Menu

جورج حبش.. المفكّرُ المشتبك

د. كمال ساكري

نشر في العدد (47) من مجلة الهدف الرقمية

كيف يمكنُ أن نعرف جورج حبش بعد رحيله منذ 15 سنة خلت؟ وما معنى هذا الإحياء لذكراه إن لم يكن في مقام الرجل وقيم مسيرته الماضية وما ترشح به من أفكارٍ وأبعادٍ ورموزٍ تضيء لنا المستقبل حتى يكون فكره بحقٍّ "أداةَ وعيٍّ وتحليلٍ ومواجهةٍ للتحدّيات السياسية الراهنة"؟

في المثّقف المشتبك:

     يحاولُ المفكّرُ والمثقّفُ المناضلُ الفلسطيني عادل سمارة تحديد الفروق بين مراتب المثقفين والمفكرين لتجلية مميّزات المثّقف المشتبك يقول: "المثّقف العضويّ الثوريّ المشتبك مبادرٌ دائمًا حيث يفتح أمام الطبقة فضاء الاشتباك، وليس مرهونًا بمواقف القيادة السياسية كما هو مثقّف م.ت.ف لا يشيخ ولا يتقاعد ولا يتمرحل، هو في عالم الطبقات والاستعمار والعولمة مشتبكٌ دومًا؛ لأنّ مهام الاشتباك أوسع منه وأكبر، والمثقّف المشتبك ليس نقديًّا وحسب. لا يكتفي بهذا. فالمثقّف النقدي هو كالثوري. قد ينحصر بل غالبًا ما يحصر نفسه في نطاق حلبة صراع الأفكار، وهذا ليس قليلًا، لكنّه لا يلقي نفسه في نطاق حلبة صراع الأفكار ويترك هذه الأفكار لتحمى بالحماية الشعبية من قبل الناس... من هنا فالاشتباكُ شرطُ المثقّف العضوي، هو إذًا المثقف العضوي /الثوري المشتبك...

فإن هذا التشخيص للمثقف من جانبي يتجاوز مثقف غرامشي العضوي؛ لأنه بالاشتباك يظل حارس بوابة الحياة بما فيها أفكاره هو، فالمثقف العضوي حتى للطبقة العاملة له الخيار، بمعنى أن لا شرط عليه أن يشتبك. ومن هنا كان لمثقفي الماركسية الثقافويين أن ينتهوا خارج نطاق الحياة، أي خارج نطاق المادية التاريخية والاقتصاد السياسي لينتهوا نقديين في حلبة مصارعة الفكرة بالفكرة والكلمة بأختها...".. وقد عاد عادل سمارة ليدقق هذا المفهوم "المثقف المشتبك" والمفاهيم المجاورة "الثوري والعضوي والنقدي..." في آخر إصداراته "في نحت المصطلح وتحرير المعنى الصادر عن نفس الدار سنة 2022، ولمزيد التوضيح يتميز المثقف المشتبك ب"أنه لا يقبل الحياد... هذا المثقف يأخذ دوره في الصف وينفق عمره مشتبكا، لذا لا يعرف في عمره الردة ولا التخاذل ولا التقاعد، وفي النهاية لهذا المثقف دور دائم في النقد والتصدي، دوره دائمٌ؛ لأنّه مثقّفٌ تاريخي، دوره ليس يوميًّا ولا لحظيًّا، هو حالة تأسيس، حالة تناضل لتصحيح مسار التاريخ الذي اختطفته الملكية الخاصة والطبقات المستغلة...

فكيف يرتقي جورج حبش إلى مصاف المثقف والمفكر المشتبك؟

يمكن مقاربة مسيرة الحكيم من خلال المستوى النظري الفكري ومن خلال المستوى العملي الميداني

أوّلًا: جورج حبش أداة وعي وتحليل للثورة الفلسطينية والعربية والعالمية

يقدم الأستاذ عقيل الشيخ حسين جورج حبش في مذكراته (حوار الصحفي الفرنسي جورج مالبرينو مع حبش) بأنه: "من بين المئات من زملائه ورفقائه في مراكز القيادة في دنيا العرب ومن بين عشرات الآلاف من مناضلي شعبه على مدى قرن من الزمان معلم بارز ومنارة متميزة، بل هو ظاهرةٌ فريدةٌ أضاءت مرحلةً طويلةً من تاريخنا القومي والنضالي بشكلٍ خاصٍّ المعاصر وبنت حولها هيكلًا شامخًا...".

