكرية الجوية الروسية، حاول الأتراك وأطراف غربية أخرى، وضع خطوط حمراء أمام العمليات الروسية لحصرها في استهداف تنظيم "الدولة الإسلامية"، ولم تكن تصريحات الرئاسة الفرنسية التي طالبت الروس بعدم استهداف الجيش الحر وقصر قائمة أهدافهم على "داعش"، إلا في سياق هذه المحاولات، والتي تجاوزتها روسيا، وواصلت تركيزها على تحطيم قوة التنظيمات الأكثر ارتباطاً بتركيا، وقطع طرق إمدادها. الأمر الذي يعني استمراره، النجاح الروسي والسوري في حصر التأثير التركي في الساحة السورية، وإجبار الأطراف الغربية والمعارضة السورية على التفاوض بشروط جديدة.

نقطة الفصل بالنسبة للأتراك كانت في الضربات الجوية الروسية ضد "الجبهة التركمانية"، والتي تبعتها تحذيرات تركية متعددة لروسيا ومطالبات بعدم استهداف هذا الفصيل بالذات، وهو الأمر الذي لم تعطِه روسيا اعتباراً يذكر، بل وتم تصعيد العمل ضد هذا الفصيل إلى عملية برية تهدف للسيطرة على جبل التركمان، المحاذي للحدود التركية، والمعقل الأساس للجبهة التركمانية.

الطائرة الروسية كانت لحظة إسقاطها تقوم بمهامها القتالية كجزء من العملية العسكرية لطرد الجبهة التركمانية، واستعادة سيطرة الجيش السوري على جبل التركمان، كجزء من عمليات أوسع لمحاصرة دور تركيا وحلفائها القادم عبر الحدود التركية.

وإن كان حلف الـ"ناتو" وبريطانيا والولايات المتحدة لم تقدم أي دعم سياسي لتركيا في الخطوة التي أقدمت عليها، إلا أنه لا يمكن فهم القرار التركي بإسقاط الطائرة إلا في إطار الدفاع عن دورها وقواتها الرديفة في سوريا، واستمراراً في التصور التركي للصراع على المواقع التي شكلت التخوم للمعركة التاريخية بين الـ"ناتو" وخصومه.

ومن نافلة القول هنا، أن تركيا لم تذهب إلى هذا المدى من المواجهة  دفاعاً عن "دماء أهل السنة "، أو رغبة في دمقرطة سوريا، وكذلك إن مسألة سيادة تركيا على أجوائها من اختراق محتمل ببضعة أمتار لم تكن هي العامل الفاعل لحظة اتخاذ هذا القرار.

 وكذلك الحال، فإن روسيا لم تدفع بقواتها لإبقاء بشار الأسد في كرسي الرئاسة السورية، ولا ذوداً عن  التراب العربي في وجه التدخل الغربي وإن لهذا الحدث ما يتبعه .

يتبع..

الجزء الثاني: تداعيات الحدث