Menu

العقوباتُ الاقتصاديّةُ الغربيّةُ على روسيا: العضُّ على الأنامل!

م. تيسير محيسن

نشر هذا المقال في العدد 39 من مجلة الهدف الإلكترونية

فورَ اندلاعِ حربِ أوكرانيا ردّتْ بعضُ الدولِ الغربيّةِ بفرضِ عقوباتٍ اقتصاديّةٍ جاءت على مراحل. وردّتْ روسيا أيضًا بقوّة، في حين لن تساعد العقوباتُ في حلِّ النّزاعِ ووقفِ الحرب؛ فإنّ استمرارَها سوف يزيدُ من هشاشةِ الاقتصادِ العالميّ، وتعطيلِ سبلِ تعافيه بعدَ وباءِ كورونا. كالعادة، أُثيرت تساؤلات: ما غرضُ العقوبات؟ وهل يمكنُ أن تكونَ فعالة؟ وما تكلفتُها على العالم؟

أوّلُ تقنينٍ للعقوباتِ الاقتصاديّةِ جاء في المادة 16 من ميثاقِ عصبةِ الأمم (1919)، لضمانِ الامتثالِ للقانونِ الدولي. انتقدها رائد الكينزيّة، وفضّلَ تقديمَ المساعدةِ للطرفِ المتضرّرِ بدلًا من الانتقامِ من المعتدي، موضّحًا أنّ العقوباتِ "غيرُ فعالة"، ولا يمكن التمييزُ بينها وبين الأعمال الحربيّة. عدَّ الرئيس ويلسون الحصارَ أكثرَ من وسيلةِ ضغط، إنّما "سلاحُ حربٍ" بديلًا عن الحرب!

شاع استخدامُ العقوباتِ ما بعدَ الحربِ الباردة، وانقسمَ الناسُ في موقفِهم منها: موقفٌ قانونيٌّ يرى فيها انتهاكًا لحقوقِ الإنسان. موقفُ التأييد، ويستندُ إلى المزايا النسبيّةِ لها قياسًا للتدخّلِ العسكريّ. أمّا الرافضون فينطلقون من منظورٍ إنسانيّ؛ فالأنظمةُ عندهم لا تتأثّرُ بالعقوبات، إنّما المدنيّون الضعفاء.

لا تعتمدُ العقوباتُ على معاييرَ موضوعيّة، إنّما مصالحُ جيوسياسيّة، وهي، في سياقِ الإمبرياليّةِ والعولمة، استراتيجيّة عقابيّة. تبدأُ القصّةُ بشيطنةِ خصمٍ أو منافسٍ (تسمية عدوّ وأحيانًا اختراعه)، ومن ثمَّ استعراض للقوّة؛ بهدفِ الترهيب وإرسال رسائل التحذير والتهديد والتوطئة لعملٍ أوسعَ وأشملَ وأكثرَ فتكًا وعدوانًا.

يعودُ تاريخُ "العقوبات" إلى ما قبلِ القرن 20 بكثير. أثناءَ الحروبِ النابليونيّة؛ فرضت فرنسا حصارًا على إنجلترا (الحصار القاري). نقطةُ التحوّلِ في استخدامِ "العقوبات" تعودُ إلى ما بعد الحربِ العالميّةِ الأولى. ومنذ نهايةِ الحربِ العالميّةِ الثانية، وانتهاء الحربِ الباردة، تمَّ تنفيذُ العديدِ من عمليّاتِ الحظر والعقوباتِ الاقتصاديّةِ المختلفةِ بمبادرةٍ من الولايات المتّحدة (كوبا، ليبيا، العراق، السودان ، إيران، كوريا الشماليّة).

