نالت الحكومة الـ37 الثقةَ في الكنيست الصهيوني، بعد أن استطاع رئيسها "بنيامين نتنياهو" أن يُرضي حلفاءه في الأحزاب اليمينية والدينية، في اتفاقياتٍ مثيرةٍ للجدل تَفتح الباب واسعًا للتكهنات حول مستقبل الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف، وتأثيره على الأصعدة المتعددة، داخل كيان الاحتلال وخارجه، مع خصومه ومع حلفائه.
الاستيطان سيد الموقف
في وثيقة الخطوط العريضة لحكومة الاحتلال المقبلة، التي قدمها "نتنياهو" إلى سكرتارية الكنيست عشية تنصيب الحكومة، تكشَّفت الملامح الرئيسية التي ستُشكِّل ناصية الفعل والقرار في الحكومة اليمينية القادمة.
في صدارة هذه الخطوط، نصَّت الوثيقة في البند الأول على أن "للشعب اليهودي حق حصري وغير قابل للتقويض على كل مناطق أرض إسرائيل. وستدفع الحكومة وتطوِّر الاستيطان في جميع أنحاء أرض إسرائيل، في الجليل والنقب والجولان ويهودا والسامرة"، أي الضفة الغربية.
كما تنص الاتفاقيات الائتلافية على أن الحكومة ستعمل على تعزيز مكانة القدس كعاصمة يهودية، إذ تنص إحدى اتفاقيات الائتلاف على أن "الحكومة ستركز على إقامة وتطوير القدس، عاصمة إسرائيل، عن طريق البناء على نطاق واسع، وتطوير البنية التحتية، والتوظيف، وزيادة الميزانيات، وستعمل الحكومة على الحفاظ على السيادة الكاملة وتعزيز الحكم في القدس، بما في ذلك إحباط نشاطات السلطة الفلسطينية فيها".
تحتوي الاتفاقيات على موضوع "تنظيم البؤر الاستيطانية غير القانونية"، وينص الاتفاق على أن الحكومة ستتخذ قرارًا في غضون ستين يومًا بشأن تنظيم المستوطنات الجديدة. أيضًا، في خلال الأشهر الستة الأولى من ولاية الحكومة، سيُتَّخّذ قرار آخر بشأن تنظيم الأحياء غير الخاضعة للتنظيم في المستوطنات القديمة، وفي غضون ستين يومًا ستوافق الحكومة على خطة خمسية لتطوير وتعزيز المستوطنات في الضفة الغربية، بميزانية فريدة يحددها وزير المالية المعين "بتسلئيل سموتريتش". وسيُقدَّم تشريع لتعديل قانون "فك الارتباط" في شمالي الضفة الغربية بهدف شرعنة بؤرة "حومش" الاستيطانية التي تقع في منطقة في شمالي الضفة الغربية، وستعمل الوزارات الحكومية -وفقًا للاتفاقيات- على تعزيز تنفيذ خطة بؤرة "أفيتار" الاستيطانية "فورًا"، والتي وضعتها الحكومة السابقة، وستعمل الحكومة من أجل الوجود الأمني وإقامة مستوطنة يهودية في الخليل.
لا مفاوضات مع السلطة، وقرار الضم على الطاولة
في الاتفاقات الائتلافية لا يوجد ذِكر لأي عملية سياسية أو مفاوضات مع الفلسطينيين، ولا يوجد تحديد لشكل التعامل مع السلطة الفلسطينية، بل إن الخطوط العريضة للائتلاف لم تأتِ على أي ذِكر لهذا الجانب.
إلا أن الاتفاق بين "نتنياهو" و"عوتسما يهوديت" بقيادة "سومويترتش" ينص على أنه "طالما استمرت السلطة الفلسطينية في اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل في لاهاي أو في المحاكم الدولية الأخرى، فإن الحكومة ستضع سياسات وتدابير ضد السلطة الفلسطينية وأفعالها، بما في ذلك أن تتصرف بكل طريقة لمنع استخدام الأموال التي تحوِّلها السلطة الفلسطينية والأطراف الأخرى إلى الأسرى وعائلاتهم".
وفيما يتعلق بالضم "بصيغته الواضحة والعلنية"، تنص الاتفاقيات الأساسية على أن "رئيس الوزراء سيعمل على صياغة وتعزيز سياسة تُبسَط في إطارها سيادة إسرائيل مع اختيار التوقيت وموازنة جميع المصالح الوطنية والدولية لإسرائيل"، مع الأخذ في الحسبان أن التوسع الاستيطاني وشرعنة البؤر الاستيطانية وإعادة إنشاء مستوطنة "حومش" شمالي الضفة وبؤرة "أفيتار" قرب نابلس، وما وَرَدَ بحق "الشعب اليهودي" في كامل الأراضي، هي تعبيرات مختلفة عن الضم، وفرض للوقائع على أرض الواقع.
