بتاريخ ٢٣/١٠/٢٠٢٠، تم الإعلان عن تطبيع العلاقات ما بين السودان والكيان الصهيوني، وفي مثل هذا اليوم الموافق السادس من كانون الثاني عام ٢٠٢١، تم انضمام السودان إلى قافلة الدول العربية المطبعة مع الكيان الصهيوني، وبذلك أصبحت الدولة العربية الخامسة التي تقدم على ذلك بعد مصر والأردن والإمارات العربية والبحرين وبعد القيادة الفلسطينية المتنفذة التي عقدت اتفاقيات أوسلو.
ولم يكن هذا الانضمام مفاجئاً وإنما جاء تتويجًا لعلاقات سرية أقامها النظام مع دولة الكيان ومنذ خمسينيات القرن الماضي، وبالتالي تحولت السودان من موقع داعم للقضية الفلسطينية وتدريب المقاتلين ومدهم بالسلاح وتسهيل إيصاله إلى غزة عبر العريش، إلى دولة معادية للمقاومة متحالفة مع الكيان الصهيوني وشريك في نظام إقليمي جديد يقوم على قاعدة حماية هذا الكيان وأمنه.
إن زيارة وزير الخارجية الصهيوني إلى الخرطوم واجتماعه مع البرهان، ليس الاتصال الأول بينهما وإنما جاءت الزيارة في سياق الاتصالات المتعاقبة منذ زمن طويل كما أشرت.
وتجدر الإشارة أن أولى الاتصالات قد تمت منذ عام 1954، حيث سافر عبد الرحمن المهدي رئيس حزب الأمة ومعه محمد عمر رئيس صحيفة النيل الناطقة باسم الحزب إلى لندن، وتم اللقاء مع وزير الدولة بوزارة الخارجية Selwyn Lioyd وعرضا معه مطالب حزب الأمة. وبعد اللقاء معه، تم اللقاء مع موردخاي غازيت السكرتير الأول في السفارة الصهيونية وبحثا معه إمكانية تمويل الكيان الصهيوني، لحزب الأمة لمواجهة الدور المصري، مقابل فتح قنوات تجارية مع دولة العدو لكسر الطوق العربي من حولها، وفي شهر أيلول عام 1955، جرت مباحثات في اسطنبول بين جوش بالمون (مستشار الشؤون العربية في مجلس الوزراء "الصهيوني")، مع بعض قادة حزب الأمة، تم خلالها عرض تطوير العلاقات مع دولة العدو، مقابل دعمهم في محاربة النفوذ المصري، كما زار مسؤول سوداني رفيع المستوى الكيان الصهيوني، لم يعلن عن اسمه آنذاك، في عام 1956، من أجل بحث ومناقشة تقديم المساعدات لحزب الأمة.
وفي شهر آب من عام 1957، تم عقد لقاء بين رئيس الوزراء السوداني من حزب الأمة عبدالله خليل في فندق بلازا في باريس مع غولدا مائير وزيرة الخارجية الصهيونية آنذاك، وفي أعقاب هذا اللقاء طلب بن غوريون رئيس وزراء دولة الكيان من الرئيس الأمريكي ايزنهاور، تقديم المساعدات المالية والاقتصادية والسياسية للسودان.
حصل هذا قبل أن يصدر قرارًا عن البرلمان السوداني في شهر تموز من عام 1958، ترسيم قانون ينص على مقاطعة الكيان الصهيوني، ورغم وجود هذا القانون، إلا أنه لم يمنع اجراء عدد من الاتصالات بعد صدوره، ومن أهم تلك الاتصالات تلك التي تم بموجبها الاتفاق مع حكومة النميري، ترتيب نقل يهود الفلاشا إلى دولة الكيان الصهيوني، وقد تم الاتفاق في حينه بين وزير "الدفاع" الصهيوني شارون، مع عمر الطيب رئيس جهاز الأمن السوداني، وتم الاتفاق بواسطة الخاشقجي، واستمرت الاتصالات في فترة حكم البشير. وقد كشف المسؤول الصهيوني أيوب قرا، أنه كان على اتصال دائم مع المسؤولين في السودان منذ عام 2015، وفي يناير عام 2016، أكد وزير خارجية السودان آنذاك إبراهيم غندور الاستعداد الكامل للتطبيع العلاقات، مقابل رفع العقوبات وشطب اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب.