فورَ إعلانِ العقوباتِ الغربيّةِ على روسيا اندلعت حربٌ شرسة: كلُّ المعطياتِ تشيرُ إلى أنَّ نظامَ العقوباتِ جزءٌ من "استراتيجيّةٍ" تتجاوزُ اللحظةَ الحاليّة، المستندةَ إلى سياسةِ "حثّ الدبّ" الأمريكيّة، ولكن دعونا نفحصُ ذلك:

ملامحُ الاقتصادِ الروسي: تحتلُّ روسيا المرتبةَ 11 بين اقتصادات العالم؛ بلغ ناتجها المحلّيّ الإجماليّ عامَ 2019، قبلَ جائحةِ كورونا، 43% من الناتج المحلّيّ الإجماليّ الألمانيّ، و12% من الصينيّ، و8% من الأمريكيّ.

تعيشُ روسيا فوقَ إمكانيّاتها: (a) عبءَ الإنفاقِ العسكريّ، قدّرت ميزانيّتها العسكريّة 2019 نحو 3.8% من الناتج المحلّيّ الإجماليّ. (b) استقرار نظام الحكم يعتمدُ كثيرًا على مستوى معيشةِ السكّان، المرتبط بأسعار النفط المتقلبة. (c) تفاوت الدخل والثروة بين "الأقليّة" وباقي السكّان شاسع (48% من الثروة يمتلكها أغنى 1%).

يمثّلُ النفطُ مصدرَ الدخلِ الرئيس، بينما الغاز يمثّلُ الثروةَ الأساسيّة. في عام 2019، أنتجت روسيا 12.3% من النفط المستخرج عالميًّا، وبلغت عائداته 190 مليار دولار (سعر البرميل 64 دولارًا. اليوم يمكنُ أن يتخطّى حاجز 100 $).

 

بعدَ الأزمةِ التي شهدها الاقتصادُ الروسيّ (1998)، مع انخفاضِ سعر النفط، تركّزت الأصولُ الأكثرُ ربحيّة، واستخراج المواد الخام، في أيدي أقليّةٍ متحكّمة. مع وصول بوتين إلى الحكم، وبقيادة إلفيرا نابيولينا (محافظ البنك المركزي) أجريت عمليّةُ إصلاحٍ للاقتصاد الكلّيّ: فصل السياسة النقديّة عن تأثيرات الأوليغارشية، إدارة الروبل وأسعار الفائدة على أساس الحقائق الاقتصاديّة. في عام 2014، وفي مواجهة انهيار الروبل وارتفاع معدّلات التضخّم اتّخذت قرارًا محفوفًا بالمخاطر برفع أسعار الفائدة بشكلٍ حادّ (حوّلت الكارثة إلى فرصة) ما أدّى إلى تباطؤ الاقتصاد وترويض الأسعار المرتفعة. في غضون ذلك، بلغ احتياطي النقد الأجنبي 630 مليار $. كما أنشأت روسيا صندوقًا سياديًّا (175 مليار دولار) لتمويل المعاشات ودعم الميزانيّة في حال الأزمات؛ كل ذلك أسهمَ في مرونةِ الاقتصاد وجعله أقلَّ حساسيّة للصدمات.

ما العقوباتُ المفروضةُ على روسيا؟

تراوحت العقوباتُ المفروضةُ على روسيا بين ماليّة، وتجاريّة، وأخرى شملت وقفَ مشروعِ خطّ أنابيب الغاز الطبيعي، حظر السفر وإغلاق المجال الجويّ، إدراج كبار المسؤولين الحكوميّين في قائمة العقوبات.

فأمّا العقوباتُ الماليّة، وهي الأشدُّ فتكًا، فاشتملت على تجميدِ الأصولِ الماليّةِ وقطعِ قنواتِ التمويلِ وعرقلةِ المعاملات (a) إخراج بعض البنوك من نظام SWIFT، مع استثناءِ بنكِ سبيربنك المرتبط بقطاعِ الطاقةِ (b) منع البنك المركزيّ من استخدام احتياطياته من العملات الأجنبيّة (نحو 300 مليار دولار).

وأمّا العقوباتُ التجاريّة، فتضمّنت إجراءاتٍ قاسيةً للرقابةِ على الصادرات من السلعِ الحسّاسة (في مجالات الدفاع والفضاء والبحريّة)، وحظر على النفط والغاز الطبيعيّ والفحم الروسي؛ على الرغم من أنّ الاتّحاد الأوروبيّ لم "ينصع" على الفور، إلّا أنّ المفوضيّةَ الأوروبيّةَ أعلنت نيّتها خفض واردات الغاز الروسيّ نهاية 2022، والتوقّف عن شراء الوقود الأحفوريّ من روسيا بحلول 2030.

