Menu

الانسحاب من خيرسون وصاروخ بولندا

طارق أبو بسام

في الأيام القليلة الماضية انشغل الرأي العام العالمي، من محللين سياسيين وعسكريين وإعلاميين وصحفيين، بالبحث عن حقيقة ما جرى بالنسبة لموضوعين هامين يتعلقان بالحرب الدائرة في اوكرانيا وتطوراتها:

الأول: انسحاب القوات الروسية المفاجئ من خيرسون

الثاني: الصاروخ الذي سقط في الأراضي البولندية

وتسابق المحللون والخبراء العسكريون ورجال الصحافة والسياسة، كل يريد أن يدلي بدلوه في تفسير ما حصل، وتعددت وجهات النظر، وتباينت الاجتهادات حول الحدثين، إلى حد كبير وصل إلى التناقض أحيانا.

هناك من يقول: أن الانسحاب من خيرسون هزيمة لروسيا، ويعد خسارة كبيرة لها، ويعتبر نقطة تحول في مسار الحرب الدائرة منذ شباط لهذا العام، لغير صالح روسيا.

والرأي الآخر يقول: أن ما حصل لا يعدو كونه خطوة تكتيكية قامت بها روسيا، أعادت بموجبها تموضع قواتها في المنطقة من جديد، وبما ينسجم مع تحقيق أهدافها التي أرادتها من عملياتها العسكرية، كونها جاءت تلبية لضرورة وحاجة موضوعية في ظل التطورات الحاصلة في الميدان، من أجل منع حصول كارثة كبرى وتجنبا للخسائر الفادحة التي من الممكن أن تتكبدها القوات الروسية في تلك المناطق التي يتواجد فيها أكثر من 20000 جندي، يمكن أن يتحولوا إلى ضحايا إذا ما تم تفجير السد المائي في كاخوفكا، مما يتسبب بغرق المنطقة والجنود معها.

لقد كان الانسحاب ثقيلا، ومثّل تراجعا من قبل القوات الروسية، وانسحابا من أراضي تم ضمها لروسيا قبل فترة وجيزة، خاصة أن قرار الضم جاء على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتم المصادقة عليه من قبل مجلس الدوما. ولا شك أن هذا الانسحاب جاء مفاجئا للجميع، خاصة وأن الشعب الروسي كان ما زال يحتفل بعودة هذه الأراضي إلى روسيا، وشكّل خسارة معنوية كبيرة في صفوف الجيش والشعب، حيث تعالت الأصوات المنتقدة لهذه الخطوة ووصلت إلى الجيش والرئيس بوتين، وخرجت الناس إلى الشوارع تطالب الرئيس بوتين والجيش الروسي والقيادة باتخاذ خطوات أكثر حزما وقوة في التعامل مع أوكرانيا، كونهم قادرين على ذلك دون أدنى شك، وطالبوا بتدمير مراكز القرار والبنى التحتية هناك، بحيث تصبح أوكرانيا غير قادرة على المواجهة ويؤدي إلى التسريع في وضع حد لهذه الحرب ونهايتها والذهاب إلى التفاوض، وفقا للشروط التي وضعتها روسيا.

إن خطوة الانسحاب من خيرسون، إضافة إلى ما حصل قبل ذلك من انسحاب في خاركوف، جعل الرئيس الأوكراني زيلنسكي يصاب بغرور شديد، وبات يعتبر نفسه منتصرا وبوتين مهزوما، وروسيا مهزومة، وأوكرانيا منتصرة، وبدأ في وضع شروطه للمفاوضات التي تقول لا مفاوضات قبل الانسحاب الروسي من كافة الأراضي الأوكرانية التي استولت عليها والعودة لحدود عام 1991، وقد تسببت هذه التصريحات غير الواقعية ويستحيل تحقيقها، إلى موجة انتقادات واسعة لموقف الرئيس الأوكراني حتى من قبل حلفائه الغربيين. إن الانسحاب من خيرسون وقبلها في أوكرانيا ومن محيط مدينة كييف ليس نهاية المطاف، ولا يعني إطلاقا أن روسيا قد هزمت وأوكرانيا قد انتصرت. الحرب هي الحرب، فيها تقدم وتراجع... فيها انكسارات وانتصارات، إلا أن الأمور لا تقاس بالانتصار في معركة أو تراجع وخسارة في أخرى، وإنما تقاس بالنتيجة النهائية للحرب.