في شهر شباط 2020 التقى البرهان، الذي خلف البشير، مع نتنياهو في أوغندا واتفقا على التطبيع. صحيح أن العلاقات شهدت مستويات مختلفة، انحدارًا وصعودًا، منذ زمن طويل، لكنها باتت تتسارع في عهد البرهان وحكومته.
ومن المفيد التذكير، أن السودان كانت من الدول العربية التي لم تقطع علاقاتها مع مصر بعد كامب ديفيد، أما ما يخص مؤتمر القمة الذي عقد في الخرطوم في أعقاب هزيمة حزيران عام 1967 واللاءات الثلاثة التي صدرت عنه، فقد جاءت بفعل موقف الزعيم الخالد جمال عبدالناصر الذي رفض الهزيمة ولو عقدت القمة في أي دولة عربية أخرى لما صدر عنها ما يخالف ذلك، وجميع من عاش تلك المرحلة يدرك هذا الأمر. أما الزيارة التي قام بها مؤخرًا بتاريخ 2/2/2023، وزير خارجية دولة العدو، فتأتي في إطار تطوير العلاقات ودفعها الى الأمام بعد الموافقة على التطبيع وبعد أن تم إلغاء قانون المقاطعة لدولة العدو الصهيوني الذي أشرت له سابقًا، حيث تم إلغاء القانون بتاريخ 6/4/2022.
بعد هذا الاستعراض التاريخي لطبيعة العلاقات التي قامت بين السودان وكيان العدو، لا بد من التوقف أمام مجموعة من العناوين:
العنوان الأول: ماذا أراد الكيان من عملية التطبيع؟
- أراد أن يقوم بتوسيع دائرة الدول العربية المطبعة معه، وتأكيد أن هناك العديد من الدول التي ستلحق بذلك، ولا ننسى هنا أن السودان تشكل بوابة مهمة للتطبيع مع الدول الإفريقية.
- فتح المجال الجوي السوداني للطائرات "الصهيونية في رحلاتها إلى إفريقيا والدول البعيدة، مما يساهم في تخفيض عدد ساعات الطيران ويخفض التكلفة.
- تحقيق الجانب الأمني لدولة العدو الصهيوني، كونها تبحث دومًا عن ذلك، خاصة في منطقة البحر الأحمر واستعداد السودان لتأمين هذا الأمر، نظرًا لأهمية موقعها الجغرافي وامكانية استخدامه.
- استخدام السودان كسوق لتصدير منتجاته وتعتبر السودان سوق واسعة وتكتسب أهمية في هذا المجال.
- محاصرة إيران ومنع إقامة أية علاقات ايجابية معها.
- وأخيرًا تحقيق انتصار رمزي، كون السودان هي بلد اللاءات الثلاثة لا للصلح، لا للاعتراف، لا للمفاوضات.
ومن المعروف أن وزير خارجية دولة العدو بعد زيارته المفاجئة إلى الخرطوم والمحادثات الي أجراها هناك، قال: لقد عدت من الخرطوم بنعم للصلح، نعم للاعتراف ونعم للمفاوضات، ويعد هذا انجازًا كبيرًا في تحطيم الحواجز السياسية والنفسية، التي بنيت على هذا الأساس.
ونستطيع القول: أن دولة العدو استطاعت أن تحقق أغلبية أهدافها من هذه العملية إن لم يكن جميعها.
ثانيًا: ماذا أرادت السودان من عملية التطبيع، كما يدعي (الخونة) ممن هم في الحكم؟
- استخدام هذه العلاقة والاتفاق من أجل رفع اسم دولة السودان عن قائمة داعمي الإرهاب.