وعلى خلافِ عقوباتِ 2014، تبدو الأخيرةُ أوسعَ نطاقًا (تشملُ العديدَ من الكياناتِ والأفراد)، أشدَّ وطأة (استخدام "الأسلحة النووية المالية")، أكثرَ تنوّعًا؛ تعتمدُ سياسة "الباب الموارب"، فيما يُعدُّ تحايلًا أو محاولةً لتخفيفِ الضرر العكسيّ.

لماذا العقوبات؟

بالطبع، لهذه العقوباتِ أهدافٌ معلنةٌ وأخرى مضمرة؛ إنّها معركةٌ كبرى تتجاوزُ اللحظة الأوكرانيّة: تتراوح الأهداف بين عزل روسيا، وإضعافها، دون الدخول في مواجهةٍ عسكريّةٍ مباشرةٍ معها، وإجبارها على وقف هجومها. مع وضوح الغرض الاقتصادي للعقوبات؛ تظلُّ الأهدافُ الاستراتيجيّةُ محلَّ جدلٍ في إطار الصراع على النظام العالمي، والهيمنة الإمبرياليّة المدفوعة بمصالح مراكز القوّة التي تتحكّم في القرار الأمريكيّ.

أبعادُ العقوباتِ وتأثيراتها

طبقًا لبوتين "الاقتصادُ الروسيّ صمدَ بحزمٍ أمامَ العقوباتِ الغربيّة". في الواقع؛ ثمّةَ 3 وجهاتِ نظر: (1) روسيا تئنُّ تحتَ وطأةِ العقوباتِ لكنّها لم تصل حدَّ توقيفِ هجومها (2) روسيا استطاعت أن تقلّلَ من تأثيرِ العقوباتِ بفضلِ استراتيجيّتها التي عملت عليها منذ 2014، لكن الأسوأ لم يأت بعد (3) روسيا استطاعت أن تردَّ بقوّة، وأن تجعلَ الغرب كمن يطلقُ النارَ على قدميه. على كلّ حال، الحربُ لم تضع أوزارها بعد، العالم كلّه يعاني من انعكاساتها كأزمتي الطاقة والغذاء. تنقسمُ الأوليغارشيّةُ الروسيّةُ إلى فريقين؛ قوميٌّ محافظٌ داعمٌ بقوّةٍ للحربِ ولا يأبه للعقوبات، وليبراليٌّ يرى أن روسيا تنزلقُ إلى مرحلةٍ طويلةٍ من الركود نتيجةَ للانفصال التام عن الغرب.

أمّا أنصارُ نظريّةِ معاناة روسيا، فيعزّون الأمرَ إلى نقاطِ ضعفِها البنيويّةِ وإلى شدّة العقوبات؛ فروسيا، بالرغم من قوّتها العسكريّة وثرواتها الطبيعيّة الهائلة، تشكّلُ ضررًا أقلَّ للغرب ممّا فعل الاتّحاد السوفييتي. يزعمُ هؤلاءِ أنّ الحربَ الحاليةَ ستكونُ كاشفةً لأوجه قصور العسكريّة الروسيّة، ما يخدمُ الاستراتيجيّات الغربيّة. أمّا حجمُ الاقتصاد الروسي فهو أصغرُ من اقتصادِ مدينة نيويورك، بينما كان الاقتصادُ السوفييتي أكثرَ تحصينًا، فاقتصادُ روسيا اليوم يعتمدُ كثيرًا على التجارة الخارجيّة والاستثمار. سوف تتأثّرُ أوروبا بالتأكيد، لكن روسيا ستعاني أكثر، فخياراتها محدودة. علاوةً على ذلك، فشراكةُ بكين معها لها حدودٌ سياسيّةٌ واقتصاديّةٌ واضحة. طبقًا لأقوال نابيولينا "روسيا في منطقةٍ هائلةٍ من عدم اليقين"؛ فبعدَ صدمةِ الأسواق المالية، بدأت العقوباتُ تؤثّرُ على اقتصاد روسيا الذي يدخلُ فترةً صعبةً من التغييراتِ الهيكليّة بسببِ العقوبات.

