حسن معروف
الكتابة تأتي من منطقة يستوي فيها المذكر والمؤنث، تعتني في المقام الأول بالذات وتطلعاتها، لكن المشهور أن تغلب روح ما على النص، أو على مجموعة نصوص، أو على نتاج أديب ما كاملا، فيعمل قلم التصنيف على ضمه حسب اعتبار ما إلى مجموعة من الكتابات المشابهة، التي لا تخلو من فروق أيضا، حتى يسهل تناوله وتبويبه ونقده والتعرف إليه، دون النظر إلى تلك الفروق أهي متعلقة بالجوهر أم باللغة أم بالمقصد أم بالدافع، ما يُفقد النص أي ملامح تميزه.
حين أطلق العرب الضمائر للتعبير عن الذات والآخر بشكل مباشر جامع مانع، جاءت على ثلاثة أنواع، “المتكلم”، “المخاطب”، “الغائب”، ضم النوعان الثاني والثالث تفريقا بين المذكر والمؤنث “أنتَ، أنتِ، هو، هي، أنتم، أنتن، هم، هن”، لكن النوع الأول ساوى بينهما “أنا، نحن”، وذلك لأن المخاطب والغائب هو تعبير عن الغير، فعمل فيه التصنيف، أما المتكلم فهو تعبير الشخص عن ذاته، فتنتفي لحظتها كل علامات التذكير والتأنيث لأن وجودها لا يضيف جديدا، فـ”أنا” إنسان بما لي وما عليّ، والفارق بين كوني أنثى أو ذكر كالفارق بين كوني عربي أو أعجمي، طويل أو قصير، أبيض أو ملون، كلها شكليات لا تمس جوهري النفسي في شيء، حتى وإن كانت تؤثر فيه ويؤثر عليها، بينما تعبيري عن ذاتي يكون كلا موحدا من منبع واحد سواء كنت ذكرا أو أنثى.
الفروق بين المذكر والمؤنث في التعبير تلحق الحكم الوارد لا الحكم الصادر، “أنا متعبٌ/متعبةٌ”، الحكم هنا وارد من مؤثر خارجي، بينما “أنا أكلتُ” استوى فيها المؤنث والمذكر لأن الحكم صادر من ذات الشخص لا من صفاته المتباينة، ومن يقدم على التصنيف بين المذكر والمؤنث سيحتكم إلى النتائج أو المؤثرات فقط دون نقطة بدء الكتابة ذاتها، مثله كمثل الذي يصنف أدب الزنوج وأدب المنفى وأدب الحرب وغيرها، فهنا يقول الأدب النسوي وهو مطمئن، لأن هناك من سبقه إلى هذه الجريمة دون عقاب، لكننا لو عدنا قليلا وأنعمنا النظر في دافع الكتابة والمنطقة الأولى التي تخرج منها، سنجد أن هذه التصنيفات لا وجود لها، بل هي أمر سابق على الكتابة، فهذا نفي قبل أن يكتب وهذا سجن قبل أن يكتب والحرب اندلعت قبل أن يبدأ فلان روايته، وأيضا الأنثى ولدت أنثى قبل أن تكتب.
منطقة بدء الكتابة ـ التي تقع بين الفعل المؤثر ورد الفعل ـ هي منطقة حرة لا تقبل بالتصنيف ولا تعبأ بالقادم إليها سوى أنه ممتلك الأدوات، إنها منطقة مثالية لا تمارس عنصرية النقد والتمييز حسب اللون والعرق والجنس، لا أريد أن أطلق عليها اسما حتى لا يكون مفتتحا للمزيد من التصنيفات، يكفي توصيفها حتى يتم التعرف إليها. تسبق هذه المنطقة مؤثرات خارجية وتليها نتائج إبداعية تكون هي الجزء البارز الوحيد الذي يتعامل معه المتلقون، يمكن لهواة التصنيف أن يبدأوا عملهم من المؤثرات (زنجي، أنثى، ملون)، أو من النتائج (رومانسي، واقعي، فانتازي)، لكن يحرم عليهم العمل في هذه المنطقة، لأنهم لا يجدون مبتغاهم فيها من الفروق التي تتناسب مع شواهدهم وتأتي مفصّلة على مقاساتها، في حين أن الأولى أن تفصّل الشواهد على مقاسات الفروق.
تجريدية الفئران
تبدأ الكاتبة نادين أيمن في نصها “الفئران لا تفسد الوضوء” من نقطة يعتبرها الجميع “أنثوية” بحتة، لمجرد أنها تنتقد فيها تصرفات الآخر “الذكر”، لكن مَن وضع المقابلة؟ من أكد أنها تعني في النص الأدبي كما تعني في معامل التشريح؟ وما فائدة “النص الأدبي” إذا استوت فيه المدخلات والمخرجات؟
كان من الوارد أن تكون الكاتبة مثلية الجنس تشكو من رفيقتها التي هجرتها وزلزل الحدث كيانها حتى “أبدعت” لتصيغ أبعادا جديدة للتجربة، حسنا، سنقول إنها أنثوية، إذن لو كان الكاتب “ذكر” مثلي الجنس وحدث معه الموقف نفسه، مع حفظ جميع الاعتبارات الأخلاقية للمتلقي، كيف يمكن أن نقول إنها كتابة أنثوية لرجل هجره رجل؟
المخرج من الإشكالية أن نتعامل مع فئران نادين، لا مع “نادين”، وهنا نستطيع التحرك بسهولة داخل النص، بين جنبات تجربة “إنسانية” سردها الـ”أنا”، وقد صب الكاتب في “الفئران لا تفسد الوضوء” فلسفته البسيطة الرشيقة، التي تعد بداية تعرفه على مفردات واقعه، لم أجد بين جنبات النص ما يجعلني (كقارئ) لا أضع نفسي في موضع الكاتب.