ما أقدمت عليه روسيا في خطوة الانسحاب من خيرسون، ما هو إلا خطوة للخلف من أجل عشر خطوات إلى الأمام (الانسحاب تم من 30% من خيرسون وبقي 70% تحت سيطرة روسيا، عندما يقال الانسحاب من خيرسون، فهذا ما هو إلا تضليل، وهذا ما نراه اليوم من تقدم للقوات الروسية وتحرير المزيد من الأراضي من ناحية وتوجيه العديد من الضربات النوعية الحاسمة في العمق الأوكراني، بما في ذلك العاصمة).

أوكرانيا تحتفل ببعض الانتصارات التكتيكية في هذه الحرب، بينما روسيا تعمل من أجل الانتصار الاستراتيجي الذي يضمن لها فرض شروطها والوصول إلى تحقيق أهدافها، ليس على أوكرانيا فقط، وإنما على حلف الأطلسي وأعوانه، ويومها يكون النصر الذي تحتفل به روسيا.

إن روسيا هي المنتصرة في هذه الحرب لا محالة، وهذا القول ذلك ليس من موقع التمني والرغبات الذاتية، وإنما من موقع متابعة ومعرفة الوقائع والإمكانات والقدرة على الصمود وإردة التحدي التي تملكها روسيا، روسيا عصية على الكسر، لا تقبل الهزيمة وهي تسير نحو الانتصار القادم وهذا ما أثبتته حقائق التاريخ، وأسباب انتصار روسيا متعددة وكثيرة، منها:

أولا: روسيا تخوض معركة لا تهدف فيها تدمير أوكرانيا وبنيتها التحتية (المصانع، المدارس والجامعات، خطوط النقل والمواصلات، محطات الوقود والطاقة، المستشفيات...الخ). كان باستطاعة روسيا أن تفعل ذلك منذ البداية، لكنها لم تفعل، كونها لا تريد التدمير، وحرصا على أرواح المواطنين في أوكرانيا، وتجدر الإشارة هنا أن روسيا ليست أمريكا التي دمرت يوغوسلافيا والعراق وأفغانستان، وقبل ذلك فيتنام، واستخدمت السلاح النووي ضد اليابان، روسيا لديها قيم وأخلاق حتى وهي تحارب، وهذا ما تفتقده أمريكا ودول الأطلسي التي لعبت دورا كبيرا في تدمير سوريا و ليبيا وغيرها.

مع الأسف قد تصبح روسيا مجبرة على ذلك وعلى تغيير أسلوبها في قادم الأيام، إذا ما استمرت القيادة الأوكرانية في تعنتها، والغرب في دعمها، وعندها سوف تتغير الكثير من المعطيات لصالح روسيا.

ثانيا: روسيا لم تستخدم سوى جزءا بسيطا من أسلحتها التقليدية، وما زالت تراهن على الحلول السياسية والدبلوماسية التي لجأت إليها قبل مدة طويلة من اندلاع هذه الحرب، ولو أرادت روسيا حسم المعركة من خلال اتباع أسلوب الأرض المحروقة، سياسة السجادة كما يسميها الأميركان، لفعلت ذلك وحسمت المعركة لصالحها خلال أيام.

والأسئلة التي تطرح هنا: ألم تصل القوات الروسية إلى العاصمة كييف؟ ألم تنتقل البعثات الدبلوماسية منذ بداية المعركة وفي أيامها الأولى إلى مدينة لفوف على حدود بولندا؟

إن هذا يعطي جوابا واضحا على قدرة روسيا على الحسم.

ثالثا: من يقرأ التاريخ، يدرك جيدا أن روسيا انتصرت في معاركها ولم تهزم دوما. ألم تهزم نابليون؟ ألم تنتصر على هتلر وتهزم جيوشه بعد أن وصل أبواب موسكو، وفرضت عليه الاستسلام؟

صحيح أن بعض الأراضي الروسية قد احتلت في حروب سابقة كما اشرت، ولكن في النهاية كانت روسيا هي المنتصرة وهزمت المحتل.

إن الشعب الروسي شعب عظيم، والجيش الروسي ليس أقل عظمة من شعبه، وهو لن يهزم وسيكون النصر حليفه في النهاية مهما طالت الحرب.

رابعا: الشعب الروسي وقيادته موحدين خلف الرئيس بوتين، ولن يغيّر في ذلك بعض الانتقادات التي برزت مؤخرا بعد الانسحاب من خيرسون، وهي انتقادات تطالب بالمزيد من الحسم، وليس العكس، بينما الدول الغربية منقسمة على نفسها، حيث رسميا، بدأت تزداد الخلافات بينها حول المفاوضات مع روسيا، وفرض العقوبات عليها، وحول دعم أوكرانيا ماليا وعسكريا، واستمرار هذا الدعم، أما على المستوى الشعبي تعالت الأصوات في معظم أنحاء أوروبا وأمريكا مطالبة بالتفاوض مع روسيا والوصول إلى حل معها يوقف هذه الحرب، حيث بات يدرك المواطن في هذه الدول ارتداد سلبيات هذه الحرب على حياتهم اليومية، في البيت والعمل، وكافة مجالات الحياة الأخرى، من غلاء المعيشة وارتفاع أسعار المحروقات والطاقة والمواد الغذائية وكل شي، وزيادة التضخم ونسبة البطالة، إلى جانب عدم الشعور بالأمان وفقدان الأمل في المستقبل، وما المظاهرات الكبيرة التي عمت أنحاء أوروبا إلا دليل على ذلك.