تعكسُ البياناتُ الاقتصاديّةُ آثارًا مباشرةً وغيرَ مباشرة؛ مثل ارتفاع التضخّم بشكلٍ حادّ (قد يصل إلى 20% بحلول نهاية العام)، انخفاض الإنتاج الصناعيّ (انهيار العديد من سلاسل التوريد، فقدان نحو 200 ألف فرصة عمل) وتباطؤ النمو الاقتصادي (الاقتصاد الكلّيّ قد ينكمشُ بنسبة 10%)، وإنْ فُرضَ حظرٌ شاملٌ على الوقود الأحفوري، فالأمرُ سيؤدّي إلى تجفيف موارد الدولة ويستنزف احتياطياتها، وبسبب العقوبات الماليّة، سوف يشعر المواطنون الروس بتأثير ذلك على القروض، وبالنسبة للشركات، المثقلة بالديون، فإنّ مخاطرَ الإفلاسِ ستزداد بسرعة. البديل الصينيّ في استيراد الوقود وتوريد التكنولوجيا سيجعل من روسيا تابعًا للصين!

أمّا أصحاب نظرية "صمود" الاقتصاد الروسي؛ فيردّون الأمرَ إلى الطبيعة المغلقة له، وكونه ليس مندمجًا بعمقٍ في العولمة الاقتصاديّة، وأنّه بعد عقوبات 2014، بات لدى روسيا استراتيجيّةٌ واضحةٌ معزّزةٌ بالتَّجرِبة في المواجهة وتجنّب المخاطر: تنويع احتياطيّات النقد الأجنبيّ، بديل يكرّر ويحاكي نظام SWIFT، إنشاء نظام الدفع الوطنيّ الخاصّ بها - ميركارد، إحلال الواردات في القطاع الزراعي، شراكات جديدة. إلى ذلك، الذين يفرضون العقوبات "قلّة" من الدول؛ والعالم، والغرب كذلك، لا يستطيع أن يستغني عن النفط والغاز والحبوب والمعادن التي تصدرها روسيا.

كيفَ واجهت روسيا العقوبات؟

يُعتقدُ أنّ روسيا صمدت في وجه العقوبات بفضل اعتمادها التكتيكات الصحيحة، بينما قد لا يتجاوز الغرب تبعاتها. من بين هذه التكتيكات جعل الاقتصاد أكثرَ اكتفاءً ذاتيًّا، وإيجاد موردين وشركاء جدد، وأيضًا تطوير ممرّات لوجستية/موانئ على بحر قزوين، الانتقال إلى الروبل الرقمي، التحكّم في أسعار الفائدة خفضًا ورفعًا، منع خروج العملة الأجنبيّة، هذا علاوةً على الإجراءات والتدابير الاستراتيجيّة المتّخذة منذ 2014. ومع ذلك، فثمة مخاطر: خروج التضخّم عن السيطرة، الاقتصاد لن يتحملَ أكثرَ في حالِ تشديد العقوبات واستمرارها، التعافي سوف يستغرقُ وقتًا طويلًا، وسيواجه المنتجون/الموردون صعوبةً في التكيّف، ستواجه البلاد خطر التخلّف عن سداد الديون، إغلاق المزيد من المصانع والشركات وارتفاع نسبة البطالة، وما يصاحبها من فقرٍ واحتقانٍ اجتماعيٍّ وسياسيّ.

إلى ذلك، وجّهت روسيا رسالةَ تحذيرٍ قويّة: إنّها لا تنوي الاستمرار في تحمّل ممارسات الغرب "التخريبيّة" المتمثّلة في استبدال القانون الدولي بنظامها الخاص، وهي تفعّلُ ذلك في ساحة المعركة وفي الردّ على العقوبات!