(بعد صدور قصته/ سرديته الأولى الموسومة: بين لثام ولثام، والتي صدرت بالتزامن مع الذكرى الثالثة لعملية "عين ببوين" البطولية، يطل علينا البطل الفلسطيني الأسير قسَّام البرغوثي، ابن 28 ربيعًا، من سجن نفحة الصحراوي، بقصته/ سرديته الجديدة: صدأ الاغتراب، ويضع أمامنا حمولته من الوعي المتقدم في ذلك الحوار المُتجسد بين أبطال قصته/ سرديته: ميار وناصر، بعد أن طال "صدأ الاغتراب"؛ الوعي والانتماء وأجزاء المسدس، التي عادت إلى لمعانها مع عودة الوعي والانتماء، كما جاء في مقطع من القصة/ السردية: "في البيت، نزعت عن المسدس لفافات القماش والخيش وقد وصل الصدأ لأجزاء منه، أخذت أنظفه قطعة قطعة حتى عادت تلمع كما كانت قبل عشرين عامًا، عندما كانت مع جمال. أعدت تركيبه، أمسكته من مقبضه ورحت أحاوره وأعتذر له: لقد كنت صدئًا مثلك. فحين يصدأ الإنسان يتخلى عن سلاحه ويتركه للصدأ، أو يصبح سلعة للبيع.
قراؤنا الأعزاء نضع بين أيديكم، القصة/السردية: صدأ الاغتراب.. ونحن متحفزون لعودة الوعي والانتماء ولمعان المسدس.. أي مغادرة صدأ الاغتراب).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ميار
أنهيت تدقيق قصتي الأخيرة، نشرتها على صفحتي الشخصية، وفكرت بتناول كأس شاي ثقيل يشبه لون شعري كما كانت تقول أمي. جهزت الإبريق ثم خرجت لأقطف النعنع. رغم كآبة أيام الخريف أنعشتني النسائم الباردة وراحت تداعب خصلات شعري، وقفت لأملأ صدري بذلك الهواء النقي. أدهشني مشهد الغروب الذي تتراكض فيه الغيوم هربًا من قرص الشمس، قطفت ورقات النعنع وعدت لأجهز الشاي بسرعة قبل أن يفوتني مشهد ذلك الغروب، رحت أشرب الشاي مستمتعة بطعمه وبذلك المشهد الذي يوحي لي بقصص قادمة. صحيح أن معظم الأفكار التي تأتيني في هذا الوقت تكون سوداوية لكنها ملائمة لبعض القصص، ألاحظ تشقق التربة المحيطة بجذوع الشجيرات، أفكر بسقايتها فتبدو لي تلك الغيوم أنها تحمل الخير، لكنني لن أنتظر الخير من غيوم تهرب. فتحت خرطوم المياه على شجرة وتناولت هاتفت وسجلت المدونة:
تبدو الغيوم الآتية أنها تحمل المطر، لكن عليَّ أن أرى الأشياء كما هي لا كما تبدو أو تحاول أن تبدو عليه، عليَّ أن أراها بعمق إنها تهرب، ومن يهرب لا يجلب معه الخير.
وصلتني رسالة من زوجي يريدني أن أعد له ولضيف معه القهوة. نقلت خرطوم المياه على شجرة أخرى وذهبت إلى المطبخ، جلست بانتظار أن يغلي الماء وأتابع ردود القراء على القصة، تناهت لمسامعي قهقهات الضيف، حاولت أن أميزها من بين الأصوات التي أعرفها فعجزت. لكنني ولشيء ما أحسست أنها مصطنعة، ناديت مهند ابني ليأخذ القهوة، سألته عن الضيف فلم يعرف أيضًا.
***
ناصر
ماذا سيكون موقفي لو تعرفت ميار ضيفي هذا؟ إنها كارثة حتما، ستكرهني أكثر مما أكره نفسي الآن. أتمنى أن يشرب قهوته وينصرف كما في المرة السابقة، أن يذهب، أن تبتلعه الأرض، المهم ألا تعلم ميار بوجوده. هل فعلا أخاف من لسانها وموقفها والجفاء الذي سيتبع الموقف؟ أم من العذاب الداخلي الذي ينهش روحي منذ المرة السابقة؟ أحقا صرت أستمرئ ذلك؟ أأصبحت أعتاد كما تقول ميار؟
تعلو قهقهات ضيفي من نكتة تافهة هو من قالها، أتمتم بيني وبين نفسي: اللعنة عليك وعلى قهقهاتك، ثم أغوص في أعماقي وذاكرتي أفكر بما كنته وما آل إليه حالي.
