Menu

الحربُ الروسيّةُ الأوكرانيّة: قراءةٌ في اتّجاهاتٍ متعدّدة

سعاده مصطفى أرشيد

نشر هذا المقال في العدد 38 من مجلة الهدف الإلكترونية

في توصيفٍ سريعٍ لروسيا نلاحظُ أنّها الدولةُ الأكبرُ مساحةً في العالم، وبحكمِ هذه المساحةِ الشاسعةِ تكونُ هي الأغنى بمواردها الزراعيّة والطبيعيّة؛ أدرك مؤسّسُ روسيا الحديثة بطرس الأكبر أنّ نقطةَ ضعفِ بلادِهِ تكمنُ في عدم مشاطئتها للمياه الدافئة، ومفتوحة على بحارٍ متجمّدةٍ أو باردةٍ جدًّا، سعت منذ القدم للوصول للشواطئ الدافئة عبرَ محاولاتها في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لاختراق إيران، وعبرَ حروبها المئويّة مع الدولة العثمانيّة التي أوصلتها إلى شبه جزيرة القرم وبحري آزووف والأسود، شبه المغلقان بالمضائق التركيّة، حاولت خلقَ قوميّةٍ بلوشيّةٍ تقيمُ لها دولةً ما بين الهند (باكستان حاليا) وإيران، قاتلت بولندا وسلبت منها مناطقها الشرقيّة وغير ذلك كثيرٌ كان آخره غزو أفغانستان.

نظرتْ روسيا إلى مشرقنا والسواحل الشرقيّة للبحر المتوسّط باعتبارها مجالًا حيويًّا استراتيجيًّا يجب أن تسعى لامتلاك حصّةً فيه، وبحثت عن موطئ قدمٍ وجدته بدايةً في تمرّدٍ ظاهرِ العمر على الدولة العثمانيّة في القرن السابع عشر، فقدّمت له الدعم والمساندة بالمال والسلاح وتدخّل أسطولها في مواجهه الأساطيل العالميّة على أسوار عكّا، ثمَّ في تبنّي ودعم الطائفة الأرثوذكسيّة في بلاد الشام وبناء الكنائس والأديرة وإنشاء المدارس لتعليم اللغة ونشر الثقافة الروسيّة، قامت بشراء أراضٍ ومساحاتٍ كبيرةٍ في معظم مدن بلاد الشام وأماكن الحج المسيحي الشرقي وهي التي أصبحت تسمى بالمسكوبيّات (مفردها مسكوبيّة).

بعدَ انتصارِ الثورة عام 1917اعتمدت القيادة السوفيتيّةُ قراءةً أمميّةً عقائديّةً للصراع الطبقي، أي أنّها متحالفةٌ مع الطبقات الفقيرة وأصحاب العقائد الاشتراكيّة والعماليّة غير القوميّة، يهمّنا هنا أنّ تلك القيادة لم تكن العداء لليهود كما فعل حكم آل رومانوف، ولاحظت أنّ القسم الأكبر من اليهود المهاجرين إلى فلسطين هم من أصولٍ سوفيتيّةٍ (روسيّة أو أوكرانيّة)، ثمَّ أنّ هؤلاء في غالبيتهم ذوي ميولٍ اشتراكيّةٍ ونقابيّةٍ عماليّةٍ وكثير منهم كانوا من الناشطين في الحزب الشيوعي قبل هجرتهم، لذلك فهم مرشّحون ليكونوا حلفاء وأدوات جيّدون، وعندما أعلن بن غوريون قيام (إسرائيل) كان الاتّحاد السوفييتيّ أوّلَ من اعترف بالكيان الغاصب، الحزب الشيوعيّ في فلسطين أعلن بدورة  التحالف مع قوّات الهاجانا والقتال معها عام 1948، يؤكّدُ على ذلك بالوثائق عادل مناع في كتابه نكبة وبقاء.

نظر الغربُ لروسيا وما يزال بريبةٍ وعداءٍ وحرصٍ على حرمانها من مشاطئة المياه الدافئة، وهذهِ مسألةٌ استراتيجيّةٌ غربيّةٌ لا علاقة لها بأرثوذكسية روسيا، في مقابل الغرب الكاثوليكي - البروتستانتي أو بالخلاف العقائديّ بين الفكر الرأسماليّ اللبراليّ والنظريّة الشيوعيّة، روسيا يجب أن تبقى دولةً بريّةً لا تمتلكُ قوّةً بحريّة، وهذا ما أمّنته سوريا للروس بمنحهم قاعدةً بحريّةً في طرطوس بداية، ثم ما أقامه الروس من قواعد ومطارات أثناء الحرب الدائرة اليوم على وفي سوريا.