الهروب من التحديات الاستراتيجية المتفجرة
على الرغم من اليمينية المتطرفة لتشكيلة الحكومة، إلا أن رئيسها "نتنياهو"، الذي يُعَدُّ "ثعلب السياسة" "الإسرائيلية"، صاغ الاتفاقيات ليرى الائتلاف الحكومي النور بما يخدم مصالحه بعودته لمقعد رئاسة الوزراء وتمرير القوانين اللازمة لحمايته من الملاحقة القضائية في قضايا الفساد. بناءً عليه، فإن محدداته في صياغة التحالفات ارتبطت بإعطاء حلفائه إنجازات ومكاسب لكن بعيدًا عن الملفات الكبرى والاستراتيجية خصوصًا ذات الطبيعة المتفجرة.
على الرغم من احتواء وثيقة الخطوط العريضة للحكومة على جملة مرتبطة بالموضوع الإيراني تنص على أن "الحكومة ستعمل على مواصلة الكفاح ضد برنامج إيران النووي"، وهو ما كرره نتنياهو في خطابه أمام الكنيست بقوله إن المهمة الأولى لحكومته إحباطُ جهود إيران في امتلاك أسلحة نووية تهدد "وجودهم". إلا أنها كلها جُمل وصيغ فضفاضة وغير ملزمة لطبيعة السياسة تجاه إيران وملفها النووي.
فيما لم يَذكر "نتنياهو" في كلمته ولا في وثيقة الخطوط العريضة أي صيغ للتعامل مع التهديدات الأمنية في الشمال، ولا وفاءً لوعده بإلغاء الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، ولم يضع محدداتٍ جديدةً للسياسة تجاه "حزب الله" ولا سوريا، ولا التوسع المستمر لـ"محور المقاومة" في المنطقة.
الأمر ذاته في السياسة تجاه قطاع غزة، لا يوجد رسم مُلزِم للملامح في التعاطي مع القطاع ولا تحديد لسياسة جديدة مختلفة عن سياسات حكومات "نتنياهو" السابقة ولا حكومة "بيت-بيد" التي انتهت ولايتها.
السلطة الفلسطينية الطرف الأضعف
كخلاصة، لا يمكن إنكار أن التوجهات الاستراتيجية لليمين الصهيوني إجمالًا يمثِّل التوسعُ في الاستيطان واستكمالُ ابتلاع الأراضي الفلسطينية جزءًا رئيسيًّا منها، لكن في قراءة التكتيك والشكل، فإن نتنياهو في اتفاقيات ائتلافه الحكومي فضَّل تقديم الضفة الغربية على طبق من ذهب لحلفائه لإرضاء طموحهم وتحقيق شعاراتهم في فرض السيادة وقضم الأرض الفلسطينية، وإنهاء السيطرة الفلسطينية ولو الجزئية عليها.
اختار "نتنياهو" أن تكون "الضفة الغربية" كبش الفداء لإنجاح اتفاقاته، وأبعد حلفاءه عن كل الملفات الكبرى التي قد تتفجر في وجهه ووجه حكومته قبل إنجاز أهدافه، المتمثلة في تمرير القوانين التي تؤمِّن له الحماية من الملاحقة القانونية وتضمن استمراره في موقعه في رئاسة الوزراء، وهو ما يؤكده تمسُّك "نتنياهو" المطلق بأن تكون وزارة الجيش تحت مسؤولية حزبه "الليكود" واختار وزيرًا من حاشيته يتماثل مع مواقفه وتوجهاته ليضمن أن يبقى قرار السلم والحرب حكرًا عليه وعلى مطبخه المُصغر، الذي لن يكون "الكابينت" بشكله الحالي.
قناعة "نتنياهو" أن السلطة الفلسطينية لا حول لها ولا قوة، وأن استمرارها في عملها ووجودها مرهون بالرغبة والموافقة "الإسرائيلية"، وأن السلطة لا تمتلك فعليًّا أي أوراق قوة حقيقية يمكن أن تجعلها تمارس ضغطها أو حتى أي نوع من أنواع المقاومة لمواجهة استكمال الإجهاز عليها على الأرض، يجعل منها الهدف الأسهل والأقل تكلفة لإرضاء حلفائه.
ما بعد أبو مازن.. الانتقال السلس أو الانفجار
تَعِي المؤسسات الأمنية في دولة الاحتلال أن استمرار الوضع الحالي في الضفة الغربية مقترنٌ باستقرار السلطة بشكلها وقيادتها الحالية، وفي المقدمة منها وجود "أبو مازن" على رأسها، لتمسُّكه المطلق برفض المقاومة المسلحة واتخاذ أي خطوات قد تُعَدُّ "متطرفة" في مواجهة الصلف والعدوان الصهيوني.
إلا أن هذا الوضع سرعان ما سيتلاشى، وقد ينتج عنه انفجار لا يستطيع أحد تقدير حدوده أو ارتداداته، في حال لم تضمن "إسرائيل" والولايات المتحدة الانتقال السلس لقيادة السلطة إلى شخصية مقبولة وفق معاييرهم، وإنَّ استعار معركة الخلافة بين أقطاب حركة "فتح"، مترافقًا مع تصاعُد الفعل المقاوم في الضفة الغربية، يَحمل في طياته مؤشرات الانفجار والتصعيد ويقلِّل من احتمالات إتمام الطموح "الإسرائيلي" في الحفاظ على السقف الحالي للسلطة أو تحصيل سقف أكثر تنازلًا منه.