Menu

أوهام سينمائية

حسام الدين السيد

السينما ساحرة حقا ، بكرة الفيلم تدور لتخرج روحك منك و تذوب حكايتك في حكاية أخرى ، زمن قصير تنسى فيه ذاتك و واقعك الآني و همومك الذاتية و تقاتل بوجدانك في معركة لا تخصك أبطالها لا تعرفهم ، تتألم و تفرح و تعشق و تنتصر معهم على العالم القاسي , ترتجف أطرافك من هول رعب لا تحتمله حتى ينتهي ليطهرك داخليا و يخبرك أن عالمك كان يمكن أن يكون أسوأ فتمتليء بالامتنان، يلعب الخيال ألعابه بمشاعرك فتتخيل نفسك بطلا و تفبرك المشهد لتصير الشاشة خلفية تداعيات خواطرك حول ما تتمنى و ما تخفي ، تساءلت يوما هل نخرج بذاتيتنا كما هي بعد رحلتنا القصيرة مع الحكاية التي تدور بأحداثها بكرة الفيلم أم تسيطر السينما بسحرها على عقلنا وربما طريقة تفكيرنا ؟ كيف نرى البشر؟ وكيف نرى العالم ؟!

أبطال الحكاية السينمائية محددون بقالب و صفة صارمة لا يخرجون عنها فهناك مثلا الطيب و الشرس و القبيح ، أفعال و أقوال كل شخص مسخرة لتوكيد تلك الصفة، بطل القصة وحده من يحق له أن يكون مركبا و من نلتمس الأعذار لأخطاءه و ننتظر تحولاته النفسية للأفضل و لا نحكم عليه حتى النهاية ، في الواقع نحن نمارس تلك العنصرية أيضا فأبطال قصتنا الواقعية محصورون في صفة بعينها فهذا طيب ببلاهة و هذا متشائم بهمة و هذا ثقيل الظل  و نحن فقط من يحق لنا التقلب في تلك الصفات دون أن نقبل أن يسجننا أحدهم في حكم ساذج بأننا كذا

أحداث الحكاية السينمائية ي قطر منها الأدرينالين، ساعات تختزل سنوات و تحوي هذا التحول الخلاق الذي يقلب الحياة رأسا على عقب فيتحول الزنديق لقديس و الساذج لخبير حتى لحظة كلايمكس تنفك فيها كل العقد و تنحل صراعات امتدت لعقود و تربى عليها الأبطال بقرارات لحظية، في الواقع الحياة أكثر مللا و رتابة و لا يفاجئنا فيها الأدرينالين إلا في أوقات قليلة غالبا نهرب منها لأن الأدرينالين يخرجنا من الكومفورت زون الذي اعتدناه، لا تنتظر هذا التحول الخلاق الذي يقلب حياتك رأسا على عقب و لا تنتظر الكلايمكس الذي سيكسر الجليد و يجعلك تعيش بحق فالأمر قرار داخلي و حسب و انتظار الكلايمكس عبادة الحالمين.

النهاية السينمائية مستبدة للغاية فهناك الكادر النهائي الذي يشعرك أن الحياة ذاتها توقفت و أن الشخصيات على موعد مع قيامتها ، فالنهاية السعيدة تفترض أن الشرور انتهت من العالم و أن الحالة الشعورية اللحظية ستمتد للأبد و هو تصور ساذج نمارسه في الواقع ، ليس الزواج نهاية سعيدة و لا الترقية المربحة،  لا تلقي كل رهانك على لعبة نرد واحدة لأن الزمن محايد سيستمر و عليك أن تفلسف من سعيك  اليومي صيغة سعادة و إلا ستنفق آلاف اللحظات من السعي المرهق في سبيل لحظة سعادة واحدة و هذا غير عادل،  في عالمنا لا مكان للكادر النهائي و لا النهاية السعيدة أو التعيسة، حتي الموت طقس انتقالي لأفق آخر و افتراض أن لحظة ما ستتحول لكادر أبدي هو وهم سينمائي مخيب للآمال.

الأمل السينمائي،  السينما منجم خصب ننهل منه الأمل، في أن هناك أشخاص صنعوا قصتهم و تحدوا واقعهم و توصلوا للنهاية السعيدة، نستمتع بنشوة الهروب الكاذب من واقع لا يسمح لنا بممارسة حريتنا في أن نكون كما نريد، فينتصر لنا أبطال الشاشة من هذا الواقع، ربما لهذا تقطب جبينك و يتطاير اللب من فمك و البطل يواجه مصاعبه و ترفع وعاء البوب كورن منتشيا مع انتصاره و تذوب في قبلة المشهد النهائي أو تسيل دموعك لو النهاية شكسبيرية رومانسية، تمارس هنا السينما دور التنفيس لحياة تغلي من القهر و الرتابة و الملل فتدمن على لحظات الانتصار السينمائي.

كل السير الذاتية الحقيقية و قصص نضال هؤلاء الذين مارسوا إنسانيتهم و حريتهم بالحق تحوي من الإعجاز ما لن يقبله المشاهد و لن يراه طبيعيا لو تحولت تلك السيرة الذاتية لفيلم سينمائي، من يقبل خيال مؤلف عن غاندي فقير يذل الإمبراطورية البريطانية و يحرر شعبه بفلسفة اللاعنف،  جيتس الذي لم يكمل تعليمه و صار إمبراطور لثقافة الحاسوب العالمية، الواقع أكثر إعجازا في تفاصيله اليومية و شخصياته المركبة المتأرجحة بين الخير و الشر في دراما لا تحصرها صفة أو قالب، تقول الحكمة ” الفرق بين الخيال و الواقع أن الخيال يجب أن يكون منطقيا “،  تحرر من أوهامك السينمائية، من عنصريتك في اختزال أبطال قصتك في صفة واحدة بالسلب أو الإيجاب، من انتظار لحظة كلايمكس ستقلب حياتك رأسا على عقب ،من كادر أبدي سعيد تكافح بتعاسة عمر كامل لبلوغه و عندما تصل له متعبا ستسأل هل هذا كل شيء ؟ تحرر من استمداد الأمل من دراما السينما ورحب بدراما الواقع التي لا تشترط المنطق ولا تضع حدود للإعجاز.

(المصدر: قُل)