حتى الزمن الأدبي لا يصنع الأنثى
يمكنك أن تلمس بين قصص جيلان الشمسي “صرخات أنثى”، لكنك لن تخرج حينها من النص إلا كما تخرج من مطالعة محاضر الشرطة التي تسجل العنف ضد الأنثى من الآخر “الذكر”، سواء كان زوجها أو أجنبيا، حتى وإن كانت القضية غرائبية التفاصيل، فإن انفعالك بها سيكون واقعيا جدا، بداية من التعاطف وحتى إصدار الحكم اللحظي، الذي يناسب بطبيعة الحال مفهوم “القصة القصيرة”، لكن تقييما حقيقيا لنص أدبي لن يكتب له الوجود هنا، بل هو بداية خاطئة في التناول أدت إلى نهاية خاطئة في التقييم اقتصرت على غاية “مفترضة” دون وسيلة واضحة متحققة في لغة النصوص.
نفترض أن الكاتب لم يوضح الهيئة الفيزيائية لبطل نصوصها اللحظية، فستسارع دون روية إلى طرح إشكالية “جنس البطل” التي ولدها لديك علمك بأن الكاتب “أنثى”، أو تقر مباشرة بأن البطل “ذكر” لمجردة أن أصل المصطلحات العربية نسبت للتذكير ثم خرج منها التأنيث بـ”علامات فرعية”، دع ذا والتفت إلى طرح قضية سردها الـ”أنا”، فإن هناك ما هو أولى من تحديد جنس البطل أيا ما كانت النتائج التي تترتب على هذا التحديد في توضيح هدف النص، فإن قصة “الاهتزاز التاسع” في مجموعة “يوما ما سأكون شمسا”، لها مدخلان “القهر” و”الذكرى”، لا تختص بهما الأنثى عن غيرها في كتابة “النص الأدبي”، فمن الوارد أن يكونا هذين المدخلين في عمل آخر لبطل “ذكر”، أما عن اختلاف وقائع “الاهتزاز التاسع” عن غيره، لو كان البطل ذكرا، فأمر محسوم لأنه لا يوجد نصان متفقين في وقائعهما أبدا، فالقصة تناقش فعل “القهر” في زمن “الساعة التاسعة” مع نفسية طفل ينمو وينشأ في وسط هذه المؤثرات، تركت مع تكرار “الاهتزازات” لبندول الساعة أثرا في نفسه انسحب على أغلب مواقف حياتها المصيرية في ما بعد، حتى وإن بدت بعض تفاصيل السرد وهي منسوجة على “أنثى” فلا أثر من قريب أو بعيد لذلك في بنية النص، ولا يجعلنا نحيل النص إلى “الكتابة الأنثوية” ـ أو “النسوية” ـ سوى الاستسهال في التوصيف والتسرع في التصنيف دون تعمل في مأتى العمل ومورده.
عندما تكتب .. فهي “أنا”
حسمت دينا سليمان في أولى قصص مجموعتها “اشتعال ذاتي” الأمر، ووحدت المذكر والمؤنث وأعلنت ميلاد “الضمير الثالث” أدبيا حين ختمت المدخل قائلة عن نفسها “تكتب أو هكذا تدعي، تقرأ وأحيانا تدعي، تفعل كل ما سبق وتزيد. لا رغبة في التخريب، ولا بحثًا عن التجديد المفتعل، هي فقط تبحث عن ذاتها… وإن كانت تفخر بشيء فلن يكون سوى أنها… أنا”..
نعم، “أنا” يعود على دينا وقارئها، أيا كان لن يخجل من رؤية نفسه في ما وراء التعبير بـ”أنا”.
ينطلق الكاتب طوال “مجموعته القصصية” في البحث عن هذه الذات، طرح معاناتها، النقاش حول أساليب حياة أصبحت بالية وعفا عليها الزمن، والانتقال من قناعات التنشئة إلى مغامرات “الاستقلال” الفكري والحياتي عن الأسرة، يفكر في التكنولوجيا والأصدقاء والناموس والهم الذاتي الذي لا يشعر به أحد حوله، حتى حين اصطدم بتجربة “نسائية” في “الفتلة” لم يكن الباعث عليها سوى موقف ما أثر في مسيرة حياته، لا يشترط أن تكون أنثى حتى تكتب عنه، لكن الهدف من النص يشترط أن تكون إنسانا يناقش تفاصيل بسيطة في مجتمعه، حتى حين وصف الكاتب الفعل الرئيسي في القصة بأنه “فعل أنثوي” لم يكن يقصد أبدا عملية “الفتلة” بل كان يقصد هذه الآمال التي علقت بذهن الفتى نتيجة موروث ما ربط بين انقطاع “الفتلة” وبين “اهتمام حبيبها”، لأن هناك الكثير من الرجال يجرون تجميلا باستخدام “الفتلة” في “صالونات الحلاقة”، وإذا وصلنا إلى نقطة “الفتاة وحبيبها” فهي أيضا لا تدفع من قريب أو بعيد على أن هذا النص يصنف رغما عنه ضمن “الكتابة النسوية”، لأنها تتعلق في المقام الأول بأحلام إنسان، وهو الكاتب، مشتبكة مع موروث ما، هذه هي قضية النص، ولا يمكن أن أعتبر كون الكاتب أنثى هو عامل رئيسي في قضية النص، بل هو فقط عامل سهل في تناول المتلقي.