- تشكيل جسر لتطبيع علاقة السودان مع الولايات المتحدة ودول أوروبا.
- تسهيل الطريق أمام السودان للحصول على الأموال والقروض، من أجل إخراجها من أزمتها الاقتصادية.
- المساعدة في تثبيت حكومة البرهان ودعم العسكر في السلطة.
وهنا السؤال: ماذا حقق السودان من خطوته الطبيعية؟
الجواب: إنه لم يحقق سوى الوعود والمزيد من الابتزاز له كي يتموضع في إطار الحلف الصهيوني الأمريكي، وعلى العكس من ذلك ازداد الانقسام في صفوف الشعب السوداني واحتدمت الصراعات، وما زال السودان، يعيش تحت طائلة الجوع والفقر وتبخرت كل الوعود التي قطعت له، كما تبخرت الوعود لمن سبقه على هذا الطريق... وكلنا يعرف كيف تبخرت صفقة الـF16 التي وُعِدت بها الإمارات، وكيف تبخر الوعد للمغرب بالاعتراف بأحقيته بالصحراء الغربية والوعد لـلفلسطينيين إقامة دولة فلسطينية والتراجع عن كل ذلك. بالتالي، لن تتحقق وعودهم للسودان في تأمين الاستقرار والرفاهية للشعب السوداني الذي يبتعد في كل يوم عن هذا الهدف وتتعمق أزماته.
لا شك أن هذا يؤكد بوضوح شديد أن الغرض من هذه الاتفاقيات، ليس تحقيق مصالح الشعب السوداني، وإنما مصالح الكيان بالدرجة الأولى. بعد ذلك لا بد من استعراض سريع لمواقف القوى السياسية في السودان، من عملية التطبيع، إذ ينقسم الشارع إلى ثلاث اتجاهات:
الأول: يرفض عملية التطبيع، من حيث المبدأ ويؤكد دعمه للشعب الفلسطيني ورفضه للاحتلال "الإسرائيلي". وهنا لا بد من التذكير بالدور الذي قام وما يزال يقوم به الشعب السوداني، دفاعًا عن فلسطين في مراحل مختلفة، ومنها المشاركة في حربيّ 1967 و 1973 وتسهيل وصول السلاح إلى قطاع غزة. وهذا التيار يمثله الحزب الشيوعي السوداني والنقابات والأحزاب القومية العربية كونهم يعتبرون ذلك خروجا عن الثوابت.
الثاني: يؤيد التطبيع من حيث المبدأ ويرفض الاتصالات السرية ويدعو لعلنيتها.
الثالث: تيار يؤيد التطبيع وفق رؤية سياسية وأخرى مصلحية سياسية (كما يدعون أو يبررون)، تريد الخروج عن هيمنة القرار العربي، تحت شعار استقلالية القرار والسودان أولًا.
والمصلحية تريد الاستفادة من الدعم الاقتصادي الغربي، ظنًا منهم أن هذا الطريق إلى ذلك.
في الختام، يؤسفني جدًا أن أقول: أنني سمعت قبل يومين بعض المحللين السياسيين السودانيين على شاشات التلفزيون وهم يقولون نحن لسنا عربًا، نحن أفارقة وأكبر خطأ تم ارتكابه هو الانضمام إلى جامعة الدول العربية وأن قضيتنا هي السودان وليس فلسطين ولن نكسب شيء من دعم الفلسطينيين، سوى الحصار والعقوبات، مقابل مكاسب نحققها من الاعتراف ب "إسرائيل".
لكنني أقول: أن هؤلاء وأمثالهم لا يمثلون الشعب السوداني وهم قلة قليلة، أما الشعب السوداني، شعب محجوب وهاشم العطا ورفاقهم، سوف يستمرون في دعم الشعب الفلسطيني وقضيته ولن يتوقف ذلك، رغم كل الظروف والصعوبات التي تمر بها السودان.
تحية للشعب السوداني العظيم والنصر حليف ثورته المختطفة، من قبل البرهان وعصابته الخائنة.