آه، ألم أعاهد نفسي بأن تكون تلك المرة هي الأخيرة؟ وها أنا أعيدها. باغتني الضيف بسؤال مفاجئ وحين هممت بأن أرد عليه ارتطم شيء ما بإطار النافذة، أصدر صوتًا عاليًا تبعه صوت إنذار سيارة ضيفي الذي قطع سكون المساء، نهضت بسرعة نظرت من النافذة، فوجئت بحجر يكسر النافذة ويشج رأسي، شعرت بالدم حارًا يتدفق على جبيني ووجهي، شعرت بالدوخان. تهاويت على الكنبة، لم أعرف كم مضى من الوقت حين استفقت ووجدت ميار تمسح على وجهي وترش الماء البارد عليه، وتغسل الدم الذي لم يتوقف، رأت الجرح فقررت أن نذهب للمشفى فقلت:
لا داعي للذهاب للمشفى
يجب أن أطمئن عليك
وراحت ميار تمرر أصابعها على وجهي بحنيتها المعهودة التي لم تفتر، رغم مرور كل تلك السنوات. أحدق في بريق عينيها وجمالهما والعمق الذي لم أدركه فيهما بعد، قطع تلك اللحظة وجود مهند بأنفاسه اللاهثة، التقطها بسرعة وقال: رأيتهم، لم أعرف منهم سوى عماد.
سألت ميار مستغربة: عماد؟
أجل عماد
هل تشاجرت معه؟ أمتأكد أنه هو؟
نعم هو. لم أتشاجر معه
ذهبت ميار بعينيها لأبعد من المكان الذي نجلس فيه، أدركت سبب الهجوم، لم أبح به، وادعيت أن الدوار قد عاودني وأغمضت عيني. في المشفى فكرت بعماد ورفاقه الذين لم يقبلوا بأي حال بوجود مطبع كضيفي في قريتهم. لقد كنت مثلهم وألقيت زجاجات حارقة على منازل تجار وعملاء ومطبعين. كنت قد اخترت أن أكون مناضلًا وثائرًا. ما الذي حل بي؟ ماذا حدث؟
رفعت رأسي المثقل بشيء ما، ربما العار، لا بل العار ذاته، حدقت في مرآة أمامي وجدتها تبتسم، ميار التي تزداد ابتسامتها جمالًا كلما كبرت، رسمت ابتسامة فرأيت نفسي شخصًا آخر غير الذي يبتسم في المرآة، أحاطت عنقي بيديها وقبلت كتفي ونظرت في المرآة وحدقت قليلا وقالت: حين رأيتك أول مرة كان شعرك بهذا اللون. أتذكر ذلك اليوم؟ لاحظت أن الدم الجاف حول الشيب إلى لون قريب من الأسود كما كان عندما وقعت في حبها. ابتسمت وأجبت: نعم أذكر، وتناولت كف يدها وقبلتها. حين عدنا إلى البيت رأيت حشدًا من الشبان، أبناء إخوتي وأصدقاءهم ومهند الذي انتظروا وصوله ليتشاوروا معه ليرد الضربة لعماد وليتفادى مشكلة أخرى. قلت لهم بصراحة: سأتقدم بشكوى للشرطة، تعالت الأصوات الرافضة للفكرة ولكنهم انصاعوا فيما بعد لقراري، فذهبت وشقيقي لتقديم الشكوى بعد أن تأكدت أن أحدهم لم يقدم على افتعال أية مشكلة.
***
ميار
دون حراك، أضم ركبتي لصدري وأحدق في العتمة، أقلب أفكاري التي سأقدم حتما على إحداها، سمعت صوت الباب، بقيت جالسة مكاني، فتح ناصر الباب، أضاء الغرفة فوجدني أمامه أحدق فيه كجمجمة، ارتبك كمن ضبط متلبسا، وتلعثمت الكلمات ولم تجد مكانا للخروج، ألقى متلعثما تحية الصباح، لم أرد فأعادها مرة ثانية صباح الخير: لم يأتِ الصباح، وأتمنى ألا يأتي على واحد مثلك.
لم تبدُ عليه الصدمة من ردي، فهو يعرفني، أردفت ببطء: إن لم تسقط الشكوى عن عماد لن أبقى لدقيقة في هذا البيت.
لكن..
دون لكن والآن.