الحربُ الدائرةُ اليوم بين روسيا وأوكرانيا هي حربٌ عالميّةٌ بامتياز، مع أنّ أطرافها المتقاتلة تقتصر على الدولتين، فالحربُ تكون عالميّة لا عندما يشارك العالم بأسره في الاشتباك، إنّما عندما تكون أهداف الحرب ونتائجها عالميّة، الهدف البعيد لهذه الحرب هو هدم النظام الدولي الأحادي القطب الذي تشكّل أثر حرب العراق الثانية وانهيار سور برلين الذي كان رمزًا لانهيار الاتّحاد السوفييتي، نظام عالميّ جديد هو قيد التشكل اليوم متعدّد الأقطاب، ولكن ملامحه قيد التشكّل وستأخذ شكلها النهائي ربّما في نهاية الحرب.

يرى العقلُ السياسيُّ القوميُّ الروسيّ أنّ أوكرانيا هي جزءٌ لا يتجزّأُ من التراب القوميّ الروسيّ، وقد كانت كذلك لقرونٍ مضت، وأوكرانيا هي مقاطعةٌ صغيرةٌ حول العاصمة كييف، ولكن خروتشوف في خمسينات القرن الماضي (وهو سوفييتي أوكراني)، قام بتوسيع حدود تلك الدويلة، فأضاف إليها أجزاء في الغرب والشرق بما فيها شبه جزيرة القرم وشواطئ البحر الأسود التي قاتلت روسيا الدولة العثمانيّة لأكثرَ من قرنٍ من أجلها، لكن عندما انهار الاتّحاد السوفييتي واستقلّت كثير من جمهورياته، استقلّت أوكرانيا بحدودها الخروتشوفيّة التي تعود إلى خمسينات القرن الماضي.

ظنّت أوكرانيا أن تحالفها مع أعداء روسيا، وخاصّةً الولايات المتّحدة و(إسرائيل) قادرٌ على منحها الحماية والقوّة لتحدّي روسيا، ووصلت الأمور لأن تنضمّ إلى حلف الناتو الذي فقد مبرّر وجوده الظاهري بعد انهيار حلف وارسو، فيما رأت موسكو أنّ وجود الناتو على هذه المسافة منها هو مسالةُ أمنٍ قوميٍّ من الدرجة الأولى لن تسمح به مهما كلّفها الأمر.

التطوّراتُ العالميّةُ لهذهِ الحرب أكثر من أن تعد، فقد أظهرتْ الحرب أنّ المصالح المشتركة بين أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة آخذةٌ في التباين، ألمانيا أوّلًا ثمّ باقي أوروبا لا تستطيع التوقّف عن استيراد الغاز والنفط من روسيا. ولا نبالغ إذا قلنا لا تستطيع العيش في المنظور دون غاز روسيا ونفطها وبالشروط الروسيّة، لذلك لا مصلحة لها ولا تستطيع الدخول في مواجهة مع موسكو لحسابات واشنطن وكرمى لها، وهو ما يصرّحُ به علنًا ماكرون بعد إعادة انتخابه.

أرادت واشنطن قبلَ هذهِ الحرب توظيف أوروبا في حربها الباردة مع الصين المرشّحة للاشتعال، ولم ترَ أوروبا أيضًا مصلحةً لها، فتمَّ إبطال صفقة الغوّاصات التي كانت أستراليا قد اتّفقت مع فرنسا على شرائها، وذهبت تجاهَ بناء محور أنجلو – سكسوني يضمّ انجلترا وأستراليا، إضافةً إلى أميركا. من هذه التطوّرات أنّ دولًا إقليميّةً ذات أدوارٍ مؤثّرةٍ ولطالما كانت من أدوات الإدارة الأمريكيّة، باكستان مثلًا، أخذت ترى أنّ مصالحها القوميّة الباكستانيّة تتقدّم على المصالح الأمريكيّة؛ الأمرُ الذي أعلنه رئيس الوزراء الذي تمَّ إسقاطُهُ عمران خان، الصين تراقبُ الحربَ بعنايةٍ باعتبارها تمرينًا، يمكنُ أخذ الدروس والعبر منه عندما تبدأ معركتها مع الأمريكان في تايوان، وهو أمرٌ استراتيجيٌّ صينيٌّ للاعتبارات القوميّة والاقتصاديّة والأمنيّة.