1- تأسيس حركة القوميين العرب:

فعلًا تميّز جورج حبش بوعيٍّ ثوريٍّ وفكرٍ نضاليٍّ يربطُ فيه الفكرة بالتطبيق، فما إن حصلت نكبة 1948 وبدا تشريد الفلسطينيين وقلعهم من جذورهم حتى سارع إلى تأسيس "حركة القوميين العرب" 1951-1952 إطارًا تنظيميًّا ولو بدائيًّا يجمع الفلسطينيين، ويوفّر لهم أرضية التفكير والتخطيط والنضال: "لم يكن بإمكاني أن أفهم كيف أنّهم يقدمون على تقسيم بلدي بهذا الشكل... لقد تغيّرت حياتي منذ تلك اللحظة وأمْلَتْ عليَّ الضرورةُ أن أناضل ضد هذا الظلم الذي لحق شعبنا...".

ولكن جورج حبش كان لا يزال يافعًا وطالبًا للطب في بيروت (22 سنة) وكان حبش ورفاقه في حاجةٍ إلى مفكّرٍ ومثقّفٍ يشرح لهم خلفيات العدوان ومداه وكيفية التصدي له.

التقاء جورج حبش مع المؤرخ والمفكر السوري قسطنطين زريق

يقول حبش: "كنت اعتبارًا من عام 1948 ناشطًا داخل منظّمةٍ ثقافيّة... "العروة الوثقى" التي أصبحت رئيسًا لها ما بين 1949 و1951. كما كان الأستاذ قسطنطين زريق مستشار العروة الوثقى وبمثابة الأب الروحي للشباب القومي العربي...".

* مبادئ حركة القوميين العرب

* مركزية الوحدة العربية

ارتكز هذا التنظيم على مبدأ أساسي استخلاصًا من دروس النكبة سنة 1948: "كان المبدأ الأساسي للتنظيم مرتكزًا على الوحدة العربية شرطًا لا بدَّ منه من أجل التوصّل إلى حلٍّ للمشكلة الفلسطينية، وشعارنا وحدة تحرير ثار...". ثم في مراجعةٍ للشعار تم تغيير ثأر بـ "استرجاع فلسطين" سنة 1960.

ولمزيد الاقتراب من الجماهير الفلسطينية المنكوبة قصد تسيسها أقامت الحركة مدارس لمحو الأمية وتوفير حدٍّ أدنى من العناية الصحيّة، ثم استغلال الاتصال بتلك الجماهير حول سبل مقاومة النكبة. ثم أصدرّ حبش مجلة "الرأي" في الأردن عام 1952. وكانت تطرح فيها القضايا الفلسطينية والعربية والتركيز على الديموقراطية الشعبية الاشتراكية.

وبعد هزيمة 1967 انحلت حركة القوميين العرب، ودعا حبش إلى بناء جبهةٍ شعبيةٍ فلسطينيةٍ مقاومةٍ للصهاينة وحلفائها. وتدعم توجهه باطلاعه سنة 1968 على الأدبيات الماركسية ال لينين ية. يقول حبش: "أسهمت هذه القراءات في تكوين توجهاتي إن على المستوى النظري أو على صعيد الممارسة السياسية". وكان بناء الكوادر يقوم على المطالعة والتثقيف الممنهج داخل خلايا الجبهة. وثم إنشاء مدرسة الكادر سنة 1969.

هكذا تبني الجبهة الشعبية أيديولوجيتها الفكرية والسياسية تدريجيًّا مع تطور التاريخ بدايةً من تنظيرات مفكرين قوميين كساطع الحصري وميشيل عفلق وخاصة قسطنطين زريق باعتماد منهج "التجربة والخطأ" في غياب نظريةٍ قوميةٍ عربيةٍ إلى غاية اكتشاف جورج حبش الماركسية اللينينية التي تبناها حبش وتبنتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "لأن اقتناعي بصحتها نهجًا في تحليل التاريخ كانت قد تعززت بمضي الزمن وقد أقر المؤتمر الثاني (1969) اعتماد النظرية الماركسية بإجماع شبه كلي...". وعلى أساس مقولات الصراع الطبقي والصراع والوحدة والرئيسي والثانوي... تسلح جورج حبش بنظرية ماركسية متفاعلة مع الواقع الفلسطيني والعربي والعالمي واستطاع أن يخوض الصراع الداخلي مع بعض الشقوق ومع بعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ومع الأنظمة العربية والوضع الدولي مصنفا القوى إلى رجعيةٍ وتقدميةٍ ووطنيةٍ  كحماس وحزب الله ووطنية ثورية وأنظمة عربية وطنية غير ديموقراطية وأنظمة عربية رجعية ودول عظمى حليفة كالاتحاد السوفييتي والصين ودول صديقة ككوبا وإيران الإسلامية وكوريا الشمالية وقوى عظمى عدوة كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطاني وفرنسا... وطبيعة المعركة الفلسطينية حرب تحرير شعبية طويلة الأمد قاسية ومريرة من أجل دولة فلسطينية ديموقراطية علمانية على كامل التراب الفلسطيني وبناء دولة الوحدة العربية التي تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل بلد عربي...

