Menu

الرجعية العربية: أداة تنفيذية متطورة علنية وجريئة

اسحق أبو الوليد

منذ أن كرست التشكيلة الرأسمالية نفسها كتشكيلة تاريخية وأنجزت انتصارها على التشكيلة الإقطاعية في القارة الأوروبية، انتقل الصراع من صراع بين التشكيلة البائدة والتشكيلة المنتصرة، إلى تناقض وصراع طبقي داخلي بين مكونات وجزيئات التشكيلة الطبقية الجديدة التي أرست أسس نظامها الخاص، الحاوي كما سابقاته على بذور فنائه في طياته.

تصدرت بريطانيا، الدولة الصناعية الأولى والمتقدمة، القيادة في النظام الجديد، وفرضت رؤيتها وهيمنتها وسيطرتها على القسم الأكبر من المناطق المهمة والاستراتيجية في العالم ومنها وطننا العربي، المنطقة الاستراتيجية والحيوية الأهم في العالم، بسبب موقعها الجغرافي وإطلالتها على عدة بحار، وشاسعة أراضيها الزراعية وما تحتويه من ثروات باطنية هائلة، وخاصة النفطية وامكانيات استهلاكية استثنائية، وخاصة من دويلات العشائر والقبائل النفطية.

 بريطانيا التي أدركت ضرورات واحتياجات تطور النظام الرأسمالي العالمي، نسجت ورْكْبت الخطط الاستراتيجية التي يمكن لها أن تفي بهذا الغرض. كان من أهمها على الإطلاق إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ليس حبا ورأفة باليهود، بل من أجل السيطرة على الوطن العربي خدمة لمصالحها، وكما يتضح من دراسة الوثائق التاريخية يمكن الجزم أن هذه الخطط سبقت تأسيس الحركة الصهيونية العالمية على يد رأسماليين يهود من غرب وشرق أوروبا بقيادة هرتزل. وكما هو معروف تلقت الحركة الصهيونية بعد الإعلان الرسمي عن قيامها، كحركة منظمه عام 1896، الدعم المطلق والتسهيلات الواسعة التي توجت بوعد بلفور.

 هذا "الوعد" مثل في الحقيقة الحلقة المركزية والعمود الفقري في الاستراتيجية الإمبريالية لإحكام السيطرة والقبضة الحديدية على الوطن العربي، بإجراء تغير جغرافي ـ جيوسياسي وديموغرافي عليه، يضمن عدم حدوث تغيرات دراماتيكية على طبيعة الأنظمة التي سينصبها الاستعمار كحارس لمصالحه الاقتصادية ـ السياسية والأمنية، ولمصالح النظام الرأسمالي العالمي بشكل عام. ارتباطا بذلك أدرك مفكريه وصانعي القرار بشكل مبكر وجيد حجم احتياجات "مشروعهم الاستعماري الصهيوني" الأمنية والعسكرية والاقتصادية الذي سيقام في وسط عربي معادي ورافض لوجوده. بناء على ذلك تم تشكيل شبكة البيئات الدولية والمحلية (الأنظمة الرجعية) الحاضنة التي تضمن استمراريته وتفوقه، مما استدعى وفرض، وما زال يستدعي ويفرض، ضمان أمن وتفوق هذا الكيان الذي أقيم في فلسطين كتلبية لضرورة إمبريالية استراتيجية. لذا يصبح جليا أن إقامة الكيان الصهيوني شكل نقطة التحول الاستراتيجي في مسار تطور الوطن العربي، وكانت البداية العملية في تنفيذ الخطط الإمبريالية، لتجزئته وفرض أنظمه تابعه وعميله، يعتمد استمرارها في السلطة على مدى خدمتها وإخلاصها لمشاريع المركز الإمبريالي الصهيوني، من أجل تأمين عملية نهب وسرقت خيرات الوطن العربي، التي شكلت مع ثروات شعوب أخرى ما زالت تنهب بكل قسوة وشراهة، العامل الأساسي والرئيسي في بناء وتشييد المدن الشاسعة والأوتوسترادات وشبكات الطرق الحديثة والمصانع الضخمة وناطحات السحاب والبواخر، بل ويعود لها الفضل الأكبر في تحقيق النظام الرأسمالي العالمي لتفوقه الهائل حتى الآن.

