Menu

غسّان الضدّ الإنسانيّ لروايةٍ أرادت أن تحتكرَ صورةَ الضحيّة...!

أكرم عطا الله

نشر هذا المقال في العدد 40 من مجلة الهدف الإلكترونية

لماذا اغتيل غسّان؟

سؤالٌ شديدُ البساطةِ وشديدُ التعقيد؛ إجابتُهُ سهلةٌ، لكنّها صعبةٌ في آن، لقد تمَّ اغتيالُ غسّان كنفاني؛ لأنّه كاتبٌ ومثقّفٌ وقياديٌّ في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، لكن إسرائيل كما رسمت صورةً عن نفسها تغتالُ فقط من عملوا في العمل المسلّح، وهنا تكمنُ صعوبة الإجابة والفهم للحظة، ولكن الأمر غير ذلك بالنسبة لعالمٍ يعرف ويفهم لماذا لاحقت إسرائيل وديع حداد وخليل الوزير، لكن أن تغتالَ غسّان كنفاني وكمال ناصر؛ فتلك لا تنسجم مع ما روّجته عن نفسها.

في ذلك اليوم من تموز؛ أفاقت بيروت على الانفجار الذي لم يكن عاديًّا ليطير الخبر إلى الصحافة العالميّة باغتيال الروائيّ والناطق باسم الجبهة الشعبيّة، وهنا يكمن السرّ؛ لأنّ الكاتب الكبير الذي تمكّن من الحضور في الصحافة الدوليّة ليعطي للقضية بعدها الرمزي ويعطي للضحية حضورها؛ في لحظة كانت إسرائيل التي قامت بجريمة طرد شعب بأكمله؛ تعتاش على روايتها ضحيّةً للنازيّة، وهنا كان لا بدَّ من إسكات تلك الندبة؛ لضمان احتكار الرواية التي بدأت تختل على مستوى العالم، وهناك كان غسان.

في رواياته التي كتبها مبكّرًا كان البعد الإنساني المنافس هو الأكثر حضورًا، فالنّصوصُ التي قدّمها وما زالت حيّةً حتّى اللحظة، كانت بقوّتها وصدق تعبيرها قادرةً على التأثير والاختراق والانتصار لمظلومية، كان يجب أن يسدل الستار على روايتها لحظة تفرقت نهاية أربعينات القرن وتعرضت للضربة الأكبر ولم يبقَ من حضورها الثقافي ما يمكن أن يعيد لها هذا التماسك الذي قدمه غسّان كنفاني في ظرف كان كلّ شيء يبدو منهارًا، والحديث عن القصّة والرواية كان شيئًا من الترف، لشعب كان يفتّش عن خيمةٍ ليجيءَ غسّان حاملًا بوصلةً لهذا الشعب حتى لا يبقى في الخيام قائلًا: "خيمة عن خيمة تفرق"، أي خيمة المقاومة عن خيمة اللجوء.

كتب أولى رواياته نهاية ستينات القرن الماضي والتي صدرت عام 69 "عائد إلى حيفا"، كان عمره يعد في عمر طالب الجامعة حينها، ولكن الأهم في تلك الفترة كانت الثورة الفلسطينية تتلمس طريقها وهي ترمم شعبها باحثة عن وسائل العمل، وحينها لم يكن حديث السياسة قد بدأ بعد، وفقط ثقافة العمل المسلح، وهنا إذا ما أُريد لنا أن نؤرخ تاريخ الثورة، يمكن أن ننسب الفضل ل غسان كنفاني باعتباره المثقف الذي أراد للثقافة أن تكون موجهاً للبندقية وأعطى تلك البندقية هذه الهالة الإنسانية الواقعية لتتكئ عليها في صراعها الإنساني. هكذا ناقشت رواياته القضايا الإنسانية للفلسطيني الذي طرد بالقوة من وطنه وكضحية للاستعمار، حاولت الرواية النقيضة أن تتسيّد على مستوى العالم كرواية وحيدة ومن هنا كان الاغتيال.

