عندما أعلنت حكومة بينيت الصهيونية عن دخول قطعان المغتصبين إلى القدس يحملون الأعلام الصهيونية ويخترقون باب العامود والحي الإسلامي، تحت حماية 3000 جنديا، عدا عن باقي الأجهزة الأمنية، لم يكن القرار مفاجئا لأحد، فكل القيادات الصهيونية والفلسطينية والعربية والعالمية، علمت بهذا القرار واختلفت ردة الفعل عند كل طرف بين رافض بشدة وبين رافض باستحياء وبين موافق بتحفظ وبين مؤيد بالخفاء. وانطلقت المسيرة وأنجزت هدفها السياسي في تثبيت حكومة بينيت وإفشال مخطط نتنياهو في إسقاطها، ضمن مخطط أمريكي صهيوني، بالشراكة مع بعض العربان في إمارة الغاز، وهذا بتقديري كان الهدف السياسي غير المعلن للمسيرة، ليقول بينيت: أننا أيضا أكثر عنصرية وفاشية من نتنياهو، وأن القدس عاصمة أبدية للكيان، وهي مستباحة لقطعان المغتصبين متى شاءوا. ولكن هل حقق بينيت ما يصبو إليه؟!
سؤال لم يستطع بينيت نفسه التهرب من إجابته الصعبة لأن الجواب لا بكل تأكيد، رغم التظاهر بعكس ذلك. إن المسيرة المسلحة والتي تسير ضمن خط سير محدد، في مدينة يفترض أنها العاصمة الموحدة للكيان، أثبتت بما يدع مجالا للشك أن أبناء هذا الكيان لا يستطيعون التجول في عاصمتهم المفترضة، حتى تحت حماية آلاف العسكر المدججين بالسلاح، ولا ينعمون بالوصول لمناطق عدة في هذه العاصمة المفترضة، ولا يحلمون بتناول قطعة من كعك القدس، دون رشقة حجارة هنا أو طعنة هناك. فعن أي عاصمة تتحدثون؟!
ومقابل هذه المسيرة المجوقلة والمدججة بالعسكر والسلاح، كانت جماهير القدس تُسيّر مسيرات طافت كل أحياء القدس وشوارعها تحمل الاعلام الفلسطينية الممنوعة قانونا، لدى الاحتلال، ويرفرف العلم الفلسطيني في سماء القدس، محمولا على طائرة مسيرة، يطوف كل بقعة فيها وتصدت الجماهير الفلسطينية للمسيرة بدون سلاح، سوى سلاح الإرادة وطافت المسيرات الفلسطينية شارع صلاح الدين وباب العامود والساهرة وباب الخليل وتصدت لقطعان المغتصبين وحرمتهم متعة السير في شوارع عاصمتهم المفترضة. أمام وضع كهذا وجب علينا أن نعلن: بأننا كشعب فلسطيني من سير مسيرة الأعلام في مدينتنا التي يرفرف علمها ولأول مرة بشكل معلن وبهذا الزخم الجماهيري، وأن من انتصر وحقق هدفه السياسي هو الشعب الفلسطيني، وليس بينيت وحكومته الصهيونية: هل خذلت المقاومة الجماهير الغاضبة؟
بعيداً عن التحليلات العسكرية التي زخرت بها مواقع التواصل الاجتماعي وتجاوزا لمشاعر المتعة التي تثير شهية الانتقام لدى البعض الأخر وتلافيا للصبيانية السياسية عند البعض، فإن الحقائق تشير إلى أن المقاومة كانت موجودة وسيف القدس كان مشرعا، ويلقى بظلاله على مجريات الصراع والمواجهات، فكيف كان ذلك؟
لقد شكلت معركة سيف القدس قبل عام من الآن،، قوة دفع حقيقية للجماهير الغاضبة وعززت ثقة هذه الجماهير بمقاومتها، بعد سلسلة الخذلان الذي عاشته بعد أوسلو وشكلت هذه المعركة الرافعة الأساس لنضالات شعبنا، وأدركت كما أدرك الاحتلال بأنها ليست وحيدة ومعزولة في مواجهتها مع العدو، بعد أن أثبتت، أي المقاومة، أنها تمتلك القدرة على التصدي للعدوان ومؤهلة لمهاجمة العدو في جحوره وحالة الهلع والخوف والهجرة المهوسة لقطعان المغتصبين، دليل على ذلك، مما شكل حالة من إعادة الثقة بإمكانية تحقيق الانتصار، وهذا وحده كان كفيلا بتقدم الجماهير إلى الأمام، دون عودة للوراء.
إن ما حدث من مواجهات في القدس وحالات الاشتباك مع العدو في معظم أنحاء فلسطين، في جنين، نابلس، رام الله، طولكرم، قلقيلية، تؤكد أن جماهيرنا قادرة على خوض المواجهة وباقتدار، حتى وإن لم تسندها القوة الصاروخية. وفي تقديري أن ما حدث من مواجهات التي بلغت حسب إحصائية وسائل الإعلام ٨٥ مواجهة، بين طعن وإطلاق نار واشتباك مباشر مع قوات الاحتلال، أهم بكثير من إطلاق الصواريخ، بل تعكس مدى تقدم حالة النهوض الجماهيري لمقاومة الاحتلال، وهذا كان أحد أهم الأهداف لمعركة سيف القدس. إن للحرب حساباتها الدقيقة العسكرية والسياسية وتدارك الأخطار والأضرار التي يمكن أن تلحق بشعبنا، مسألة غاية بالأهمية، والأقدر على تحديدها، من يمتلك القرار في ساحة المعركة، ولا مكان هنا للعاطفة وردات الأفعال ولا النيات الحسنة، فجهنم مبلطة بالنوايا الحسنة، والعدو يتربص بالمقاومة وأذناب رأس الشر العالمي تحاصرها وتنسج المؤامرات لتدميرها، عبر إغراق بعض قياداتها بالمال والوعود السياسية، كما تفعل إمارة الغاز مع بعض قيادات حماس، مما يجعل اتخاذ قرار الحرب مسألة غاية في التعقيد والدقة، ولا يمكن أن يخضع للنخوات والحميات والهوبرة التي راهن عليها العدو، لجر المقاومة لحرب تجهز لها بالكامل وأجرى المناورات للتحضير لخوضها. وفي تقديري أن الخطأ الرئيس الذي وقعت به قيادة المقاومة هو المبالغة بالتهديد والوعيد، حتى وإن كان جزءا من الحرب النفسية الهادفة إلى دب الرعب في صفوف العدو.
أخيراً، أرى أن من انتصر في مواجهة مسيرة الأعلام الصهيونية هي جماهيرنا ومقاومتها التي ظلت حاضره في المواجهات على مستوى الوطن الفلسطيني.. لا بل جعلت العالم أجمع يلتقط الأنفاس في يوم الأحد الدامي، وليعلم المشككون بالمقاومة وقدراتها، بأنهم جزء من منظومة الخذلان، حتى وإن لم يريدوا ذلك.