 خلال تلك الحقبة، لم تكن الانجازات بحجم التضحيات التي قدمتها الجماهير العربية في مقاومتها للاستراتيجية الإمبريالية، فبرغم الإطاحة بأنظمة خلفها الاستعمار في كل من مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن والجزائر، بقي مركز الثقل الاقتصادي والمالي العربي، الكائن في أحد أهم مصادر الطاقة العالمية، تحت سيطرت الاحتكارات الإمبريالية والصهيونية وفي يد الأنظمة المتخلفة وكيلة الاستعمار التي منذ ذلك الحين لازمها الشعور بالخطر على عروشها وامتيازاتها من شعوبها، وخاصة بعد انتصار الثورة القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر في مصر والتي ساهمت في تمدد ونمو  الفكر القومي الثوري والتقدمي في الوطن العربي بشكل كبير وسريع، هذه التحولات الجذرية أرعبت حكام شبه الجزيرة العربية (النفطية) وخاصة آل سعود، التي احتكرت السلطة والثروة وفرضت الهيمنة على دويلات العشائر النفطية، الذين أصبحت مهمتهم المركزية الإطاحة بعبد الناصر ومقاومة القوى الثورية وما سمي بالتمدد الشيوعي.

هذه الأنظمة وضعت على جدول أعمالها التآمر على نظام عبد الناصر وعلى كل الأنظمة التي هي خارج السيطرة الإمبريالية واعتبرتها العدو المباشر لها، وأخذت تنخرط في مشاريع الثنائي الإمبريالي الصهيوني لمواجهة ما يسمونه "بالعدو المشترك" والتي توجت بعدوان السادس من حزيران عام 1967 الذي شنه الكيان الصهيوني بالنيابة عن الإمبريالية ووكلائها وبدعمهم الكامل أيضا، هذه الحرب أظهرت وجهان متناقضان للواقع الجديد. الوجه الأول هو صورة الانتصار الاستراتيجي، الذي استطاع الكيان الصهيوني أن يحققه بسهولة وسرعة قياسية نمت لديه الشعور بالعظمة والتفوق، والذي لم يكن له أن يتحقق بدون الدعم الكامل من قبل الإمبريالية والأنظمة النفطية التابعة لها. أما الوجه الآخر لتلك الحرب تمثل في الهزيمة التي لحقت بالأنظمة العربية القومية وانكشاف عجز بنيتها وبرامجها التي لم تكن بمستوى التحدي التاريخي في كل من مصر وسوريا، واتضاح تواطؤ النظام الملكي في الأردن مع العدوان، واشتراكه مع أنظمة النفط في مشاعرها وأهدافها. بالمقابل حدث تحول نوعي استراتيجي في الجانب الاخر من واقع الهزيمة المؤلم ومن قلب التناقضات في الوطن العربي، تمثل في انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة التي فرضت البعد الحقيقي لطبيعة وجوهر الصراع العربي الصهيوني وللنضال الفلسطيني من أجل التحرير والعودة، وكرست القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني عادله حظيت على الدعم والتأييد، من كافة حركات التحرر ومن الدول التقدمية وقوى اليسار في العالم، ومن مؤسسات النظام العربي الرسمي الذي لم تكن حكوماته متجانسة ومتوافقة. ففي الوقت الذي وقفت فيه أنظمه عربية وطنية بصدق مع الثورة الفلسطينية ودفعت ثمن مواقفها دماء اختلطت بالدم الفلسطيني، استمرت الأنظمة الرجعية النفطية وغير النفطية الموالية للإمبريالية والصهيونية في نفس سياساتها ونهجها المعادي للتحرر والاستقلال والسيادة الوطنية، معتبرة الثورة الفلسطينية عدوها الأول ومصدر الخطر على عروشها ومصالحها وامتيازاتها، مما وضعها في دائرة الاستهداف المباشر للقضاء عليها في كل من الأردن ولبنان، ملتقية من جديد مع المركز الإمبريالي الصهيوني في الاصطفاف ضد ما يسمى "بالعدو المشترك" وشمل التآمر كل من يدعم الثورة الفلسطينية من حركات شعبيه وأنظمة سواء كانت عربية أو غير عربية. 

أما الحركة الصهيونية فقد استغلت فترة الهدنة مع الأنظمة العربية المحيطة بفلسطين، التي امتدت منذ عام 1948 حتى عام 1967، من أجل تغير الطابع الديموغرافي لفلسطين وبناء بنية تحتية حديثة وعصرية اقتصادية إنتاجية صناعية وتكنولوجية، وتطوير القطاع الزراعي ونظام الري كشروط ضرورية لتطور أي نظام برجوازي، ومن أجل التسريع في إقامة وترسيخ مؤسسات "الدولة" الصهيونية العسكرية و "المدنية" القادرة على استيعاب المستوطنين، المستعمرين الجدد واستثمار المساعدات السخية التي قدمتها لها الدول الإمبريالية، لإنشاء "مجتمع" متفوق كأساس وأرضية لمشروع استعماري احلالي توضع تحت تصرفه كل الامكانيات الضرورية، من أجل إقامة دولة تخوض الحروب العدوانية بالوكالة أو للمساهمة في حروب تحتاجها الإمبريالية والنظام الرأسمالي لضمان سيطرتهم على ثروات ومقدرات الوطن العربي ومناطق أخرى من العالم. 

