Menu

في متغيرات السياسة الدولية: عقم المراهنة على الدور الأمريكي

محمّد جبر الريفي

قصور الوعي السياسي عن أهمية إدراك قيمة المراهنات وكيفية إدراتها هو الذي جعل العقلية السياسية العربية، تستمر من مدة طويلة تراهن على الدور الأمريكي فقط، دون غيره من أدوار الدول الكبرى في حل قضايا المنطقة العربية والشرق الأوسط، وهذا ينسحب أيضًا على النظام السياسي الفلسطيني الذي عليه أن يراجع الآن حساباته ورهاناته في سبيل تحقيق هدف الحرية والاستقلال الوطني، وذلك بانتهاز فرصة؛ تشكل نظام دولي جديد: يقوم أساسًا على ظهور أقطاب دوليين جدد كروسيا الاتحادية التي ورثت الاتحاد السوفييتي السابق بكل قدراته، خاصة منها النووية، وكذلك جمهورية الصين الشعبية؛ أقوى دول العالم في المجال الاقتصادي، ْإضافة إلى هذين القطبين الكبيرين جمهورية كوريا الشمالية الاشتراكية؛ الأكثر تطرفًا في عدائها للولايات المتحدة، بسبب مسؤوليتها في تقسيم الجزيرة الكورية إلى دولتين: جنوبية موالية للغرب، وشمالية اشتراكية، وقد تعد كل من فيتنام وكوبا وفنزويلا؛ دولًا لها مكانتها السياسية في هذا النظام الدولي الجديد، بسبب أنظمتها الثورية المعادية للنظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي التي تقوده واشنطن، ويحدث هذا المتغير النوعي لأول مرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مترافقا ذلك الاصطفاف الدولي، في وقت يشهد فيه العالم تراجع في الهيمنة الأمريكية الكونية التي أبرزتها الحرب الروسية الأوكرانية، حيث كشفت هذه الحرب بجلاء عن تخاذل الولايات المتحدة في الدخول بدور فاعل في الحرب نصرة لأوكرانيا التي ولت وجهها نحو الغرب، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي التي كانت إحدى جمهورياته القوية، بل كانت تعد الجمهورية الثانية بعد روسيا، وكان تطلعها نحو الغرب الرأسمالي هو بدافع الرغبة في كسب عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي - الناتو، بقيادة واشنطن، كما فعلت قبلها بعض بلدان المعسكر الاشتراكي المنهار، كبولندا التي كانت عاصمتها وارسو مقرًا لحلف وارسو، وهذا الموقف الأمريكي المتخاذل بحد ذاته؛ يؤشر مستقبلا على عقم المراهنة على أي دور أمريكي في السياسة الدولية، وذلك لعدم قدرته على حماية الأصدقاء الذين يدورون حول فلك السياسة الأمريكية أو تقديم حلول عادلة للصراعات السياسية الإقليمية، ومنها مسألة الصراع العربي الصهيوني والفلسطيني الإسرائيلي.

لقد راهنت العقلية السياسية العربية على الدور الأمريكي في وضع حلًا عادلًا للقضية الفلسطينية وقضايا الشرق الأوسط، وكان ذلك بسبب تعليق الآمال على تطبيق نظرية ملء الفراغ التي صاغها وزير الخارجية الأمريكي فوستر دالاس في الخمسينات من القرن الماضي، واعتقادًا من الحكام العرب أنه لا يوجد إرث استعماري أمريكي في المنطقة، وهي بذلك ستمارس سياستها بخلاف سياسة كل من بريطانيا وفرنسا الدولتين الاستعماريتين اللتين كان لهما الدور الأكبر في إحداث عملية التجزئة السياسية الممنهجة للوطن العربي، كتقسيم بلاد الشام، عبر اتفاقية سايكس بيكو، وكذلك دور حكومة الانتداب البريطاني في نشأة الكيان الصهيوني في فلسطين؛ بتشجيع الهجرة اليهودية إلى ما تسميه الحركة الصهيونية العالمية بأرض الميعاد، تطبيقا لوعد وزير الخارجية البريطاني بلفور... وعلى إثر هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية؛ برزت الولايات المتحدة من دول الحلفاء كدولة عظمى في العالم لها حق الفيتو في مجلس الأمن، لذلك فهي معنية بإشاعة حالة السلام وتعميم الاستقرار الدولي، بحل النزاعات الدولية والإقليمية، وهي السياسة التي لم تعمل بها أصلًا، حيث احتلت جيوشها بعد ذلك أراض لدول في شرق آسيا، في كل من فيتنام وكوريا، غير أن ذلك كله لم يجعل العقلية السياسية العربية؛ تكف عن تعليق الآمال على واشنطن في وضع حل عادل للقضية الفلسطينية، من شأنه إشاعة حالة السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وذلك بما لها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الكيان الصهيوني، ولكن ذلك لم يحدث، حيث لم تمارس الإدارات الأمريكية المتعاقبة أي ضغوطات فاعلة، بل ازداد أكثر الانحياز الأمريكي ووصل إلى ذروته في عهد إدارة ترامب السابقة بالاعتراف ب القدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إليها، وهو الشيء الذي لم يقدم عليه أي رئيس أمريكي سابق، وهكذا ظل هذا الكيان العدواني الغاصب يمارس سياسة المراوغة والمماطلة والتعنت والصلف وعدم الاستعداد لتقديم مستحقات ما سمي بالسلام؛ متمسكًا بدلا من ذلك بالرواية اليهودية والتعاليم التوراتية، ولهذا السبب وصلت ما تسمى بعملية التسوية السياسية التي تقوم على مشروع حل الدولتين إلى تعثر ثم طريق مسدود بشكل دائم.