رضخ لغضبي، ودون أن ينظر لعيني، أخرج هاتفه، هاتف صديقه في مركز الشرطة وأسقط شكواه دون أن يضطر للذهاب إلى هناك. لا أعرف كيف ضعفت فجأة وبكيت، لم يجرؤ على الاقتراب ليمسح دموعي عندما كنت أشكو له وأبكي. لكنني الآن أبكيه، فكيف له أن يمسح هذه الدموع؟ أبكي ناصر الذي أحببت، لا أبكي من يقف أمامي الآن.
أخذت الكلمات تتدفق على لساني ترجرج صوتي، ورحت أسعل سعالًا قويًا تخلفه في لحظات الغضب والحزن. توقف السعال، فخرجت كلماتي كما أردت لها أن تخرج، وكما تمنيت ألا تخرج يومًا لأقرب الناس إلى روحي. حين أحببتك كنت ثوريًا متوقدًا مثل عماد الآن. داهمتني مجددًا نوبة السعال، وعندما توقفت أكملت: وهكذا أحببتك، وها أنت اليوم تشتكي عليه لأنه أدى واجبًا تخليت عن أدائه، لم أتصور يومًا أن أوجه هذا الكلام لك، كم كنت غبية حين أقنعت نفسي أن الزمن لن يغيرك، أحببتك فأقرنتك بفكرة نبيلة، فكرة الوطن الذي عشقناه، لأننا لا نؤمن بحب ليس مقرونًا بقضية، رأيت فيك مكملي، لكنك بدل ذلك تخذلني الآن.
حاول أن يقاطعني: يا حبيبتي.. فقطعت عليه محاولته: لست حبيبتك. أما كنت تقول: إن من يتخلى عن قضية لن يكون أمينًا على حب؟ وأنت تخليت عن قضية، فلن تكون أمينا على حبي.
معك حق، حاول أن يقنعني بكلمات أخرى لكنني غادرت الغرفة كي أخفي دموع خذلاني منه، سمعت صوت الماء فأدركت أنني لم أغلق الحنفية فتدفق الماء ليخلق بركة كبيرة، أغلقتها وجلست أمام المنزل.
مع بزوغ خيوط الفجر الأولى ذهبت للتعاونية، فوجدت أم عماد تغسل جرار الزيت استعدادًا لبدء موسم الزيتون، استغربت وجودي المبكر في المكان، رددت عليها تحية الصباح فردت بمثلها، اقتربت مني وراحت تفرك يديها تريد أن تقول شيئًا، فبادرتها بالسؤال: ما بك؟
إنني أعتذر عما فعله عماد، وطلبت منه ألا يأتي و..
حدقت فيها غير قاصدة أي شيء من هذه النظرات التي أربكتها، ثم تداركت الأمر وقلت بعد أن وضعت يدي على كتفها: لو لم يفعل عماد ذلك لما كان رجلًا، وأنا فخورة به كما يجب أن تكوني فخورة به الآن. أخبرتها بكل ما حصل بيني وبين ناصر، وطلبت منها أن أبيت عندها لأنني لن أعود إلى البيت حتى أجد شقة أستأجرها.
رحبت بي على الفور وبعد ذلك بقليل أخذت تقنعني بالعودة لبيت زوجي وتبرر لي الأمر ببساطتها.
رحت أتأمل التعاونية دون أن يغادرني شعور بالفخر على البدء فيها وتأسيسها منذ ما يقارب العشرين عامًا، وها هي الآن تعيل أكثر من عشرين أسرة، تعمل فيها عدا عن الأسر التي تقدم إليها المساعدات الدائمة. أتأمل وأعود بالذاكرة لأيام تخرجي الأولى، لم يكن متاحًا أمامي إلا العمل في مؤسسات السلطة الحديثة التي اتخذت موقفًا صارمًا من العمل فيها ومن الاتفاقية التي حملت بها إلينا، وإما العمل في مؤسسات ال NGOs التي لا أؤمن بأجنداتها وتمويلها، فتأتي أمي لتقول: هكذا ستظلين بدون عمل. لكنني كنت أفضل أن أبقى دون عمل على العمل في مؤسسات تخالف مبادئي وقيمي، وإن وجودي في أي من تلك المؤسسات ما هو إلا تساوقًا مع مشاريعها، وإن كانت حاجتي للمال هي دافعي للعمل، فعلى الأقل لن يتحكم ذلك المال بمواقفي أو آرائي، فعكفت على الكتابة وعلى تأسيس التعاونية التي ظلت تتوسع حتى اليوم.
