Menu

تبعاتُ الهجرةِ وتداعياتها على المجتمع الفلسطينيّ

إلهام الحكيم

نشر في العدد 42 من مجلة الهدف الرقمية

كاتبةٌ فلسطينيّة/ تركيا

تتوالى السنواتُ العجافُ على مختلِفِ الساحاتِ "فلسطين، سوريا، لبنان..."، ما يجعلنا نقفُ متأمّلين بما يحصل، وتأثيره على مجتمعنا الفلسطينيّ الذي تجدّدت تغريبته وتوزّع أبناؤه في أصقاع الأرض كافةً، وازدادت رقعةُ شتاته بين شرقٍ وغرب، وبين عربٍ وعجم!

هذا الشتاتُ القسريّ هربًا من الموت إلى الحياة عبرَ قوارب الموت، والشتات الطوعي باختيار المكان الذي يرغبه لاستمرار حياته فيه عابرًا الأقاليمَ والقاراتِ وصولًا لملجئه الآمن والحياة المستقرّة الكريمة.

دوافعُ الهجرة والشتات المتجدّد!

مع ارتفاع وتيرة هجرة الشباب الفلسطينيّ من مختلِف الساحات التي يوجد بها شعبنا تباينت المواقف بين مؤيّدٍ ومعارضٍ لها، ولكلٍّ وجهةُ نظره ومبرّراته التي يدافع عنها، ويعدّها الخيارَ الصحيح، حيث يرى البعض أنّ الهجرة كانت خيارًا من خياراتٍ عدّة أحلاها مرّ، فالأب يريدُ الفرار بأبنائه حرصًا على حياتهم، ودرءًا للرعب والموت والفاقة عنهم، ولم يكن أمامه سوى ركوب قوارب الموت والمضي قدمًا تجاهَ الدول التي ترعاه وعائلته، وتؤمّن لهم العيش الكريم، الهدوء النفسي، الاستقرار، التعليم لأطفاله، والعمل له وللزوجة وللشباب، هذا الخيارُ الصعبُ نتيجةَ عوامل وظروف عدّة تختلف باختلاف مكان الوجود:

لبنان: نظرًا للشروط المجحفة والقوانين العنصريّة المطبّقة على اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان، وغياب حقوقهم المدنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وعدم الاستقرار الأمني، والعيش بظروفٍ مأساويّةٍ لا تضمنُ لهم الحدَّ الأدنى من الشروط الإنسانيّة، خاصّةً الأكاديميّين وأصحاب الكفاءة المهنية الممنوعين من ممارسة عشرات الأعمال المتناسبة مع كفاءاتهم، وترافق ذلك مع تقليص الأونروا لخدماتها الصحيّة والتعليميّة والاجتماعيّة، إضافةً لعجز الفصائل عن تأمين البدائل والاستقرار داخل المخيّمات، خاصّةً مع انتشار العديد من الأمراض الاجتماعيّة والاقتصاديّة الخارجة عن القانون، كلّ ما سبق وغيره كثير اضطرّ العائلات، وخاصّةً الشباب منهم، للتفتيش عن البدائل التي تحقّق لهم الكرامة والإنسانيّة، فلم يجدوا أمامهم سوى الهجرة للغرب بعد إغلاق الدول العربيّة حدودها بوجههم!

سوريا: إنّ دمار العديد من المخيّمات نتيجةَ النزاعات المسلّحة على مدى عقدٍ كامل، وتهدّم البيوت ومن ثَمَّ ضياع جنى العمر، بالتزامن مع ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب، خاصّةً حَمَلة الشهادات، ومن ثَمَّ تدني المستوى الاقتصادي وضيق اليد ذاتها، تلك المستجدات المأساوية دفعت الفلسطينيين للتوجّه نحو الخيار الأصعب - الهجرة - منذ لحظة اتّخاذ القرار مرورًا بالتنفيذ قاسي الشروط، وصولًا للمبتغى.