الإمبريالية العالمية، وخاصة الأمريكية، قدمت لهذا الكيان العدواني الفاشي كل ما يلزم ويحتاجه من أجل تمكينه أن يلعب دور الأداة التي تخدم مصالحها وتحميها، وشكلت له الغطاء الإعلامي والمظلة الدولية والحماية القانونية لتنفيذ استراتيجيتها العدوانية ضد الوطن العربي وتعهدت له مبكرا "أن لا تقدم أية مبادرات لحل النزاع في المنطقة قبل عرضه على المسؤولين الإسرائيليين ونيل موافقتهم المبدئية عليها"، هذا التعهد الذي أعيد التأكيد عليه بعد حرب تشرين عام 1973 هو دليل قاطع على أن الولايات المتحدة تعتبر الكيان الصهيوني جزءا من مصالحها ومن أمنها ولا يمكن أن يُراهن على حياديتها أو يطلب منها أن تكون منصفه في تعاملها مع أطراف الصراع العربي الصهيوني، وبالتالي من يوقف النضال على مذبح انتظار المبادرات الأمريكية بين فترة وأخرى ليرى ما جديدها هو عمليا متواطئ ومتآمر من أجل تمريرها، كما حدث مع مبادرة ترامب التي سميت "صفقة العصر" وما يحدث الآن مع مبادرة بايدن "إعلان القدس " التي كل منهما يكمل الآخر.  

إن الانتصار العسكري السريع الذي حققه العدو الصهيوني في حزيران عام 1967، واحتلاله لما تبقى من فلسطين ولأراضي عربية شاسعة، مرتفعات الجولان السورية وشبة جزيرة سيناء المصرية، منحه الفرصة والقوة لاستكمال فرض المشروع الإمبريالي الاستعماري جغرافيا واقتصاديا على الوطن العربي، وأصبحت الظروف الموضوعية أكثر نضجا ومؤاتيه لإتمام تحوله من "دولة" قوية إلى "دولة" مركزية، تطمح أن تلعب دورا مزدوجا في المنطقة، ينقلها من موقع الأداة إلى موقع الأداة والشريك للإمبريالية، لتأمين حصته من نهب خيرات وثروات الوطن العربي كثمن "لدفاعه" عنها من "خطر" وقوعها بيد شعوبها، وعن الأنظمة التابعة والعميلة التي خلفها الاستعمار، التي أخذت تتبنى علنا وبدون خوف أو إحراج  الادعاء الإمبريالي الصهيوني أن "الخطر" المشترك الداهم على الوطن العربي وإسرائيل وأمريكا يأتي من "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" الذي هو "العدو" التاريخي اللدود للأمة العربية كما يدعون، وبناء على هذه الحجج والمزاعم أخذت العديد من الحكومات العربية تشهر علاقاتها الودية والحميمة مع الكيان الغاصب وتقيم العلاقات الكاملة معه وتطمح لبناء حلف عسكري أمني بقيادته، وتحت المظلة الأمريكية بما يتوافق مع هذه المرحلة، مرحلة اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وأسلو وأخيرا اتفاقيات إبراهام، التي هي مرحلة الأنظمة العربية المستسلمة وخيار البرجوازيات العربية الكومبرادورية والريعية، وليس مرحلة وخيار الجماهير والشعوب العربية، التي ترفضها وعلى أتم الاستعداد لمقاومتها ووأدها.

إن مهمة وأد الخيانة وتحرير الإرادة والطاقات العربية وفي المقدمة الفلسطينية، تشترط إلغاء كل هذه الاتفاقيات الموقعة مع العدو التي تتنكر للمصالح  القومية وتنتهك الأمن القومي العربي وتهدد التراث والتركيبة الاجتماعية والسلام الاجتماعي، من خلال إعطائها شرعيه للكيان الصهيوني الاستعماري الفاشي على أرض فلسطين، وفتحها الأبواب على مصرعيها، ليس فقط للتعايش "الفلسطيني" الصهيوني، بل وبحجته للتعايش الصهيوني ـ العربي، التي تعمل من خلالها الحركة الصهيونية على صهينة المجتمعات العربية ومعتقدات شعوبها من خلال بوابة ما يسمى التسامح والتطبيع وقبول الآخر.