إذا ما عدنا لتلك المرحلة ومناخاتها ربما نقف على اللغز المكشوف، فقد كان غسان كنفاني الشهيد المثقف الأول الذي تم اغتياله بهذا الصخب، نظراً لما قدمه ولشهرته الواسعة، لكن إسرائيل كانت قد بدأت بحملة اغتيالات لكل المثقفين الفلسطينيين، فقد نجا أنيس الصايغ رئيس مركز الدراسات الفلسطينية من محاولة اغتيال بعد اغتيال غسان بأقل من أسبوعين، أصيب في وجهه وعينه وفي نفس الفترة أيضاً أرسلت بريداً متفجراً لعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بسام أبو شريف وهو من ترأس تحرير مجلة الهدف وأصبح ناطقا باسم الجبهة الشعبية، بعد اغتيال غسان. وبعدها بثمانية أشهر كانت تغتال الشاعر كمال ناصر والإعلامي صاحب الطلة المؤثرة كمال عدوان وهما من قيادة حركة فتح، وأيضاً شمل قرار الاغتيال علي سلامة صاحب التأثير القوي. فقد أرادت إسرائيل تصوير الفلسطينيين كشعب بدائي غير قادر على التعبير عن ذاته ببندقية غير موجهة وبلا رسالة مؤثرة وبلا بعد إنساني لقصتهم، تمكن هؤلاء وفي أًصعب الظروف من تحقيق عكس كل ذلك وخلال سنوات قصيرة جداً.

كانت إسرائيل قائمة على تبريرات ثقافية بالأساس ومؤثرة في إعلام غربي، كان مسكوناً بالمحرقة وقامت دعايتها على تشويه الإنسان الفلسطيني، ليجيء غسان من حيفا لفتح نافذة كبيرة على الصحافة الدولية، يتحدث الإنجليزية بطلاقة، تمكن من المزاحمة وبقوة كان يتحول إلى صحفي يأخذ زمام المبادرة في المقابلات، ليلقي بوجه العالم أسئلته التي لا يمكن الإجابة عليها إلا بالاعتراف بالكفاح الفلسطيني وشرعية نضاله وعدالة قضيته، وتلك كانت أخطر ما يمكن أن تواجهه إسرائيل حينها. وقد كانت رواياته تمثل التجسيد الحي للنكبة، حاملة صورة حية لواقع الصراع على حقيقته الإنسانية في اللحظة التي كان العالم خارجاً للتو من حرب عالمية رافعاً شعار الإنسانية.

عاش غسان ستة وثلاثين عاماً وهي سن مبكرة ومدهشة، قياساً بما قدمه من عمل أدبي ملأ الكون.. ولو بقي حياً لقدم أدباً عالمياً، يضاهي في حضوره كبار الروائيين على مستوى العالم، لكن حملة التصفية الثقافية التي قامت بها إسرائيل لم تمهله، ليخسر العالم واحداً من كبار كتاب الرواية الإنسانية وخسر الفلسطينيين واحداً من الذين سيعثرون على بندقيتهم في كتاباته، كما أشار الشاعر محمود درويش وهو يرثي رفيقه.

كان الأصدقاء في الجبهة الشعبية، يحفظون اسمه في ساعات وقتهم، وكثيراً منهم كان يسمي ابنه الأول غسان تيمناً وليبق الاسم حياً، فالكتَّاب يَحفظون أسمائهم بما تركوه من إرث كان غسان أبرزهم، ذات مرة كنت ضيفاً على العشاء في منزل أستاذ التاريخ بجامعة أكسفورد "آفي شلايم" وكانت زوجته مدام "جوان" حفيدة لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني فترة وعد بلفور، حيث كان بلفور وزير خارجيته، وهي من أشد المؤيدين للقضية الفلسطينية قالت لي يومها: "أتعرف أنا أصبحت مؤيدة للشعب الفلسطيني من روايات غسان كنفاني وأشعار محمود درويش".. ثم بدأت تعيد تلخيص رواية رجال في الشمس بتعابيرها الحزينة.. هنا كان سر غسان الذي وصل إلى أقاصي العالم، ولكنه ما زال مؤثراً بعد غياب نصف قرن.. يا لهذا الثوري المبدع...!