احتجت لبعض الملابس والأغراض من المنزل، فهاتفت مهند، لكن هاتفه كان مغلقًا، فطلبت من أم عماد أن ترسل ابنها الصغير ليأخذها من مهند، لكن ذلك الصغير ولسوء الحظ طلب من عماد أن يوصلها، فكادت أن تقع كارثة.
***
ناصر
فتحت عيني على صوت صراخ وشتائم، وبحركة معتادة ولا إرادية رفعت يدي ومددتها بجانبي، تهاوت فلم تكن ميار تحتها، أفزعتني فكرة عدم وجود ميار بجانبي، فقد حلمت بوجودها. ارتفع صوت الصراخ، نهضت بسرعة، دوى صوت رصاصة، فأسرعت أكثر، وجدت جمال يمسك بيد ابني مهند التي تقبض على مسدس، وعدد من الشبان يمسكون عماد. ذهبت لمهند أخذت ما بيده وطردته للمنزل، تأكدت من أنه لم يكن أحد مصابًا. وقع نظري على عماد، نظراته قاسية، تحتقرني، تمزقني، شعرت كم كنت صغيرًا أمام تلك النظرات المتحدية. نعم، إن أقوى النظرات وأعمقها نظرات مدافع عن قضية في وجه من تخلى عن ذات القضية.
جلسنا أمام المنزل أنا وجمال ومهند. جمال صديق طفولتي، لم يمضِ على تحرره سوى أربعة أعوام بعد قضائه ستة عشر عامًا، سألت مهند عما حدث فقال: منذ أن رأيت عماد أمام المنزل لم أتمالك أعصابي.
أترفع عليه مسدسًا؟ وأكمل جمل توبيخه.
المسدس يتربع على طاولة صغيرة، ينقل جمال نظراته بيني وبين المسدس ويواصل توبيخه، صمت جمال للحظة ثم طلب من مهند أن يعد لنا القهوة، أشار جمال للمسدس وسألني بحرقة: أهذا هو؟
لا، ليس هو إنه يشبهه.
مرت لحظات صمت ظننتها دامت دهرًا، لم أعرف كيف أكسر ذلك الصمت، تساءلت بيني وبين نفسي: كيف له ألا ينساه بعد هذا العمر؟ تذكرت أنني لم أنسه بل تناسيته. بعد دقائق عاد مهند بالقهوة، أمرته أن يعيد المسدس إلى المكان الذي أحضره منه، بعد ذهابه حدثت جمال عن كل ما حدث. استغرب وصولي لهذا الحال، وبان عليه الغضب الذي حاول جاهدًا أن يخفيه. أفهمته أنني ليس كما يعتقد وأن الأمر فرض علي، وأنني أفكر بترك العمل برمته، طلبت منه أن يعالج الأمر كي تعود ميار، نظر إلى ساعته وقال: سنحل الأمر، لكن الآن عليَّ أن أذهب، فلديَّ موعد مع الطبيب.
غادر جمال وحضرت ذكرياتي معه، ذكريات طوتها سنوات أسره وسنوات انشغالي وتشاغلي، ربما تأتي الآن وتغسلني وتعيدني إلى ما كنته. لكن لا، فإن الماضي لا يغسل وحل الحاضر، فالذكريات تبقى مثل ضمير حي، كنت أحاول طمسه، لكن ها هي تعود، ولو طمستها لظلت ميار الضمير الذي لا يمكن أن يدفن إلا في القلب. ميار التي تقول على لسان بطل إحدى قصصها: إنني أفضل الموت على لقمة الحياة إن كانت تتحكم بمواقفي. التحقت وجمال بخلية من خلايا الانتفاضة الأولى، ناضلنا فيها، وزعنا المنشورات، كتبنا على الجدران، ألقينا الحجارة والزجاجات الحارقة، أغلقنا الشوارع وانخرطنا كليًا بنشاطات الانتفاضة، أصبحت هي حياتنا، ونشاطاتها قوتنا اليومي الذي حرمنا منه اتفاق أوسلو. لكننا لم نرضخ للأمر فكرنا بعمل أكثر عنفًا واشترينا مسدسًا، ورتبنا لعمل ما، لكن الهدف الذي كنا نرصده لم يأتِ. اعتقلت وقتها لفترة تقارب العام، تمكن جمال خلالها من إصابة جندي في رأسه، لكنه لم يقتل، وأطلق جندي آخر النار فأصابه في ظهره، هرب إلى مكان ما رغم الإصابة وخبأ المسدس، ابتعد عن المكان وهناك تم اعتقاله، ادعى في التحقيق أن المسدس سقط منه. حين التقيته في السجن دلني على مكانه، وبعد تحرري أحضرته وخبأته. تزوجت بعدها من ميار، رزقنا بمهند. حاجتي للمال كانت قد دفعتني للعمل في مؤسسة من تلك المؤسسات التي قد ملأت السوق، ومع الوقت صرت أقول: لكل شيء أوانه، وحين يحين الأوان لن أتوانى لحظة. لكنه آن مرات بعدها وتوانيت، وأقنعت نفسي أنني أقوم بواجبي ودوري حين أوزع المؤن التي تقدمها المؤسسة للعائلات التي تضررت من الاجتياحات الصهيونية والدمار الذي خلفته. تبدلت بعدها المؤسسة، تبدلت أنشطتها وتماهيت معها رغم أنني كنت أنكر ذلك. ها أنا الآن وقد لبست ألف ثوب فوق الثوب النقي الذي اخترته يومًا، ثوب المناضل الثائر، حاولت أن أتخلص منه، أن أخفيه مع أنني لم أشعر يومًا براحة ضمير في أي ثوب غيره.
ميار
منذ أن عمل ناصر في تلك المؤسسة صرت ألاحظ المتغيرات التي طرأت عليه، حذرته مرارًا من أن ينساب مع المؤسسة وسياساتها كما تنساب القشة مع الماء، ودائمًا ينكر عليَّ تغيره، وكأنني لا أعرفه. حتى الذي أصبح يثير اهتمامه كان سابقًا من الأشياء التافهة بالنسبة له.
ففي يوم ما حذرته من زميلته التي صارت فيما بعد رئيسته في العمل، تحدثت عنها وعن قصصها وظل يدافع عنها رغم أن قصصها وعلاقاتها معروفة للكثيرين، فيبرر كلامي بأنه ما هو إلا بدافع الغيرة: إنني أغار عليه منها، ومع أنه اقتنع أنني واثقة به وأنني لا أشك بنواياه، لكني أخاف من أن يتورط بقذاراتها التي يتعامى عنها. فعاد ليبرر ذلك أنني أغار منها غيرة الكتاب، فأخبرته مرة أن دار نشر رفضت أن تنشر مجموعة قصصية لي بينما قبلت منشورات لزميلته فقال لي: عليك تغيير نمط كتابتك فكل مواضيعك عن هذا الواقع، تحريض، احتلال، فقر، حب داخل كل قصة، حاولي التجديد، أنظري لكتاباتها وموضوعاتها المتجددة دوما. أراد أن يغيظني وأن يشعل نار الغيرة فيَّ. لكنه أشعل نار من تمس قيمه ومبادئه وقضيته، لكنني ضحكت ورددت عليه بهدوء: إنني يا حبيبي لا أكتب لأرضي دور النشر، أختلف عن كاتبتك وعن كثير من الكتاب الذين تعرفهم، ثم أتريدني أن أدمن حبوب المهدئات ومضادات الاكتئاب التي تدخلني حالة من الهلوسة ثم أكتب تحت تأثيرها، تريدني أن أكتب أن جرة الفخار تحولت لتمثال عشتار وراحت تحدثني عن أثر الأنوثة؟ أم أن جدتي تحولت لعصفور وأتعامى عن واقع مرير وأحلام تدوسها بساطير الجنود كل يوم على بعد خطوة منا؟ إنني أكتب لأسلط الضوء، لأنتقد، لأغير، لا لكي أتماشى مع واقع الاغتراب الذي يعيشونه، لست مثلهم، أكتب قصصًا لأهرب من الواقع، لا أكتب لأن الكتابة هي الملاذ الذي يهربون إليه من الواقع لواقع سخيف يلائم حالة الاغتراب. ظل يستمع بصمت وكأن شيئا يخزه من الداخل، أعرفه ويعرفه. وأردفت: باختصار إنني أكتب أفكارًا نبيلة، لا لتكون الملاذ، بل لتجد ملاذها في كل صادق وكل مناضل وكل عاشق يدافع عن قضية، فراح يتحدث لي عن الواقع ومتغيراته ومتطلباته الحالية.
ضحكت ضحكة استفز منها فقلت له: إنك تعاني حالة كنت قد شرحتها لي في رسالة مطولة أيام حبنا الأولى حين سألتك عن مصطلح أتذكر ما هو؟
لا، لا أذكر
الاغتراب، وقد أرسلت الرسالة في أواخر آذار بمناسبة بيننا. ابتسم ابتسامة لم أعرف كيف أفسرها، زم شفتيه وهز رأسه عدة مرات وقال: ماذا أفعل؟
عليك أن تسأل نفسك أولًا: أأقوم بالواجب المناط بي؟ وأين أنا من عملية التغيير: الثورة؟ ما هو المطلوب مني تحديدا؟ حينها تدرك ما عليك وتدرك أيضًا أن عليك أن تدفع الثمن، ربما تخاف أو تقوم بدورك، إما أن تكون ثائرا أو أن تعاني حالة الاغتراب تلك. أم أنك تنسى رسائلك؟
أذكر يومها كم طال نقاشنا وكم أثرت فيه ماضيًا تناساه أو تشاغل عنه عدت بعدها لآخذ بعض الأغراض، وضعتها في حقيبة، تأملت الصور في غرف النوم صورة، صورة، تجمعني معظمها بناصر، لكل منها ذكرى أثارت اليوم فيّ الدمع بعد أن كانت مصدر فرح ينبعث من الداخل. تفقدت الشجيرات التي زرعتها وناصر، تفاجأت من الماء الذي تجمع منذ نسيت أن أغلق الحنفية ذلك اليوم. فقد تجمع في مكان ما على أرضية مصبوبة، فأصبح داكنا بلون ما، فحين اقتربت منه، بدا لي بشكل ما عميقًا مع أنني أعرف جيدًا المكان الذي تجمع فيه الماء، فارتفاعه لا يتجاوز بضع سنتيمترات، لكنه حتمًا لمن لا يعرفه سيبدو عميقًا مثل بئر، لكنه في الحقيقة هو ماء سطحي لا يخفي إلا قشرة اسمنتية قاتمة، أكان ناصر هكذا؟ أكان سطحيًا لهذه الدرجة؟ أكانت قذارته تخفي عمقه؟ أكان الحب ملونًا مثل الماء ليغطي ذلك العمق؟
***
ناصر
تفاجأت بوجودها مثل ربيع حل بأزهاره في حديقة المنزل، مثل شمس تاهت عن مدارها، تحدق مثل بركة مياه داكنة. أأضاعت شيئأ؟ لا أعرف، راقبتها بصمت، تأملت ذلك المشهد البديع الذي فقدته وأدفع عمري كي يعود، وكيف أعيدك يا عمري، ويا نعمان فؤادي: كيف؟
عودي أرجوك. لم أكن أميز ملامحها لكن حركاتها السريعة أوحت لي بكم الغضب الذي يحركها، اقتربت منها، ألقيت تحية غير متيقن من الإجابة عليها فردت: صباح النور. من المفاجأة لم أدر ما أقول: كنت متوقعًا ألا ترد وأعددت نفسي لذلك وها هي ردت. صمت قليلًا وقلت: لقد قدمت استقالتي من العمل، ربما ترضين، تقلبت نظراتها مثل طقس الخريف وقلبتني معها، وقبل أن أفهم مغزى كل نظرة منها: ردت بهدوء، إن كان لرضائي فلا، لست راضية، اِرضِ نفسك أولًا، أأنت راض؟ كل السنوات التي مرت رضيت عن نفسك مرة؟
لا، أقسم أني لم أكن راضيًا.
على العموم خذ فترة أخرى لتصفي نفسك فيها، أما أنا فأعود لاحقًا.
ذهبت دون أن تحدد موعدًا تعود فيه، يكون عيدًا أحتفل فيه كل عام على طريقتي الخاصة، تناولت هاتفي بعد أن رافقتها خطوة خطوة وهي تغادر بربيعها لتتركني لهذا الخريف، اتصلت بجمال لأخبره بما استجد هذا الصباح، عدة محاولات لم يرد، فاتصلت بشقيقه، صعقت مما سمعت، ركبت السيارة وانطلقت مسرعًا نحو ذلك المشفى.
أيام قليلة قلبته هكذا. لم أتخيل يومًا أن أراه بهذا الحال، أيام قليلة وسيموت، هكذا قال الطبيب لشقيقه، تفشى السرطان في جسده، لم تكن تلك الآلام تعالج بالمسكنات التي كان يصفها له طبيب السجن، ولم تكن بفعل تمارين رياضية يمارسها بوضعيات غير صحيحة، كما قال طبيب السجن المختص، ولم يكن مدخنًا لينصحه بترك التدخين. سنوات من آلام السرطان عالجها أطباء السجن بالأكامول والمراهم، وجدته متمددًا على سرير المشفى جهاز التنفس على وجهه وشاشة فوق السرير قد يستقيم خطها في أية لحظة لتعلن عن توقف النبض، يئن من الألم، وحدها الدموع نطقت، خانتني الكلمات. لحظات وأزال جهاز التنفس عن وجهه وقال بصوت واهن: لم أشأ أن أخبرك عن وجعي كي لا أشاركك إياه فوق وجعك، لا تفرط بميار، إياك أن تتركها تتركك. أغمض عينيه يعتصر من الألم، فتحهما مرة أخرى، تألقت فيهما دمعتان، اندلقت كل دمعة عكس الدمعة الأخرى على جانبي وجهه ثم نطق: أترضى لي الموت هكذا؟ أمثلي يموت هكذا؟ اعتصر مرة أخرى وأردف: إن نهضت مرة أخرى فإني أريده: هل ما زال موجودًا؟
نعم، ستنهض.. صدقني ستنهض.
ولم ينهض، في ذات اليوم رحل، دفناه تحت صنوبرة أحضرناها من الأحراج وزرعناها قرب سور المقبرة، حين كان طفلًا، سقاها وكبرت وكبر معها، ضربت جذورها في الأرض لتعلو، وها هو يعلو في السماء متجذرًا في الأرض، مؤكدًا لمن يريد أن يعلو أن يتجذر في هذه الأرض.
عدت لحبيبتي، عدت لميار حزينًا ممزقًا، مثل قميص خاطتني وتركت رقعها لتذكرني كل رقعة بندبة في روحي، احتوتني مثل أم، ومن لطفل حزين مثل أمه؟ أليست عنده العالم أمه؟ العالم الذي لن يتخلى عنه. لملمت شتات روحي التي مزقتها الأيام، فتحولت من مدير تافه في المؤسسة إلى محترم ومنتج في التعاونية، تحولت إلى مزارع وسائق ومحاسب. أزرع وأقطف، أحصد وأوزع بيضا وجبنا وزيتا، عرفت عماد وبعض رفاقه، اقتربت منهم فعرفتهم أكثر، عرفت عطاءهم والحب الكامن فيهم للإنماء، عرفت نقاءهم ثقافتهم وتفانيهم في العمل الذي نشأوا فيه، أحبوا الأرض وكبروا على عطائها وصاروا معطاءين مثلها.
ذات يوم سألت عماد حين كنا نوزع المعونة لبعض الأسر مستورة الحال: ما أكثر شيء يشعرك بالسعادة؟
فقال: دعوة من امرأة فقيرة لا تملك ما تقدمه إلا تلك الدعوة.
مع أن عماد لم يكن متدينًا مطلقًا، لكنه يعلم أنه لو كان بإمكان تلك المرأة أن تقدم أغلى ما تملك بين يديها لقدمت، لكن ليس لديها إلا تلك الدعوة الصادقة. وحين عدت للبيت أخبرت ميار عن عماد، فحدثتني عن أم عماد التي كانت مثل تلك المرأة. قتلت أبخرة مصنع المرتديلا زوجها وتركتها لتصارع مع أطفالها صعوبات الحياة. ساعدناها في التعاونية ولا وقت لديها للعمل، فكانت ترسل عماد الذي لم يكن لديه الإمكانية للعمل لحداثة سنه، ساعدته في دروسه وصار يوزع مع الشبان المساعدات. كبر وتثقف وعرف قيمة ما تقدمه التعاونية للأسر التي مثل أسرته، أحبه أطفال تلك الأسر وصاروا مثله، وصرت أمهم ومعلمتهم، وصار شغلهم الشاغل مساعدة الناس. التعاونية هي مدرستهم وعملهم وحياتهم، أنظر الآن لهؤلاء الأطفال الذين يقبلون وتوفر لهم التعاونية المكان وكل ما يلزمهم، وعندما أدركت إعجابي أفاضت: هذا ربح نظيف، صحيح أنك تجني المال وتسد حاجاتك، لكن أمثال عماد هم الربح الأسمى، تثقفهم وتزرع فيهم يزرعون، ويكبرون ويكبر ما يزرعون. يقدمون من تعبهم لمن هم أكثر حاجة منهم، يناضلون ويؤثرون في الواقع، يكبرهم ما يقدمونه للناس، فيحبهم الناس ويقتنعون بهم، يتمنون أن يصبح أبناؤهم مثلهم، فإن فتحت بارا ستجني الكثير من المال، لكن ماذا ستقدم للناس غير السكر والسكارى؟ قل لي بربك ما هو الربح الأنقى؟ بعدها وفي أعمال نضالية أداها عماد أدركت ذاك الربح الذي لا يقدر بثمن، رأيت بطولته وإقدامه.