ثانيًا: جورج حبش مناضلًا مشتبكًا:

منذ الوهلة الأولى كان حبش يرفض التسليم بالأمر الواقع ويبحث عن التصدي للتهجير الفلسطيني، وكان شعار حركة القوميين العرب "أن نترجم أقوالنا إلى أفعال".

ومنذ المؤتمر الأول لهذه الحركة (1956) كانت أهم القرارات مواصلة الكفاح المسلح وتطبيق حق العودة... فكانت المظاهرات والتحركات الشعبية في الأردن لا تكاد تتوقف يحركها جورج حبش وحركته في مواجهة للتهجير الفلسطيني إلى الأردن ومناصرة لحركات التحرر العربي ولا سيما في الجزائر.

بعد هزيمة 1967 تعالت الأصوات ببناء جبهة شعبية، فتم تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقدم حبش رؤيته للثورة الفلسطينية والتي ترتكز على أولوية المواجهة العسكرية للعدو، وبدأ حبش يشرف على بعض العمليات الفدائية على الحدود مع الكيان الصهيوني.

ثم تعرض حبش إلى السجن ب سوريا 1968 بسبب اتهامه بالمشاركة في محاولة انقلابية على الحكم، في حين أن السبب الحقيقي حسب حبش: "كان تصميمي على مواصلة النضال ضد إسرائيل على جميع الجبهات بما فيها هضبة الجولان...".

وفي المؤتمر الثاني للجبهة الشعبية وبعد تقييم جدوى العمليات الفدائية تبين فشلها لسيطرة النظام الأردني على الحدود وإفشاله عمليات التسلل إلى فلسطين المحتلة تم الاتفاق على خطف الطائرات وعلى ضرورة توجيه ضربات مؤلمة إلى المصالح الإسرائيلية وللإمبريالية... وكان هدفنا هو التعريف بالقضية الفلسطينية على الصعيد الدولي...". ثم قررت الجبهة الشعبية إيقاف تكتيك اختطاف الطائرات في المؤتمر الثالث سنة 1972 وإن لم يلتزم وديع حداد وخير الانشقاق... وتواصل اشتباك جورج حبش وتنظيمه الجديد مع الأعداء فخاض معاركة بيروت الكبرى وسجلوا الملاحم والبطولات الخالدة على غرار بقية الفصائل الفلسطينية واللبنانية والعربية الثورية والتقدمية.

ولم تنته المقاومة بخروجها من بيروت بشرف، بل استمرت من خلال الاشتباك الفردي فالجماعي مع الانتفاضة الأولى في فلسطين عام 1987 ثم في الانتفاضة الثانية عام 2000. ثم "بانتصارات حزب الله بتحرير الجنوب عام 2006 وانتصاره المشرف على إسرائيل عام 2006..".

ويستمر نضال حبش على كافة الصعد داخليا في الجبهة الشعبية وداخل منظمة التحرير الفلسطيني بالدفاع عن الديموقراطية الحقيقية وحماية الحقوق الوطنية في التحرير والعودة ضمن قانون الصراع والوحدة ثم التصدي لعدوان الأنظمة العربية الرجعية والتحالف مع الأنظمة الوطنية، رغم دكتاتوريتها وفق قانون التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي والتحالف مع حماس وحزب الله وإيران وكوريا الشمالية والصين وروسيا على نفس القاعدة... وإيمانا من جورج حبش بالديموقراطية الحق والقيادة الجماعية للجبهة الشعبية وضرورة تدعيم العمل المسلح ضد الصهاينة وتعميق الوعي بهذا الكيان والحركة الصهيونية استقال حبش سنة 2000 ليخلفه أبوعلي مصطفي الذي اغتاله الصهاينة في رام الله سنة 2001 وعبر عن رغبته في تأسيس مركز دراسات "تهتم بعرض تجارب حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرهما من الأحزاب القومية ويعنى بقضايا الصراع العربي الإسرائيلي ذلك أن المحافظة على الذاكرة من شأنها أن تساعدنا على مواصلة النضال..."، هكذا يمكن اختصار مسيرة جورج حبش من الفكر إلى التطبيق ومن التطبيق إلى الفكر ومزيد التعمق الفكري.