Menu

الكيانُ الصهيونيّ والعودةُ من الكنيستِ والجيشِ إلى الكنيس والعصابةِ

سعاده مصطفى أرشيد

نشر هذا المقال في العدد 46 من مجلة الهدف الإلكترونية

أثارَ تشكيلُ بنيامين نتنياهو لحكومته السادسة كثيرًا من اللغط السياسي والإعلامي، وهذا اللغطُ، وإن كان بمكانه؛ من ناحيةِ كونها الحكومة الأكثر تطرّفًا في تاريخ دولتهم القصير، ولعلّها الأكثر صراحةً وصفاقةً ووقاحةً بشكلٍ مكشوفٍ لإعلانها دمويّتها وعنصريّتها، ولكن يخطئ من يقول إن وجودهم في أرضنا وسعيهم لامتلاكها كان قد اتّبع سياساتٍ أكثرَ ليونةً أو إنسانيّة، وحكوماتهم جميعها على ذات نهج التطرّف والإجرام منذ حكومتهم الأولى برئاسة بن غوريون ومذابح دير ياسين وغيرها من عمليّات التطهير العرقي، مرورًا بحكومات حزب العمل – الشريك في عملية السلام، حكومة تكسير العظام برئاسة رابين وحكومة مذبحة قانا برئاسة بيرس، إذا لا شيء تغير في النهج، وإنّما في الشكل مع الحكومة الحالية، في هذا المقال أحاولُ أن أقدّم مقاربةً لما تغيّر حقًّا في طبيعة الكيان الغاصب، ولما يمكنُ ملاحظته من زيف ونفاق الحكومات السابقة، التي شارك بعض منا في تسويقه.

كانت عمليّةُ البحث عن مأوى ليهود روسيا وشرق أوروبا تشغل بال رأس المال الأوروبي مع مطلع القرن التاسع عشر، فقد قادت المذابح وسياسات الاضطهاد في روسيا إلى إحداثِ هجراتٍ جماعيّةٍ كبيرةٍ لليهود من روسيا القيصريّة إلى غرب أوروبا، فأحدثتْ أزمةً شبيهةً بأزمة مهاجرينا إلى أوروبا من أوطاننا التي ضربها الربيع العربي الزائف، الذي سمّي تعسّفًا بالربيع العربي، التي يبحثُ الأوروبي لها اليوم عن حلولٍ لما تسبّبت به من إرهاقات اقتصاداته ومجتمعاته. في هذه الأجواء انطلقت الحركاتُ اليهوديّةُ الأولى في مرحلة ما قبل صهيونيّة مؤتمر بازل 1897 متّخذةً هُويّةً دينيّةً توراتيّة، هذه الحركاتُ وإن تعدّدت أسماؤها ومناطقها إلا أنّنا نستطيعُ إجمالها تحت عنوان حركات الإحياء اليهودي، اعتمدت تلك الحركات على روح الكنيس عقائديًّا، وعلى أموال أثرياء اليهود في غرب أوروبا الذين أزعجهم هذا الفائض السكاني المكوّن من متسولين ورعاع وذو أشكال شبحيّة مقرفة بثيابهم السوداء القذرة، ترى أنّ الأثرياء بدايةً يجبُ دفعُهم إلى الهجرة إلى الولايات المتّحدة ولاحقًا إلى شرق المتوسّط وتحديدًا إلى فلسطين، بعد أن استعادت المنطقة أهمّيتها الاستراتيجيّة إثرَ حملة نابليون على مصر 1798.

تصدّى للمهمة السيد موسى مونت فيوري الثري الإنجليزي ذو الأصل السفاردي ونسيب آل روتشيلد، فقام بزياراتٍ عدّة لفلسطين لبحث آفاق توطين فائض اليهود بها، وأجرى اتصالاته مع الدولة العثمانية مقدّمًا لها العروض المغرية ولموظفيها الصغار في فلسطين الرشاوى السخيّة، أسس لهذه الغاية الشركات والصناديق المالية لغاية شراء الأراضي، وقام بشراء قطعةِ أرضٍ مجاورةٍ لسور القدس من الناحية الغربيّة وأقام بها كنيس ومدرسة دينيّة وحي سكني وطاحونة حبوب هوائيّة ما زال يراها المارة غرب باب الخليل، ثمَّ قام بشراء أراضي ملبس قرب يافا، التي أصبحت مستوطنة بتاح تكفا، ثم عتليت في مرج بن عامر وأراضي أخرى، وفي مركز كلّ مستوطنةٍ كنيس ومدرسة دينيّة.