غزة: كان لاستمرار الحصار البري والبحري والجوي على القطاع منذ الانسحاب الصهيوني الأحادي عام 2005، وتكرار العدوان عليه والتعرّض لأربعٍ حروبٍ تدميريّةٍ أدّت لدمار معظم البنية التحتيّة "مدارس، مؤسّسات صحيّة وكهربائيّة ومائيّة، مصانع وشركات خدميّة، أبنية وبيوت... إلخ" وإبقاء العائلات مشرّدة بالخيام أو بيوت الأهل والأقارب، نتيجة عدم القدرة على إعادة إعمار منازلهم المدمرة، وتقصير الأونروا والدول المانحة بإعادة الإعمار وتقديم المساعدات المرجوّة، إضافةً لاستمرار الانقسام الفلسطيني البغيض...! كل ذلك أدى لتراجع الوضع الاقتصادي وارتفاع نسبة البطالة وتفاقم الأزمة المعيشية، ما يضطرّ الشباب للتفتيش عن البدائل لتحسين الوضع الاقتصادي للعائلة، فتكون الهجرة أحد الحلول القاسية.

الضفة الغربية: كان لانتشار الفساد والواسطة والمحسوبية في السلطة أثرٌ كبيرٌ على واقع الشباب وانتشار البطالة في صفوفهم خاصة الأكاديميين منهم؛ ما دفعهم للتوجّه نحو سوق العمل بمهنٍ لا علاقة لها بشهاداتهم التخصصيّة "مهن حرّة" وأكثرهم يعمل بورشات البناء داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، رغم معاناتهم بالوصول إلى أماكن عملهم؛ لوجود جدار الفصل العنصري الذي يعدّ شكلًا من أشكال الحصار والأبارتهايد، إلى جانب سياسة التضييق الصهيوني عليهم، وانتشار الحواجز التي تعيق حركتهم، يضاف لها الشروط المجحفة للعمل، فتوجهت أنظارهم للهجرة نحو الغرب أو بعض الدول العربية.

الداخل الفلسطيني المحتلّ 1948: كان لارتفاع وتيرة العنف والجريمة في صفوف الفلسطينيين أثرٌ كبيرٌ على المجتمع الفلسطيني، خاصّةً فئة الشباب التي بات سقف طموحها الأمان وتفادي القتل على أيدي العصابات المنظمة المتمتعة بحصانة المحتل الذي زرعها في صفوف المجتمع الفلسطيني، وأمدّها بالسلاح لينشر الجرائم فحصدت منذ عام 2000 " 1682 قتيلًا"، كما شجع الاحتلال على نشر المخدرات ومختلف أنواع الموبقات مع ارتفاع نسبة البطالة؛ ما دفع فئةً من الشباب للانقياد وراء إعلانات التشجيع على الهجرة هربًا من الموت والوضع الاقتصادي السيئ رغم تمسكهم بالأرض والهوية والانتماء... وبهذا حقّق العدو مبتغاه بإفراغ البلاد من بعض أهلها إثر اختيار الشباب للهجرة الطوعية، مع ضعف السلطات المحليّة الفلسطينيّة بمكافحة الجريمة وانعدام التكافل المجتمعي إلا من بعض مبادرات مؤسّسات المجتمع المدني والهيئة ال قطر ية المحلية وتضافر جهود الأخوة محمد بركة وأيمن عودة والشيخ رائد صلاح الذي أنشأ لجنة إفشاء السلام القطرية.

مغامرات محفوفة بالمخاطر على طريق الحلم الموعود:

بعينٍ متفحّصةٍ لما سبق نجد بعض القواسم المشتركة والعوامل المشجّعة على الهجرة من الوطن ومخيّمات اللجوء أهمّها " فقدان الأمن وتدني المستوى المعيشي " مما يدفعهم لسلوك طرقٍ لا تكاد تخلو من المغامرة والتعرض لشتى أنواع الخطر على يد تجار البشر من المهربين المنتشرين في بعض الدول التي تعدّ محطّات مؤقّتة " تركيا، اليونان، ليبيا، السودان ، تونس، المغرب وغيرها"، على طريق الوصول إلى "أرض الأحلام"، عبر البحار التي لم تتوانَ عن ابتلاع المئات من راكبي زوارق الموت، كما لم تقصّر الغابات باقتناص غيرهم ممن آثروا المضي فيها مشيًا على الأقدام فيقضون نحبهم جوعًا أو تجمّدًا أو بلسع الأفاعي والعقارب أو التيه في غياهبها، هذا في حال نجاة المهاجرين من الاعتقال والتعذيب على يد الميليشيات طلبًا للفدية - ليبيا - أو من المهربين وتجار البشر الذين يستغلون لهفة طالب الهجرة للمغادرة قبل نفاذ تحويشة العمر من النقود التي حصل عليها بعد بيع كل ما يملك!