في عالمنا العربّي الذي فقد قواعدَهُ في القاهرة ودمشق وبغداد لحساب الصحراء، نلاحظ اللغة العجائبيّة لوليّ العهد السعودي، فبلاده منذ زيارة الرئيس الأمريكي روزفلت ولقائه بالملك عبد العزيز على السفينة كوينسي، تبنّت السعوديّة السياسات الأمريكيّة بالمطلق، لا بل اكتفت بدورٍ تنفيذيٍّ ملحقٍ للسياسة الأمريكيّة، ولم تخرج عنه في السابق إلا مرّة واحدة، إن صدقت الروايات، وذلك في عام 1973 أثر الحرب وأزمة النفط العالميّة، بعد اندلاع الحرب الروسيّة الأوكرانيّة نسمع أنّ وليّ العهد على تواصلٍ دائمٍ مع موسكو وينسّق معها سياسات نفطيّة مخالفة للرغبة الأمريكيّة، ويصرّح أنّ بلاده تعمل على تنويع علاقاتها وهي تنظرُ للشرق في إشارةٍ لروسيا والصين، هذهِ الملاحظةُ مهمّةٌ مع عدم الثقة بالسياسات السعوديّة على المدى البعيد، ولعلَّ الداعي لها هي خلافُ الأمير مع الإدارةِ الأمريكيّة ثمَّ شعوره بضعف واشنطن؛ الأمرُ الذي منحهم هذا القدر من الشجاعة، في حين أنّ أمير اتّحاد الإمارات الجديد لم يجد في الأمريكيّ و(الإسرائيليّ) من يقاتل الحوثيين الذين أصابته صواريخهم، فيما استطاعت إيران وروسيا ضبط السلوك اليمنى مقابل الاعتدال الإماراتي في الحرب الروسية الأوكرانية والتزام سياساتٍ نفطيّةٍ تتّفقُ مع كلٍّ من طهران وموسكو.

في مشرقنا ترتبطُ التطوّراتُ بدايةً بتوقيع الاتفاق النووي العالي الاحتمال وقبل ذلك في المفاوضات الإيرانيّة الأمريكيّة، فقد استطاعت طهران إدارة الملف باقتدار، مدركةً أسباب الاستعجال الأمريكيّ المتمثّل في بحر الصين الجنوبيّ ثمّ فيما طرأ من تداعيات الحرب الدائرة اليوم.

(إسرائيل) كانت الأسرع مبادرة في محاولة التوسط، وكان نفتالي بينت أوّلَ من زار موسكو بعد الحرب. لم تفلح محاولة التوسّط، فالروسي لا يحيدُ عن مطالبة والأوكراني يرى في الغرب داعمًا له وفي (إسرائيل) حليف لا وسيط، ولكن بينت نجح في تثبيت قواعد الاشتباك في سوريا واستطاع معرفة النوايا الروسيّة تجاهَ توريد الغاز الألماني. واشنطن التي لم يسعدها ذلك إلا أنّها تعطي (إسرائيل) هوامشَ استثنائيّةً ولا مانع لديها من تثبيت قواعد الاشتباك في سوريا، ثم إنّها غيرُ معنيّةٍ بإضعاف الحكومة أو انهيارها خشيّةَ عودة نتنياهو اللدود.

تجاوزت الحربُ ثلاثةَ شهورٍ وهي مرشّحةٌ لأنْ تطول، الأمرُ الذي لم يكن في حسابات موسكو في الغالب، وهي التي ما زالت الأقوى عسكريًّا وما زال سعر الغاز والنفط المرتفع يرفد خزانتها بما يكفيها وهي في حالةِ تقدّمٍ وإن كان بطيئًا، وقد انتهى منذ أيام ملف ماريوبل، وأصبح كامل بحر آزووف وشبه جزيرة القرم متواصل تحت سيطرتها.

اضطرّ الروس في الشهر الثاني من الحرب لاستقدام بعض جنرالاتهم وضباطهم من سورية لقيادة قوّاتهم في أوكرانيا، ثمَّ عادوا واستقدموا قطاعاتٍ عسكريّةً وازنةً؛ الأمرُ الذي خلق فراغًا لا يملأه إلا إيران، فهل ستكون نهايةَ الحالة القائمة اليوم التي تستباح فيها سورية؟

هناك ثلاثة احتمالات:

1-     أن تتوقّف (إسرائيل) عن قصفها للأجواء السورية بالطريقة المستبيحة الحاليّة.

2-     أن تستمرّ (إسرائيل) بالعمل في الطريقة ذاتها ولكن أن يتمَّ الردّ عليها بالمثل.

3-     أن تنزلق الأمور إلى مواجهةٍ أكبر تكون إيران قد أبرمت اتفاقها مع الغرب (أميركا) وحليفها اللبناني قد انتهى من الانتخابات النيابيّة وذيولها و غزة تناوش مباشرة وعبر مخيم جنين، وفي هذه الحالة ستصب المواجهة نتائجها في مجرى تشكيل النظام العالميّ الجديد.

فلسطينيًّا، لطالما اشتكى الفلسطيني من إهمال العالم له ومن تآكل الاهتمام بصراعه مع الاحتلال، لكن اليوم نرى الفلسطيني الرسميّ هو من يهمل قضاياه ويتآكل اهتمامه ب القدس طيلةَ شهر رمضان وما جرى في المسجد الأقصى من مواجهاتٍ وغيابٍ تامٍّ عن مخيّم جنين وحربه اليوميّة مع الاحتلال، وطالما أن مثل هذه المسائل لا تشغل الجهة الرسميّة الفلسطينيّة: فهل سيشغلها ما يجري في كييف وماريوبل؟

الفلسطينيّ يحتاج أن يستردّ صوابه.