اعتمدت حركاتُ الإحياء اليهوديّ على نظرية الحق التوراتي لليهود في فلسطين ومعها المسيحيّة التطهيرية (البيوريتانية) التي اعتقدت أن عودة اليهود إلى فلسطين ضروريّةٌ مقدّمةً لظهور المسيح المخلّص، فتمَّ إنشاءُ صندوق إعادة اكتشاف فلسطين في إنجلترا، وانضمَّ لمشاريع الصندوق شبان في معظمهم من المثقفين والمغامرين والجواسيس، فدرسوا أوضاع فلسطين الاقتصادية والاجتماعية ورسموا الخرائط بناءً على المعطيات التوراتيّة، هذا فيما كانت القنصلية الإنجليزية بالقدس ترعى اليهود من أصل أشكنازي - روسي، وكأنّهم من رعاياها كما يذكر القنصل البريطاني في حينه جمس فن في كتابه (أزمنة مثيرة).

بدأت المرحلةُ الثانيةُ من العمل اليهودي مع هرتزل والمؤتمر الصهيوني في بازل 1897، حيث اتّخذ قاعدةً نظريّةً جديدةً إذ ناقش وضع اليهود باعتبارهم شعبًا وليس انتماءً دينيًّا، لا يريد الذوبان في المجتمعات التي يعيش بها وهم في حاجةٍ لأرضٍ لإقامة وطنٍ ودولةٍ خاصّةٍ بهم، دولةٍ يهوديّة، فكانت اقتراحاتٌ عديدةٌ لمكان الدولة منها فلسطين والأرجنتين وأوغندا وقبرص، وذلك وفق ما يمكن الحصول عليه من الدول الكبرى، ولكن فلسطين بقيت الأكثر جذبًا لليهود من جانب، وقرب انهيار الدولة العثمانية من جانب، وحاجة الإنجليز الاستراتيجية لفلسطين، تم إسقاط الخيارات الأخرى، وإثر المؤتمر أخذت هجراتٌ يهوديّةٌ ذات اتجاهاتٍ حداثيّةٍ علمانيّةٍ تفدُ إلى فلسطين، ضمت مثقفين واشتراكيين وليبراليين وشيوعيين، كلٌّ منهم يطمحُ بالدولة وفق عقيدته ويهوديته على حدٍّ سواء، أسّس هؤلاء النقابات العمالية والأحزاب ومنها الاشتراكية التي تعايشت جنبًا إلى جنبٍ مع عقيدة الكنيس والوعد التوراتي، ولكن الجميع انضوى في المؤسسة الصهيونية والمستوطنة الزراعية، التي عليها أن تكون الدولة المصغرة باقتصادها وآليات الدفاع عنها بتنظيم حراساتها التي تطوّرت لاحقًا، لتصبح قوّات الدفاع (هاجانا) ثمّ جيش الدفاع (الإسرائيلي) بعد إقامة الدولة.

كانت هذه المليشياتُ منفلتةً في تعاملها مع أهل فلسطين، لا بل وأقرب إلى عصابات اللصوص وقطاع الطرق والجريمة المنظمة، تسلّحت وتدرّبت ذاتيًّا في البداية، ثمّ مع انخراط شبانها بالفيلق اليهودي الذي تأسّس عام 1917 للمشاركة في الحرب إلى جانب الحلفاء ثم في الحرب العالمية الثانية، فيما أدبيّات الحركة الصهيونيّة ركّزت على خلق عقيدةٍ قتاليّةٍ عدوانيّةٍ معتمدةٍ على أساطيرَ توراتيّةٍ مثل مساداه وباركوخبا، وما ورد في التوراة من روايات الإجرام الذي يتقمص أدوار البطولة.

شدّد قادة الحركة الصهيونيّة على مشروعية استخدام العنف المفرط تجاهَ الفلسطينيين بالقتل والمجازر الجماعيّة والتمثيل بالجثث؛ بهدف إفراغ البلاد من أصحابها وأن ذلك شرطٌ لا بدَّ منه من شروط إقامة الدولة، ولبناء منظومة ردعٍ قائمةٍ على الرعب في نهايات 1947، تم التصويت في الجمعية العمومية لصالح تقسيم فلسطين، وأعلنت بريطانيا فورًا انتهاء انتدابها، وجاءت ساعة الفعل الحقيقي والاختبار الجدي الذي أثبت فيه العرب عمومًا فشلهم، وأثبتت الحركة الصهيونية جاهزيتها لمثل ذلك اليوم، تسليحًا وتدريبًا وتنظيمًا بخرائطها الدقيقة وخططها الجاهزة، وباشرت عمليات التطهير العرقي.

في 15 أيار 1948 أعلنت إسرائيل الدولة، وتشكلت حكومةٌ مؤقّتةٌ لحين إجراء انتخاباتٍ برئاسة دافيد بن غوريون الذي أعلن فور تشكيل الحكومة عن خطّةٍ نظاميّة، لتحويل المشروعيّة السياسيّة من الكنيس وما يراه الحاخامات حلالًا أو حرامًا إلى مجلسٍ تشريعيٍّ (الكنيست)، و عن حلّ كافة المليشيات وتحويلها إلى جيشٍ نظاميٍّ وأجهزة أمنٍ تتبع القيادة السياسية (الحكومة)، وكادت أن تخوض حربًا أهليّةً مع بعض المليشيات التي رفضت الانضواء تحت مظلّة الجيش النظامي في البداية، ومنها جماعات أراغون وشتيرن، لدرجة أن بن غوريون أصدر أمرًا إلى رئيس أركان الجيش في حينه، إيغال يادين بإغراق باخرةِ أسلحةٍ ضخمةٍ كانت مستوردةً لصالح عصابة الأراغون، مما دعا مناحم بيغن زعيمها لإدراك جدية الحكومة، فقام بحلّ عصابته وحوّلها إلى حزبٍ سياسيٍّ باسم حيروت، هكذا انتقلت (إسرائيل) من عهد الكنيس والتوراة إلى عهد الكنيست والتشريعات العصريّة، ومن عهد العصابات والمليشيات إلى عهد الجيش النظامي وأجهزة الأمن التي تعمل بإشراف الحكومة.

عودٌ على بدء، ما الجديدُ في حكومة نتنياهو السادسة؟ وبماذا تختلف عن سابقاتها؟ وما الجديد الذي يقدّمه وزرائها من أمثال ايتامار بن غفير وسموترتش؟

إنّهم ينقلبون على سبعة عقود ونيف من عمر دولتهم القصير، إنّهم يريدون العودة بالدولة إلى مرحلة ما قبل الدولة، فالأساسُ في عقليّتهم ليست التشريعات الصادرة من الكنيست، وإنّما التعاليم التوراتيّة والتلموديّة وتراه حلالًا أو حرامًا، وهي المحرّكُ الأوّلُ ومصدرُ شرعيّةِ السلوك السياسيّ والعملانيّ تجاهَ المسجد الأقصى والقدس والضفة الغربيّة ومن الفلسطينيين، يعلن بن غفير عن نيته إنشاء جيشٍ جديدٍ خاص بالضفة الغربية، جنوده من غلاة المستوطنين ومن عصاباتٍ استيطانيّةٍ تحملُ أسماءَ مختلفةً كفتيان التلال مثلًا، مليشيات وعصابات تتخصّص بإطلاق النار على الأطفال والمزارعين والرعاة، تسرقُ أغنامهم تقلع زيتونهم تحرق حقولهم، وثمة أخبار من صحافتهم تشير إلى أنه سيعرض على سجناء يقضون عقوبتهم في السجون لأسبابٍ جنائيّة، أن بإمكانهم استبدال فترة سجنهم بالعمل في جيش الضفة هذا أو مليشيات بن غفير.

لا شيءَ تغيّر في النهج الإجرامي العدواني، ولكن المتغيّر هو العودة إلى مرحلة ما قبل الدولة.