Menu

نُزهــــة غــريب في مطعــم " لوبتي كامبدوج"

درويش

*إشراق كرونة

نُزهــــة غــريب في مطعــم " لوبتي كامبدوج"

(لا أعرف إذا ما كان نبأ موت هذا الرجل صحيحا أم لا ، بحثت مطّولا ــ بعد كتابة هذه السطور في قائمة الضحايا الفرنسيين ولم أجد اسمه . قرأت الخبر على صفحة صديق على الفيس بوك يقيم في باريس . هناك أصوات من حيفا تستبعد صحّة الخبر وصحة المعلومات التي نٌــقلت إليّ عن كون هذا الرجل فعلا حافظ على البيت الدرويشي بباريس وعلى كلّ ما فيه . الآن ، وقد كتبت هذه السطور لم يعد كل ذلك مهما . ربما لم يمت الرجل في اعتداءات باريس الأخيرة وربما ليس صحيحا أنّــه حافظ على بيت مرّ منه شاعر أكثر من عشرين عاما ولكّنه كان محفزا لهذا النص )

"لا أنتِ أنـــتِ و لا الديـــارُ ديــارُ"

ــ أبو تمــام ــ

"لا أنـــا أنــــا ولا البيـــتُ بيـــتــي "

ــ غارسيا لوركا ــ

تعليق الشاعر محمود درويش عليهما : " توارد خواطر ، توارد مصائر "

المكــــان : يشبــــه مساء صغيرا على بيت شاميّ عتيق ظل عصيا على قذيفة الحرب المجنونة

الزمـــان : مطعم منزو في ضاحية لبنان الجنوبية يقدّم التبولة والعرق فقط .. أو موسيقى هادئة في مطعم " لوبتي كامبدوج: لا فرق ..

صباح معجــون على عجـل .. صباح آخر يشبه آخره ، ما يزال الرغيف الساخن في مخيّم اليرموك نزاعا يقتسمــه المحاصَرون والمحاصِرون والمرضى والجرحى والأطفال والجرائد والشيوخ والبنادق ...

ومــا تــزال باريس تعجـــن جرحهـــا وردا ترميه على هوّاة البكاء على طلل لم يعرفه شعراؤها

ولا يــزال طبيب التشريح واقفا يتأمل ــ ممسكا نظـارتيّه ــ طابور الموتى الذين جاءوا فرادى أو عواصم **

ولا يزال السيّد " شارل بينو" يبحث عن مفاتيح بيته وسط ركام النُعـــاس المُعــالج بالخيبةِ والمهدئات . الدم على قميصهِ الخفيف لم يثنــه عن النهوض لأخر مرّة ليقول : لقد أضاع شعبـــه مفتاحــه أكثر من ستين عاما .. لا أريد لمفتاح شقتــه أن يضيعَ فيضيعَ ثانيــة وأضيــعَ !

لـــم يسمعـــه أحد ... ظنّــوه ميتــا وأعادوا اتهــام الذئب ، لــم ينتبــه أحد لمـــرارةِ الرحيل عن شعــرية انبثقت من مصادفة أنّ يكــون هو ــ شارل بينو ــ صاحب الشقة التي سيأتي شاعر لا تستقر حقيبتــه في شقق المنافي الكثيرة ليكتب من باريس ــ وربما منها ــ : " لمــاذا تركتَ الحصان وحيدا ؟"

هل يحــدث أن تكون شعريّة المعنى تناصا بين الشقق ؟ أليسَ أول الشِعرِ بيت الشَعر، انتبه إليها شارل قبلنا ــ نحن من نزعم اطلاّعنا الواسع على التجربة الدرويشية ؟ من يضحّي ببيت في عاصمة كباريس للزمن والوفاء ليقف ويوقف دون ملل زوّار الشاعر الذين أضاعوه فقدموا يلتمسون ريحــه في محطتــهِ الباريسية ؟

أليست هذه أجمل مكاشفة شعريــة مفتوحــة لنص مهاجر وشاعر مهاجر وشارل الذي غادر ؟

تضحك كناية سقطت من مسوّدة أحد النصوص على مكتب محمود درويش في تلك الشقة وتستعير سخريتــه اللاذعة ــ فالكنايات والبديع والبلاغة ـ تتأثر بملامح منجبها حتى إذا تخلّى عنها : كم مرّة ينتهي أمرنا* ؟ شاعر هــُجّر قسرا من أرضــهِ وهو في مهده صبيا و شارل هــُجــّر من الدنيا مصادفة في ليلة اشتدت فيها غربتــه فهمس سرّه : هوّن قليلا ؟

لـــم تدرك أمطار باريس التي تتهاطل في سماء القدس وتفّح في هواء تـــونس أنّ الأرض لم تضق بنا وحدنا  وأن الجدب سيطالنا كما سيطال عاصمة الحياة والحبّ لأنّ أسطورة الخيانات لن تتوقف ولأنّ عقاب الأسطورة شديد على اللغةِ والبشر.