العودة حق مقدس والهجرة لا تعني التخلي عنه:

يوجه البعض الاتهام لمن هاجروا ولم يصبروا حتى تغيير الواقع، وكيف يعرّضون أنفسهم وأهلهم للتهلكة عبر رحلات الموت، وأنهم بتلك الخطوة يتخلون عن هويتهم الوطنية، فيرد الطرف الآخر على التهمة باضطرارهم للإقدام على ذلك مكرهين بهدف حماية أبنائهم من الحياة المزرية أو الموت، وبهدف تأمين العيش الحرّ الكريم لهم ولعائلاتهم، مع الإجماع على الأهداف المستقبليّة بالحفاظ على الهُويّة الفلسطينيّة والتمسّك بالانتماء الوطنيّ ورسم طريق العودة الذي أقرّته القوانين والشرائع الدوليّة بغض النظر عن مكان الإقامة، وأنّهم سوف يتابعون دفاعهم عن ذلك الحقّ وسيواصلون النضال بأشكالٍ أخرى - تتناسب و تتوافق مع قوانين الدول التي انتقلوا إليها - تحقيقًا لذلك، مستفيدين من الجنسيّة وجواز السفر الغربيّ اللذين يسمحان لهم بزيارة البلاد، ثم الأمل لاحقًا بالعودة النهائيّة، عبر أبنائهم إن لم يتسنَ لهم ذلك، وهم يواظبون على اللقاء سنويًّا في مختلف العواصم الأوروبيّة بشكلٍ دوريٍّ وبالتناوب ضمنَ ملتقياتٍ شبابيّةٍ ونسائيّةٍ لتبادل الخبرات والاتفاق على آلية عملٍ للاندماج في مجتمعات مناطق اللجوء والاغتراب مع التمسّك بالهُويّة الوطنيّة وحقّهم بالعودة إلى بلدهم الأصلي، وتشكيل منابرَ إعلاميّةٍ متنوّعة - حيث أمكن - لنشر الثقافة الفلسطينيّة بحياديّةٍ وموضوعيّةٍ بعيدًا عن الحزبيّة والفصائليّة، وتنشئة الأطفال على الارتباط بقضيتهم الأساس، علمًا بأنّ الكثير من الأطفال أبدعوا وتفوّقوا إلى جانب الشباب والشابات الذين استطاعوا ترسيخ حضورهم الإبداعي المتميز أكاديميًّا وثقافيًّا وفنيًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا، كما أن بعضهم وصل لعضوية المجالس المحلية والبلدية وحتى البرلمانات حيث يمارسون حقهم القانوني والدستوري بإثبات الذات وإعطاء صورة إيجابية عن المجتمع العربي الفلسطيني داخل المجتمعات المنضويين فيها، كل ما سبق يترافق بالتواصل والتنسيق مع الطاقات الأكاديمية في الجامعات، والنقابات والاتحادات المهنية، والأحزاب اليسارية والديمقراطية المتنوّرة في تلك الدول حسب القوانين المرعية، وتندرج هذه التحركات الشبابية تحت مسمى "المقاومة الشعبية الشاملة" تحديداً "B D S" و "I S M" التي أدت لزيادة المتضامنين الغربيين مع القضية الفلسطينية وتوسيع تحركهم السلمي الذي أثّر على الاقتصاد الإسرائيلي وكبّده خسائر فادحة، مما دفع الاحتلال الصهيوني لتشكيل خلية أزمة لملاحقة ومطاردة هؤلاء الشباب الذين يساهمون بمقاطعة منتجات المستوطنات والجامعات والمؤسسات المتعاملة مع المستوطنات... لكن ذلك لم يؤثر على تحركاتهم العادلة.. وسيبقى هدفهم الأسمى العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس .