Menu

مقتطفات من كتاب: الاشتراكية لعصر شكاك تأليف: البروفيسور رالف ميليباند

غازي الصوراني

الاشتراكية لعصر شكاك

يقوم هذا الكتاب على مسألتين متميزتين. الأولى هي ان الرأسمالية تشكل حاليا عقبة هائلة تحول دون تخطي الكوارث التي انتجتها هي نفسها في سياق تطورها. الثانية هي ان هناك بديلا اشتراكيا للرأسمالية يمكنه حل هذه المشاكل.

- البروفسور "رالف مليباند[1]"، في كتابه "الاشتراكية لعصر شكاك" يبحث عددا من التطورات التي زعزعت فكرة الاشتراكية في السنوات الأخيرة (في البلدان الرأسمالية الغربية)، ويرى أن نظاما اجتماعيا يخضع إلى منطلق رأس المال والمنافسة، يظل عاجزا عن خلق الظروف المؤاتية للمواطنة الحقة وروح الجماعة، فهو يرى أن الاشتراكية هي التي تطرح برنامجا جذابا وقابلا للتنفيذ من أجل تحقيق تلك المثل، كما يرى ان الاشتراكية لا يمكن أن تطرح العلاج لكل البلايا التي حلت بالبشرية، فالاشتراكية ينبغي أن تفهم بصفتها جانبا من جوانب النضال المديد في سبيل مجتمع أكثر عدالة، -قابل للارتقاء نحو المزيد من العدالة- وهي على أساس هذه النظرة، تبقى مشروعا مطلوبا وممكن التنفيذ تماما في آن معا. ويعتقد "ماليباند" بحق، أن الاشتراكية ستحظى مع الوقت، بتأييد الأكثرية اللازمة للمضي بها إلى أمام، فلا بد من النظر إلى الاشتراكية على أنها كفاح دائم من أجل تحقيق الديمقراطية بكل جوانبها (السياسية والاجتماعية).

إن السؤال الأول الذي يتوجب على الاشتراكيين الإجابة عليه هو: ما الذي يجعلهم يناضلون من أجل بديل جذري للرأسمالية؟

- إن الرأسمالية اليوم ليست كما كانت في منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأ ماركس تأليف "رأس المال" فقد حققت الرأسمالية منذ ذلك الحين تحسينات كبيرة على الحياة اليومية للعاملين بأجور، وأبدت مرونة وقابلية للتغيير لم تكن تراود الأحلام قبل مئة عام. ولم يكن ممكنا لماركس أن يتوقع درجة تطبيق "الديمقراطية الاجتماعية" التي حصلت في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وخاصة في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، التي تعتبر العصر الذهبي للرأسمالية في القرن العشرين.

- لقد بين عالم الاجتماع السويدي ثيربورن في مقالة له نشرتها New Left Review عام 1984 "أن الرأسمالية تعرضت الى تحول كبير وإن يكن صامتا خلال فترة السيتينات والسبعينات، ولم تزل التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذا التحول تنتظر البحث. وقد سمي هذا التحول "الرأسمالية دولة الرفاة".

"إن النموذج الاشتراكي-الديمقراطي للالتزام بالليبرالية السياسية، دولة الرفاه، الاقتصاد المشترك الذي يدار حسب مبادئ الكينزية، والتحول التدريجي بالمجتمع باتجاه المساواتية يبدو أقدر من غيره على تأمين الأسس العريضة للوفاق".

- لقد ثبت أن هذه الأفكار كانت مبالغة في تفاؤلها، فمنذ عام 1970 ساد الميل إلى مهاجمة الانفاق العام على الخدمات العامة والاجتماعية والسعي إلى تقليص الاستحقاق لها، لكن حتى الحكومات الأشد حماسا لتقليص حق المواطن في المعونات الحكومية، كالولايات المتحدة وبريطانيا، لم تنجح سوى جزئيا في مساعيها. هكذا تآكلت "دولة الرفاه" لكنها لم ولن تتعرض للتدمير الكلي.

- إن "رأسمالية دولة الرفاه" بخيلة وضنينة، ولكنها الآن جزء من الواقع الرأسمالي، وتدميرها النهائي هدف صعب وخطر. فتقليص الحقوق الاجتماعية يؤدي عند نقطة معينة، إلى معاقبة المسببين له عن طرق هزيمتهم في الانتخابات، أو يؤدي الى اضطرابات اجتماعية، أو كليهما.

على ضوء هذا التطور يتقدم انتهازيو القرن 21 من اليساريين السابقين بسؤالهم، أليس من الأكثر معقولية أن ندفع باتجاه المزيد من الاصلاحات ضمن نطاق النظام الحالي، فنحقق بالتالي رأسمالية أكثر إنسانية؟ إذا اعتبرنا الاشتراكية أفقا شديد البعد، أو وهما باطلا.

إن مثل هذه "النغمة" تتمتع بجاذبية أكيدة لدى الكثيرين في صفوف اليسار هذه الأيام. ولكن هناك الكثير من الأسباب المقنعة لرفضها. فنحن نرى أن الاصلاح التدريجي ليس كافيا للقضاء على الشرور المتأصلة في النظام الرأسمالي، وإن التخلي عن المنظور القائل بالتحول الجذري، المتمثل بالاشتراكية، قد أثر تأثيرا جوهريا على طبيعة الاصلاح ومجاله.

- في كتابه "مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي" كتب ماركس يقول: "في مرحلة معينة من تطورها، تدخل قوى الإنتاج المادية في المجتمع، في تناقض مع علاقات الانتاج القائمة... فتتحول هذه العلاقات من أشكال لتطوير قوى الإنتاج إلى قيود عليها. لقد تبين أن ضرر هذه "القيود" بعملية الإنتاج أقل بكثير مما ظن ماركس. ورغم هذا، فإن مقتل الطاقة الانتاجية العظيمة للرأسمالية يكمن في عدم قدرتها على الاستخدام الأنفع للموارد التي أنتجتها ولا تزال تنتجها. ويبقى التناقض جوهريا بين الوعد الذي يحمله التطور الهائل لقوى الانتاج من جهة، وبين الواقع اليومي الذي يواجهه العاملون بأجور من جهة أخرى.

- لقد خلقت الرأسمالية، لأول مرة في تاريخ البشرية، إمكانية ضمان حد أدنى لحياة آمنة ماديا، وكريمة أخلاقيا، لجميع سكان الكوكب، ولكنها عاجزة، بسبب جوهر طبيعتها وغاياتها، عن تحويل هذا الوعد الرائع الى واقع. فالربح الخاص يبقى في الرأسمالية فوق كل شيء، الأمر الذي لا يتساوق مع الحياة المرفهة للجميع، فما يحرك الرأسمالية هو العقلانية الجزئية في نطاق الشركة (micro-rationality) وليس العقلانية الكلية المطلوبة على نطاق المجتمع (macro-rationality).

- إن أحد المؤشرات الواضحة على عدم الانسجام بين الرأسمالية وما أسميه حياة آمنة ماديا وكريمة للجميع هو وجود عدد كبير من الناس غارق في فقر مدقع ومهانة كبيرة حتى في أغنى البلدان الرأسمالية.

وتشكل هذه الظروف تربة خصبة لنمو الإدمان على المخدرات والجريمة كأسلوب حياة سائد لعدد كبير من الناس. وتغذي هذه الظروف نفسها أمراضا اجتماعية أخرى مثل العنصرية، معاداة السامية، وإرهاب الغرباء، كما تشجع البحث عن كبش فداء موجود دوما.

- إن الحرمان الذي يعاني منه الفقراء في بلدان الرأسمالية المتقدمة يعتبر، رغم مرارته، "رفاها" إذا ما قورن بظروف حياة الأغلبية الساحقة من سكان بلدان "العالم الثالث".

- والى هذا الحد، فإن فهم طبيعة الرأسمالية يقتضي عدم التركيز فقط على بؤر ضخمة من الحرمان الشديد في مجتمعات "الوفرة" رغم أهمية هذا الجانب، فحتى في السويد، وهي متقدمة اجتماعيا بشوط كبير على جميع البلدان الرأسمالية الأخرى، بحيث اعتبرها أحد الكتاب "أقرب من أية دولة رأسمالية أخرى إلى المثل الاعلى الاشتراكي-الديمقراطي في تأمين فرص عمل للجميع والضمان الاجتماعي وتكافؤ المداخيل"، تبقى مجتمعا طبقيا يتجلى فيه عدم المساواة الشديد في توزيع الثروة، السلطة والفرص المتاحة.

- ثمة دلالة هامة جدا لحقيقة أن 10% من السكان، في بريطانيا، على سبيل المثال، كانوا عام 1993 يملكون 50% من ثروة البلد برمتها، وأن 25% من السكان يملكون 71% من الثروة. بكلمة أخرى، على 75% من أفراد الشعب أن يتدبروا أمرهم بما تبقى من الثروة (29%). هذه الحالة غير المتكافئة لتوزيع الثروات موجودة في جميع البلدان الرأسمالية.

تتألف الطبقات الخاضعة في المجتمعات الرأسمالية من عنصرين مختلفين: طبقة عاملة أي طبقة ذوي الاجور التي تؤلف الغالبية الساحقة من السكان في البلدان الرأسمالية، والفئة الدنيا من الطبقة المتوسطة أو البرجوازية الصغيرة المنقسمة، هي الأخرى، بين أصحاب المشاريع الصغيرة وفئة الحرفيين وصغار المهنيين والمدراء الصغار والمشرفين وتضم معلمي المدارس، المرشدين الاجتماعيين، موظفي الدولة والادارة المحلية في المستويات الدنيا للبناء الاداري، وغيرهم كثير من الذين يزاولون أشغالا شتى.

- وبصرف النظر عن الانقسامات القائمة على الجنس، العرق، القومية، الأثنية، الدين، فإن التطورات الأخيرة التي طرأت على عملية الانتاج قد أدت إلى تعميق الانقسام القديم العهد بين أقلية من العمال المهرة الذين يتمتعون بأجور وشروط عمل جيدة، وبين جيش يتنامى من العمال المستخدمين في أعمال واطئة المستوى، ولا يتمتعون بأية حماية أو امتيازات مما تتمتع به الاقلية الماهرة. ولهذا الانقسام تأثيرات سلبية جدية على التنظيمات النقابية والسياسات العمالية.

ولكن لا هذا الانقسام ولا غيره من الانقسامات في الطبقة العاملة تبطل حقيقة أن هذه الطبقة تشكل الغالبية الساحقة من السكان.

إن قولنا إن الطبقة العاملة لا تزال تشكل الغالبية الساحقة من سكان الدول الرأسمالية يعاكس الرأي السائد اليوم، الذي يرى أن فكرة "الطبقة العالمة" فكرة عفا عليها الزمن.

إن الطمس المتعمد للطبقة العاملة في اللغة السياسية يخالف الواقع. لا شك أن الطبقة العاملة الصناعية في الدول الرأسمالية المتقدمة أصبحت أقل عددا مما كانت عليه، ولكن المستخدمين في القطاعات الإدارية والخدماتية الدنيا والكثير من الآخرين يعدون جميعا عمالا مأجورين وجزءا من الطبقة العاملة، لذلك قد يكون تعبير "طبقة المأجورين"، رغم غرابته ، هو الأفضل للاستخدام.

وحقيقة أن العمال الذين يزاولون العمل اليدوي لم يعودوا يشكلون الأغلبية بين العمال المأجورين لا يعني بحد ذاته بداية النهاية ل"المجتمع القائم على العمل". لقد أصبح العمل المأجور سمة أعم للواقع الاجتماعي في النصف الأخير من القرن العشرين.

- تتباهى الدول الرأسمالية المتقدمة بمفخرة الديمقراطية وتعتبرها من طبيعة الرأسمالية. ويصر المدافعون عن هذا النظام على العلاقة الوطيدة بين الرأسمالية والحرية والديمقراطية.

- ولكن، بإمعان النظر في هذا الادعاء يمكننا الملاحظة، بداية أن الرأسمالية خلال الجزء الأكبر من تاريخها، لم تكن مرتبطة بالديمقراطية بأي معنى من المعاني، وأن جميع المحافظين والليبراليين المدافعين عن النظام الرأسمالي كانوا دوما مصممين على مقاومة تقدم الشكل الديمقراطي.

لقد احتاجت الرأسمالية في البداية حريات معينة من أجل أن تتطور، وارتبط هذا تاريخيا بمطالبة البورجوازية بهذه الحريات من اجل كبح الاستبدادية وحماية الأفراد، وخاصة الأفراد ذوي الملكيات، وكانت هذه الديمقراطية، بالشكل الذي تحققت فيه، ديمقراطية تقتصر على من يملك ثروة، وبقيت الغالبية العظمى التي لا تملك "حصة من ثروة البلد" خارج نطاق هذه الديمقراطية.

ومع نمو الحركات العمالية وأحزاب الطبقة العاملة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، بات من الصعب الاستمرار في حرمان الاغلبية من حق المواطنة السياسية، وهكذا منح حق الاقتراع على مضض، بداية للذكور، ثم أخيرا، إبان القرن العشرين، للنساء. ولكن من المفيد أن نتذكر حجم مقاومة أصحاب الامتيازات المتمترسة لهذه الدرجة المحدودة من توسيع الديمقراطية.

- على ضوء هذه المقاومة الثابتة يجب أن ننظر إلى أهم ادعاءات المحافظين "المدافعين عن الديمقراطية". وما مكنهم من مواصلة هذا الادعاء هو المعنى الضيق الذي أعطوه للديمقراطية، فهم يعرفونها على أنها التنافس بين النخب السياسية من أجل الوصول إلى السلطة.

- وعلى كل حال، إذا اعتبرنا أن الديمقراطية تمنح "الناس العاديين" سلطة حقيقية في جميع مجالات الحياة التي تهمهم، فإن فكرة المجتمعات الرأسمالية هي مجتمعات ديمقراطية تنتمي إلى أساطير السياسة وليس إلى واقع هذه المجتمعات. إن الديمقراطية الرأسمالية تعنى وجود صيغ ديمقراطية تجعل الضغط النسبي على السلطة والدولة ممكنا، كما تجعل إقالة الشخصيات المنتخبة، بما فيها إقالة الحكومة نفسها، ممكنة أيضا.

- يجب أن لا ننسى حقيقة أخرى حول الرأسمالية تقوض ادعائها بالديمقراطية، لأن "الحرية الاقتصادية" تمكن المتحكمين بالنفوذ الاقتصادي للشركات من اتخاذ قرارات هامة جدا تخص الحياة المحلية، الإقليمية والقومية، ويكون لهذه القرارات تأثيرات عالمية كبيرة أيضا، وذلك دون الرجوع إلى الجماهير التي تنعكس عليها هذه القرارات، هذا يعني مثلا، أن يجد العمال أنفسهم يعملون عند رب عمل جديد نتيجة اندماج الشركة مع أخرى لم يكن لهم أي رأي حوله.

- لا تملك الديمقراطية حق الدخول إلى قاعات اجتماع مجالس إدارات الشركات، وليس لها حضور يذكر في عملية الإنتاج بشكل عام. وتعد "مشاركة" العمال في عملية الإنتاج أساسية، ولكن هذا لا يغير الطبيعة التسلطية لعلاقات الإنتاج في البلدان الرأسمالية، فهي تقوم على حماية امتيازات الادارة واستخدامها لتلك الامتيازات، بكلمة أخرى، هناك أقلية صغيرة من الناس تسيطر على جانب حياتي واسع يهم الجميع، هذه الأقلية لا تخضع إلى المساءلة حين يسمح القانون بها، وليست مسؤولة أمام أحد سوى أصحاب الأسهم. أما أصحاب الاسهم فسعداء في الغالب بترك المبادرة للإدارة بشرط الحفاظ الكافي على الأرباح.

- يجب ربط كل ما ورد حتى الآن بسمة مركزية من سمات الرأسمالية باتت تعتبر من المسلمات بحث لا تحظى باهتمام. إنها حقيقة أن الرأسمالية نظام يقوم على العمل المأجور. العمل المأجور عمل ينجز مقابل تقاضي أجر في خدمة رب العمل الذي يحق له بفعل الامتياز الذي يتمتع به كمالك لوسائل الإنتاج ومسيطر عليها، أن يستولي على الفائض الذي ينتجه العاملون عليه ويتصرف به.

- إن المواطن الأمريكي إذ يفتح أية جريدة، مجلة، راديو، تلفزيون، كتاب، محطة كابل، سينما، شريط تسجيل أو فيديو، فإنه في الغالب يتلقى معلومات، أو أفكار مسلية تديرها الحفنة نفسها من الشركات، وينطبق هذا على وسائل الإعلام التي يملكها القطاع الخاص في جميع البلدان الرأسمالية، ليس ثمة ما هو "ديمقراطي" في هذه الممارسة.

- هناك سمة أخرى للرأسمالية، إنها الانتشار الكوني وانعكاساته، حيث يخضع اليوم جنوب الكرة الأرضية لشمالها، وارتباطا بهذا الاخضاع نشأ تنافس القوى الرأسمالية الكبرى على مزايا الإمبريالية.

- في السنوات الأخيرة، تؤكد واشنطن وغيرها من العواصم الغربية على الحاجة إلى "الديمقراطية" في كل مكان. صحيح أن الدكتاتوريات كريهة، ولكن ليس عندما تكون حليفا نافعا، كالعربية السعودية مثلا (وغيرها من الدول في أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا)، بكلمة أخرى، يمكن استبدال نظام دكتاتوري ضمن بنية رأسمالية، بنظام "ديمقراطي" ضمن البنية نفسها، وهذا ما حدث في أمريكا اللاتينية وأماكن أخرى، وهذا ما تريده الولايات المتحدة وحلفاؤها.

- ستستمر هذه المساعي (نحو الخصخصة وشطب القطاع العام والملكية العامة لوسائل الإنتاج) من اجل جعل هذا العالم مكانا آمنا للرأسمالية، بأساليب اقتصادية، سياسية، ثقافية، وبالأسلوب العسكري إذا اقتضت الضرورة (مثال العراق اليوم).

- حول المنادين بالليبرالية من يساريي الأمس: ان ما تعرض لنيران الهجوم في السنوات الأخيرة (من قبل الذين يهاجمون الأيديولوجية الاشتراكية) هو بالذات مفهوم الاشتراكية بصفتها إعادة تنظيم شاملة للنظام الاجتماعي، وكثير ما جاء الهجوم من أناس ما زالوا ملتزمين، إلى هذا الحد أو ذاك، بجوانب التقدمية في السياسة، فتيارات ما بعد -الماركسية (post marxism)، وما بعد -الحداثة (post modernism)، وما بعد -البنيوية (post structuralism) والتيارات الفكرية المتصلة بها، مهما كانت نوايا أصحابها، قد ساعدت على تقوية الارتداد عن الأفكار العامة لتحرير الإنسان، وخاصة عن الماركسية.

- وكانت هذه المواقف على الدوام جزءا جوهريا من الفكر المحافظ، وها قد أمست الآن جزءا من تفكير عدد كبير من مثقفي اليسار أيضا، فاهتمامهم ينصب هذه الأيام على الأهداف الجزئية، المحلية، المتشظية والخصوصية، وعلى مناوئة الرؤية الشاملة معتبرينها "شمولية" أو "كليانية".

هذا الموقف من مثقفي اليسار السابقين وهبوطهم نحو الليبرالية، هو موقف ناجم عن الهزائم والخيبات الكثيرة التي عاناها اليسار في العقود الاخيرة: الفشل الكارثي للأنظمة الشيوعية، الاندماج المتزايد والصريح للأحزاب والحكومات الاشتراكية -الديمقراطية في نسيج المجتمع الرأسمالي، صمود وحيوية رأس مالية ما بعد الحرب الثانية، وثقة اليمين الناتجة عن كل ذلك في العقود الأخيرة، وتأكيده لقيم السوق، وتفوق "الاقتصاد الحر" والتنافس، وتمجيده للفردانية الحيادية كنقيض للفردانية الاجتماعية التي تلتزم الاشتراكية بها.

كل هذا شجع، إلى حد بعيد التيارات الفكرية الكثيرة التي ساعدت على تدمير أية ثقة، بأن بديلا شاملا للمجتمع الرأسمالي أمرا ممكن أو حتى مرغوب فيه. إن لتآكل هذه الثقة أهمية بالغة، لأن هذه التيارات (التي تقول بأن ليس هناك بديل حقيقي للمجتمع الرأسمالي الحالي)، إنما تلعب دورها في ايجاد مناخ فكري يسهم في ازدهار الأعشاب السامة في غابة الرأسمالية وهي: العنصرية، التفرقة بين الجنسين، العداء نحو الغرباء ن معاداة السامية، الضغائن القومية، الأصولية والتعصب.

إن غياب البديل العقلاني المتمثل بالاشتراكية، عن الثقافة السياسية يساعد على نمو الحركات الرجعية التي تحتضن هذه الأمراض وتحيا عليها وتستخدمها ببراعة في سبيل أغراضها. وعلى أي حال يمكن لهذه الحركات الرجعية أن تزدهر نتيجة للأزمات المتعددة التي تعجز المجتمعات الرأسمالية عن حلها، وذلك مهما ارتفعت صيحات النصر التي يطلقها المدافعون عن النظام الرأسمالي (في صورته المعولمة الراهنة بالذات)، مما يجعل الدعوة إلى نظام اجتماعي مختلف جوهريا (ونقصد بذلك النظام الاشتراكي) أكثر ضرورة من أي وقت مضى.

حول الموقف من الطبقة العاملة في ضوء انهيار المنظومة الاشتراكية، وبروز الليبرالية:

لقد درج القول في السنوات الأخيرة بأن التسمية الشاملة التي تؤكد على الطبقة العاملة ووجودها ودورها، هي تسمية مضلِّلة تماما، بل ويذهب هؤلاء في الادعاء بأن التغيرات العميقة التي طرأت على سيرورة الإنتاج، مع تآكل الطبقة العاملة الصناعية وانحسار المهن "التقليدية"، وانتشار النزعة الاستهلاكية، كل ذلك أدى إلى ايجاد "طبقة عاملة"، تجد هويتها الحقيقية في السوبرماركت والأسواق أكثر مما تجدها في قاعات الاجتماعات الحزبية وفي النشاطات السياسية بشكل عام.

فالطبقة العاملة، كما يدعون، هي الآن جمهرة أكثر فوضى وتفتتاً من أي وقت مضى، جماعة من البشر مشظاة ضمن مجتمعات حولت الواقع الى مشهد لملهاة لا مكان فيها للأيديولوجيا أو الالتزام السياسي اللذين يلهيان العاملين بأجور عن اهتماماتهم الحقيقية.

إلى أي مدى تصح هذه الرؤية اليوم؟

كي نجيب على هذا السؤال قد يكون من المفيد ان نعود الى مفهوم ماركس عن "الوضع الاجتماعي". كتب ماركس في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي": أن "شكل إنتاج الحياة المادية هو الذي يحدد، بوجه عام، سيرورة الحياة الاجتماعية، السياسية والثقافية" وأن "ما يحدد وجود الناس الاجتماعي ليس هو وعيهم، بل أن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".

ولكن، رغم ان الموقع الطبقي للطبقة العاملة لم يؤدِ في الغالب الى تشكل وعي طبقي ثوري، فهذا لا يعني أننا نستطيع إنكار قوة العلاقة بين الطبقة والتوجهات السياسية لجميع الطبقات.

وخلافا لكل المتنبئين بتحول الطبقة العاملة إلى جمهور هلامي مفتون بالاستهلاك، يدرك المحافظون في كل مكان أن الطبقة العاملة تبقى، في نظرهم، مصدرا محتملا للخطر الدائم، وأن المعركة في سبيل كسب هذه الطبقة عقلا وقلبا، معركة شاقة وضرورية دائما.

إن هذه النظرة أكثر واقعية بكثير من حديث j.k.galbraith (جالبريث ) عن سيادة "ثقافة الرضا" حاليا، وحسب رأيه فإن "الرضا السائد والقناعة المترتبة عليه قائمان لدى الأكثرية وليس الأقلية فقط"

كان أندريه غروز a.groz أحد الدعاة الأساسيين بهذه النظرة منذ مدة طويلة. وقد كتب مؤخرا في صيغة نموذجية لهذا النمط من التفكير "نحن إزاء تحول اجتماعي يؤدي حالة يكون للعمل فيها مكانة متواضعة في حياة الناس".

قد يكون ذلك صحيحا، لكن، كما يقول "روبرت دال": "يحتل العمل مكانة أساسية في حياة أغلب الناس، لأن الغالبية العظمى منهم يقضون وقتا في العمل أطول من الوقت الذي يقضونه في أي نشاط آخر. فالعمل يؤثر، تأثيرا حاسما في أحيان كثيرة، على دخلهم، استهلاكهم، ادخارهم، مكانتهم، صداقاتهم، أوقات راحتهم، صحتهم، أمانهم، حياة أسرهم، شيخوختهم، ثقتهم بأنفسهم، حريتهم الشخصية، إرادتهم، ارتقائهم بذاتهم، وعدد آخر لا يحصى من المصالح والقيم الأساسية".

إن هذا القول يتميز بالبلاغة، ولكن ما يحتاج التأكيد أيضا هو أن العمل الذى يزاوله المرء وثيق العلاقة بانتمائه الطبقي، ولا يمكن للانتماء الطبقي أو العمل الذى يزاوله المرء أن يخلقا وعيا يساريا بصورة تلقائية، ولكن الحاجة إلى التغيير، مع ذلك، مرتبطة "عضويا" بالطبقة العاملة نظرا لموقعها في سيرورة الإنتاج في المجتمع ككل: فهذا الموقع بطبيعته يدفع العاملين بأجور نحو طلب أجور أعلى، ظروف عمل أفضل، ساعات عمل أقل، حقوق وخدمات أوسع بالإضافة إلى إصلاحات أخرى.

من ناحية ثانية، فإن للأحزاب اليسارية أيضا دور هام في صياغة المطالب "الحيوية" صياغة متماسكة. كما أنها (أو يجب أن تكون) مصدر أساسي لصياغة منظومة قيمية تتحدى المنظومة السائدة وتطرح "رؤية مختلفة جذريا للعالم".

إن فشل الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية في انجاز هذه المهمة يشكل تفسيرا هاما لتراجع الراديكالية بين صفوف العاملين بأجور في البلدان الرأسمالية المتقدمة.

لا يقتصر الضغط من أجل الإصلاح على العمال. إذ يأتي أيضا من صفوف الطبقة المتوسطة الدنيا، كما اجتذبت حركات إصلاحية عددا لا بأس به من أفراد البورجوازية أيضا. هناك أولا أصحاب الشركات الصغيرة، أصحاب الدكاكين، المزارعون الصغار، الحرفيون المستقلون - فهؤلاء هم الأعضاء الصغار في عالم الرأسمالية. وهناك ثانيا: المعلمون، الصحفيون، الفنيون، المرشدون الاجتماعيون، والموظفون المشرفون في القطاعين العام والخاص.

إن فكرة انغماس السكان في لا مبالاة حول أي شيء، ما عدا الاستهلاك، تمثل تصويرا فيه الكثير من التشويه. على العكس من ذلك، هناك، وفي جميع جوانب المجتمعات الرأسمالية، تأكيد حي، نضالي في كثير من الأحيان، على المطالب والحقوق، حتى من قبل أناس لم يكن لهم، منذ فترة ليست طويلة أي حضور على المسرح السياسي: النساء، السود، المثليين، الخضر، المعوقين، الشباب والمسنين. كما لم يتوقف العاملون بأجور ونقاباتهم عن المطالبة والاصرار على حقوقهم، حتى وإن كان مستوى النشاط الاضرابي قد انخفض في الثمانينات وما بعدها.

هناك أيضا فشل الحكومات الاشتراكية-الديمقراطية في أن تقدم أي بديل واضح عن المحافظين، أضف إلى ذلك الفساد الذي ارتبط في العديد من الدول بأحزاب اليسار.

إن أي تفسير لعدم الاكتراث الشعبي، أو العداء، لفكرة الاشتراكية، في أية صيغة، يجب أن يتضمن قصور منظمات اليسار الجماهيرية، خاصة الأحزاب الاشتراكية-الديمقراطية، في الدعوة إلى الاشتراكية. فمنذ السبعينات، وما بعدها، أخليت الساحة الأيديولوجية لهيمنة اليمين عمليا، مع بقاء معظم اليسار غير قادر، أو غير مستعد، للنضال المناهض لهذه الهيمنة.

إن هذا آخذ بالتغير، في ظل الاخفاقات الواضحة لليبرالية الجديدة. وفي حين يوجد الكثير من الارتياب العاق بالاشتراكية، كمفردة وكتعاليم، هناك الكثير من الدعم لمطالب تستهدفها الاشتراكية، وتشكل تحديا لأيديولوجيا المحافظين وممارستهم -مطالب ذات علاقة بالضمان الاجتماعي، الخدمات العامة، الحقوق، الديمقراطية، المساواة، العدل، والسلوك الانساني. هناك حاليا جدار قوي يفصل مثل هذه المطالب عن الاشتراكية. ومهمة الاشتراكيين هي الاظهار المقنع للصلة بين هذه المطالب والاشتراكية، وتوضيح أن المطالب الجذرية بالديمقراطية، بالمساواة في الحقوق لا يمكن تحقيقها إلا جزئيا ضمن إطار البنى القائمة للسلطة والامتيازات، وإن تحقيق هذه المطالب يتطلب نوعا من التغيير الشامل الذي تمثله الاشتراكية.

إن النضال المضاد للهيمنة يمثل مسعى جماعي، يمكن للمثقفين خلاله أن يقدموا مساهمة هامة، في كشف المسار خلال الغابة التي تمثل واقعنا الحاضر. ثمة حاجة دائمة لذلك، ولكن الحاجة إليه تكتسب أهمية خاصة ونحن نواجه العديد من مشاكل جديدة في عالم متغير بسرعة خارقة، مشاكل تحتاج إيضاحا وحلا إذا ما رغبنا في تحقيق أي تقدم.

الموضعة الدارجة تقول أن الماركسية لديها القليل أو ليس لديها أي شيء، هذا خطل كبير، إذ يجب التمييز بوضوح بين جانبين من أفكار ماركس. الأول وهو رؤياه للاشتراكية والشيوعية، وهي رؤية لم يتمكن أحد أن يبزها، لكنها تصور المستقبل البعيد جدا. أما الثاني فهو تحليل طبقي يكمن في قلب الماركسية. فلهذه الماركسية قيمة لا تضاهى في فهم المجتمعات الطبقية وصراعاتها، على الرغم من التعديلات التي يجب إدخالها عليها في ضوء التطورات التي طرأت على العالم منذ رحيل ماركس. فالاشتراكيون الذين يحرمون أنفسهم من عون الماركسية يقعون في فقر شديد.

    

 

 


[1]"رالف ماليباند" مارس التدريس في كلية لندن للاقتصاد، وكان استاذا للعلوم السياسية في جامعة ليدز (بريطانيا) وبعدهما في جامعة يورك (كندا). أتم كتابه "الاشتراكية لعصر شكاك" "Socialism For A sceptical Age" في يناير 1994، وتوفي في الشهر نفسه قبل أن يرى كتابه النور. } ترجمة الكتاب الى العربية: نوال لايفه، مراجعة د.غانم حمدون، واصدرته دار المدى للثقافة-دمشق-سوريا-الطبعة الأولى-1998{ . كان رالف ميليباند (المولود باسم أدولف ميليباند في 7 يناير عام 1924 - 21 مايو عام 1994) عالم اجتماع بريطاني. وصف بكونه أحد «أشهر الأكاديميين الماركسيين من بين أبناء جيله» في الطريقة التي قورن بها مع إ. ب. تومبسون وإريك هوبسباوم وبيري أندرسون.

ولد ميليباند في بلجيكا لعائلة من المهاجرين البولنديين اليهود المنتمين للطبقة العاملة. لاذ بالفرار مع والده إلى بريطانيا في عام 1940 حتى يتلافيا التعرض للاضطهاد بعد غزو ألمانيا النازية لبلجيكا. أصبح منخرطًا في السياسة اليسارية على ضوء تعلمه الإنجليزية والتحاقه بكلية لندن للاقتصاد وقطع على نفسه عهدًا بالمواظبة على خدمة القضية الاشتراكية عند زيارته لضريح كارل ماركس. استقر ميليباند في لندن سنة 1946 بعد أدائه للخدمة العسكرية في البحرية الملكية إبان الحرب العالمية الثانية وتجنس ليصبح مواطنًا بريطانيًا في عام 1948.

أصبح عضوًا بارزًا في حركة اليسار الجديد ببريطانيا بحلول ستينيات القرن العشرين. انتقدت الحركة الحكومات الاشتراكية القائمة في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الوسطى (الكتلة الشرقية). نشر ميليباند كتبًا عدة حول النظرية الماركسية وانتقاد الرأسمالية مثل كتاب الاشتراكية البرلمانية (1961) وكتاب الدولة في المجتمع الرأسمالي (1969) وكتاب الماركسية والسياسة (1977).

غدا ابناه ديفيد وإد ميليباند أعضاءً رفيعي المستوى في حزب العمال عقب وفاة والدهما. إذ شغل ديفيد منصب وزير الخارجية البريطاني خلال الفترة الممتدة من عام 2007 حتى عام 2010، في حين تولى إد منصب وزير الطاقة وتغير المناخ وانتُخب في ما بعد زعيمًا للحزب خلال الفترة من عام 2010 حتى عام 2015.