يتساءل شاعر شاب آخر : ماذا يعني أنّ نقرأ الشعر في زمن يقتل كل شعّرية فيه ؟ وكيف تنجــبُ النصوص نصوصا دون بيت ؟ هل في السفر الحرّ بين شعريات هذه اللغات متسع لطمأنينة جديدة تشيّد عمودا للشعر صلبا ؟

تعبث الصدفات بهما .. وبنا على أرض الشرفات كلّها : تعبث من اللغةِ والعواطف والشعر والموتى والسماء والحالمين في شقوق المكان ، أيّ صدفة جعلت الشاعر يكتب في باريس "لا تخف من أزيز الرصاص / التصق بالترابِ لتنجو " *... لم ينج الشاعر ولم ينج الجمهور .. ولا حتى شارل : هل تكون جماليات الشعر دقيقة في تصويبها بعد أكثر من خمسين عاما ؟ هل يُكتب الشعر لحادث عابر مصادف في مطعم باريسي ربما لم يعرفه الشاعر ؟ أو ربما مرّ به دون أن تلفته حاسّة الشعر إلى منبع جمالية تلك السطور بعد أكثر من خمسين عاما ؟ ولم تسعفه ــ ولم تسعف شارل لينتبها إلى سؤاله في سؤاله عن حصانه المتروك وحيدا : " ومن يسكن البيتَ من بعدنــا يا أبي ؟ " .

ألا يمكن في عالم الصدف الكبيرة والكثيرة هذه أنّ يتعّرف شاعر على قاتله ومكان موته لينجو صدفة؟ وأنّ ينتبه شارل إلى ضوء شحيح في شقوق الزمن فيعدلَ عن الخروج تلك الليلة مثلا ؟

لـــِمــاذا يصيب المــوت حرّاس الآمال وشياطين الشعر المرابطة في شقة هي أوّل العودة إلى العودة؟ وآخر النهايات لبدايات الشعر المعافى من الشفقة على شعراء تحّولوا قسرا من جماليات الإنسان إلى واجب العبوس الدائم ما دامت الدولة محتلة ؟

ما قيمة أن أكتبَ يا شارل الذي نحبّــه دون أن نعرف ملامحه ؟

ومن قال إن الملامح تساعد على توليد المعنى في سير المكان البعيد ؟

كيف نحمي أنفسنا بعدكَ يا شارل من احتمال الانفجــار أمــام فضيحة الزنازين الشقيقة التي لم تحترم خصوصية البيت هنا في عمّان واحترمت أنتَ ما تبقى من نَفَس النبي في مكان المكان الذي وحده ــ الآن ــ نعود منه إلى ذاتنا كلما اشتّد مزاح الحصار علينا ؟

كنـــتُ يــا شارل أنتظــر تأشيرة الدخول إلى أعلى نقطة في قمة برج ايفل لأرى منها هلال الأمل لأنّ دخان الحرب هنا يغشي الشعر عن القلب ، كنتُ أنتظر المجيء لتكون أنتَ .. أول زيارة لكَ وللبيت

لكن جشع الحرب جعلني في آخر طابور الانتظار في اليرموك لرغيف خبز لن أجده حتى باردا وجافا ! وفي آخر طابور الانتظار لتأشيرة الذهاب نحو آخري وآخركَ ..* !

أنتَ حارس ظلالنا .. ونحن نحّب من يحّب شاعرنا

ولذا سأكتبُ على شاهدة قبركَ ــ يوم أنزل عن السماء إلى أرضكَ ــ ما كتبه الشاعر على أرض شقتكَ ــ بداية العودة :

" تحتَ القصيدةِ تعبر الخيل الغريبة

(..)

والأنبياء هناكَ أيضا يعبرون

وينصتون لصوت إسماعيل يُنشــدُ :

يا غريبُ ، أنــا الغــريبُ وأنتَ مثلي يا غريب الدارِ "*

تونس : 2015-11-24

 

*كاتبة من تونس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هــــامش : كل هذه العلامة (*) مرّدها مجموعة محمود درويش " لماذا تركتَ الحصان وحيدا "

(**) من مديح الظل العالي