***
ميار
في العمل، أزن قطع الصابون ثم أضعها في علب من الكرتون، أما ناصر فقد انتهى من تقطيع ما تبقى من الصابون وجلس قرب النافذة يحدق في شيء ما، التفت إليَّ حين لاحظ أنني أنظر إليه، أشار بيده لشيء ما وقال: أترين يا حبيبتي تلك الشجرة؟
نعم أراها.
تلك الشجرة زرعها جمال، أحضرها من الحرج صغيرة وزرعها، صمت قليلًا، تنهد وأكمل: إنها تشبهه، لفتتني جذور تلك الشجرة وهي تشق سورًا اسمنتيًا وتنغرس عميقًا في التربة.
إن هذه الشجرة أصيلة، ابنة هذه الأرض، أنظر إلى جذورها، لا يعيقها عائق وتنغرز عميقًا في أرضها، لكن أنظر إلى ذلك الشجر المقلد، الدخيل على هذه الأرض يبقى مزروعًا داخل حوض صغير أريد له أن يظل فيه فلا يعلو ولا تنغرز جذوره إلا في الحوض الذي أعد لها.
إن كل تلك المؤسسات تقزم من يعمل فيها فلا يتجذر في الأرض ولا يعلو أكثر مما أريد له، صحيح أن منظر الأشجار يبقى متناسقًا وجميلًا، لكنها لا تثمر ولا تتجذر خارج حوضها، والعامل في تلك المؤسسات لا يتجذر ويبقى داخل حوض، ومتى شاء الممول نقله من موقع إلى آخر، أما ابن هذه الأرض فيتجذر ويثمر ويعلو.
هكذا يومًا بعد يوم راح يتجدد حبي لناصر، صحيح أن أعماله ترهقه جسديًا، لكن الروح لم تعد مثقلة كما في السابق، يعود بعد مشاوير لا أدري أين يغيب فيها كل تلك الساعات، يعود متعبًا لكنه سعيد، فيسعدني بسعادته التي كان في السابق يحاول تصنع سعادة مثلها.
***
ناصر
في ساعات الصباح الباكر وقفت أمام الشجرة، زيتونة مميزة، تغيرت بعض التفاصيل في المكان، وليت وجهي نحو صخرة أعرفها، مشيت أربع خطوات وبدأت الحفر، فأكمل عني عماد، على عمق نصف متر تقريبًا، ظهر جزء من اللفة، أخذتها وجلست تحت الشجرة، قلت لعماد: أي سعادة تلك التي دبت بروحي؟ أي حياة كنت أتناسى وأتشاغل عنها؟ كم أشعر بوجودي الآن؟ إنك حين تحدد موقعك في هذا الصراع وتتحرر من خوفك ومن ذاتيتك وتفكر في مكانك الطبيعي في ظل وجود احتلال على أرضك ستشعر وقتها فقط أنك وجدت لشيء، وتدرك أنك حين تختار بصدق أن تكون ثائرًا، فإنك كمن يختار ثوبًا أبديًا إن ارتديت فوقه يصبح خانقًا وإن خلعته تموت بردًا.
فقال عماد: هذا حين تختاره بصدق، ويكون فقط هو الثوب الذي اخترناه.
في البيت، نزعت عن المسدس لفافات القماش والخيش وقد وصل الصدأ لأجزاء منه، أخذت أنظفه قطعة قطعة حتى عادت تلمع كما كانت قبل عشرين عامًا، عندما كانت مع جمال. أعدت تركيبه، أمسكته من مقبضه ورحت أحاوره وأعتذر له: لقد كنت صدئًا مثلك. فحين يصدأ الإنسان يتخلى عن سلاحه ويتركه للصدأ، أو يصبح سلعة للبيع. أسمع صوت ضحكة عجزت ميار عن كتمها، وجهت نظري إليها وأكملت: لكن امرأة كهذه لن تصدأ، وحين يتخلى المرء عن قضيته يصدأ ويصدأ سلاحه، رنت ضحكتها وراحت تتراكض في المنزل وأنا أركض خلفها.