خامساً: ما زالت موازين القوى لصالح روسيا في هذه الحرب، رغم بعض الانتكاسات، ومما يدل على ذلك أن المعارك تجري داخل الأراضي الأوكرانية حتى الآن، وكذلك القصف والغارات والتفجيرات، وليس في الأراضي الروسية.

روسيا هي من تتقدم داخل أوكرانيا وضمت عددا من مناطقها إليها لوغانسك، دونيتسك، زاباروجيا، خيرسون).

 سادساً: التراجع في موقف أمريكا وحلف الأطلسي، خشية من توسع هذه الحرب، وشمولها أراضيهم، كونهم غير مستعدين لخوض هذه الحرب مباشرة وإرسال جنودهم دفاعا عن أوكرانيا، لكنهم يخوضونها كحرب بالوكالة، وهم مستعدين لخوضها حتى آخر جندي اوكراني، ومن المعروف أن الشعب الأوكراني هو من يدفع الثمن.

إن هذا التراجع في المواقف يقودنا إلى فهم وتحليل ردود أفعال هذه الدول بعد حادثة ما يسمى صاروخ بولندا والأزمة التي نتجت عنها وكادت تدفع الأمور نحو تفجير أكبر، ربما يقود إلى حرب عالمية ثالثة.

ومن المعروف أيضا أن الروايات قد تعددت حول مصدر هذا الصاروخ، منها من قال: أن روسيا هي من أطلق هذا الصاروخ وتريد اختبار رد الفعل الغربي والناتو حول ذلك، ومنهم من قال: أن هذا الصاروخ هو صاروخ بولندي أطلق من الدفاعات البولندية التي كانت تتصدي للصواريخ الروسية المهاجمة، وسقط في بولندا.

والأهم من هذا وذاك هو الاستغلال الكبير البشع من قبل زيلنسكي ورئيس بولندا ودول البلطيق لهذا الحادث، من أجل صب الزيت على النار والدعوة إلى تفعيل المادة الرابعة من ميثاق حلف الأطلسي، من أجل الوصول إلى تفعيل المادة الخامسة التي تقول: (إذا ما تعرض أي بلد من البلدان المشاركة في الحلف إلى اعتداء على كافة الدول أن تقوم بالدفاع عنها). وما زال البعض يحمل روسيا المسؤولية عن هذا الحادث، رغم اتضاح الصورة بشكل لا يقبل الجدل أن مصدر هذا الصاروخ هو بولندا، في رغبة منهم لجر العالم الى حرب قد تكون الأخيرة.

وهنا أقول رب ضارة نافعة، حيث اكتشف العديد من دول أوروبا والأطلسي أن مواقف زيلنسكي، مواقف مغامرة كاذبة، تستهدف التصعيد وجر الناتو إلى دخول حرب مباشرة مع روسيا عكس رغبتهم، وبناء على ذلك جاء الرد السريع من قبل الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي أبلغ الشركاء المجتمعين على هامش قمة العشرين أن الصاروخ لم يكن روسيا، مما أدى إلى تبريد الأجواء المشتعلة. وجاء في نفس السياق، أيضا تصريح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي الذي أكد كلام الرئيس بايدن، وبالتالي تم نزع فتيل التفجير أولا، وكشف حقيقة زيلنسكي وأكاذيبه ثانيا. بعد كل هذا بجب أن تتوقف الأصوات التي تدعو إلى استمرار الحرب وتوسيع نطاقها، التوقف والذهاب إلى طاولة المفاوضات وهي الطريق الوحيد الذي يمكنه حل هذا النزاع.

قد يسأل البعض لماذا ادافع عن روسيا، أجبت عن ذلك في مقال سابق لي تم نشره في الصحافة ووسائل الإعلام.. أنا مع الحق... مع تصحيح الأخطاء التاريخية، ليس في روسيا فقط، وإنما في فلسطين أيضا. أنا ضد الظلم، ضد هيمنة القطب الواحد، ضد الاستغلال. أنا مع العدالة والمساواة ونيل الحقوق وأن تقرر الشعوب مصيرها بنفسها.