منذُ أن تولّى لولا داسيلفا رئاسةَ البرازيل في الأوّل من كانون الثاني (يناير) 2023، بدأت الأنظارُ تتّجهُ نحو دول أميركا اللاتينيّة وبدأت الأسئلةُ تُطرحُ حولَ إمكانيّة وقدرة اليسار على تولّي الحكم وتنفيذ البرامج السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة؛ وكما هو معروف، فإنّ البرازيل هي أكبرُ دول أميركا اللاتينيّة من حيث عدد السكان والإمكانيّات الاقتصاديّة المتوفّرة فيها.
كل تلك الأسئلة محطّ المتابعة؛ لأنّ المؤشّرات العامة تفيدُ بأنّ ما جرى في البرازيل هو فعلًا مؤشّرُ صعودِ اليسار في كافة دول أميركا اللاتينية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن قوى اليمين الليبرالي ما زلت تمتلكُ رصيدًا ودعمًا أميركيًّا وغربيًّا. وبالمحصّلة الأخيرة، فإنّ هذا الصعود محكومٌ بمعادلاتٍ شديدة التعقيد؛ لأنّ تجربة اليسار منذ مطلع تسعينات القرن الماضي وبالتحديد في البرازيل، وعلى الرغم من النجاحات التي حقّقتها إلا أنّها عاشت لحظات المد والجزر؛ بفعل عدم قدرتها على الإطاحة بالنظم الداخلية للدولة البرازيلية (الدولة العميقة) التي أثبتت قدرتها على ابتلاع كلّ منجزات اليسار البرازيلي.
الرئيس لولا أكّد منذ اليوم الأوّل لتولّيه السلطةَ أنّ الحكومة السابقة بزعامة بولسونارو، قد تركت الخزينةَ خاويةً بعد أن دمّرت معظم منجزات فترة حكمه السابق على صعيد البرامج الاجتماعية والتعليمية والنقابية والبيئية.
وقال لولا في خطابه الذي ألقاه في المجلس الأدنى بالكونغرس عند تنصيبه رسميًّا رئيسًا: "كانت حملةً صعبةً للغاية. لم تكن لولا ضد بولسونارو، كانت حملة ديمقراطيّة أمامَ همجيّة، ورسالتنا إلى البرازيل هي رسالةُ أملٍ وإعادة بناء (...) إن الصرح العظيم للحقوق والسيادة والتنمية الذي بنته هذه الأمة قد تمَّ هدمُهُ بشكلٍ منهجيٍّ في السنوات الأخيرة. سنوجّه كلّ جهودنا لإعادة بناء هذا الصرح". وأضاف أنّه سيرسلُ تقريرًا عن الإدارة السابقة إلى جميع المشرّعين والسلطات القضائيّة، وسيلغي "المراسيم الجنائيّة" لزعيم اليمين المتطرّف التي خفّفت السيطرة على السلاح، وتعهّد باتّخاذ إجراءاتٍ قويّةٍ لحماية البيئة وتقليص مظاهر إزالة الغابات في الأمازون إلى معدّل الصفر بعد حلّ هيئاتِ الرقابةِ وسيحمّلُ الإدارةَ السابقة المسؤوليّةَ عن حالة الإنكار في مواجهة جائحة كورونا. وأكّد بأنّ: "التزامنا الأكثر إلحاحًا هو القضاءُ على الجوع مرّةً أخرى وإعادة الديمقراطيّة".
المؤشّراتُ تقول: إنّ اليمين البرازيليّ لم يختفِ من المشهد بعد، حيث أقدم على افتعال أزماتٍ سياسيّةٍ منذ اليوم الأوّل، تحت حجة عدم شرعية لولا، ومن الواضح أن المعركة في البرازيل بين اليمين واليسار، ليست معركةً سهلةً من جانب اليسار، وعلى الرغم من استنادها للدعم الشعبي، إلّا أنّ التجربة الجديدة اليوم، تؤكّدُ بأنّ الدعم الشعبي وحده، ليس كفيلًا بنجاحها، دون الولوج لعناصر القوّة التي يمتلكها هذا اليمينُ سواءً داخل أجهزة الدولة أو داخل طبقات المجتمع.
وبمعنى آخر، فإنّ التجربةَ الجديدة عليها أن تؤخذ بعين الاعتبار الكثير من العبر لتجربتها السابقة وأن تضيف إليها فهمها لعملية التحرر القومي من أسرٍ منظومةِ الاستبداد الدولية واتباعها في الداخل. ففي الوقت الذي غادر جايبير بولسونارو قصر الرئاسة بقي نحو 40% من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب والمشرّعون والحكام يمثّلون اليمين ومجموعات مصالح، قد تتضرّر إن جرى اعتماد وتطبيق القوانين والبرامج التي تعهد بها داسيلفا، ولذلك سيتعيّنُ عليه أن يتعامل مع هذه المجموعات في كلّ ما يريدُ أن يفعله. فالمسرحُ السياسيُّ في البرازيل اليوم لا يحتملُ المحافظة على الإنجازات ومراكماتها دون الخوض في عمق المشكلة الأساسية، التي تقومُ على ثنائيّة التحرّر والاستتباع.
لكن الشعب البرازيلي أعلن كلمته: أنّنا لن نحتمل أربعَ سنواتٍ أخرى من حكم بولسونارو، الذي أخلّ بالضوابط والتوازنات، ومارس الضغوطات على القضاء والمجتمع المدني، وأعلن عن سياساتٍ شعبويّةٍ يمينيّةٍ وقلّص الدعم عن الخدمات الاجتماعيّة والصحيّة العامة، وازدادت خلال فترة رئاسته مظاهر إزالة الغابات في منطقة الأمازون بنسبة 50%. وارتفع معدّل الجريمة بنسبة 9% في المناطق الريفية، و13.8% في البلدات الصغيرة بمنطقة الأمازون، وبرزت ظاهرةُ اغتيال الناشطين البيئيين المؤثّرين بين العامين 2018 و2020.
وبعدَ أسبوعٍ واحدٍ من التنصيب في 8 كانون الثاني (يناير) اقتحم الآلافُ من اتّباع الرئيس الخاسر البرلمانَ والحيَّ الحكوميَّ ومقارًّا حكوميّةً أخرى في برازيليا؛ وذلك احتجاجًا على الهزيمة. وبرز التساؤل حولَ مستقبل الديمقراطيّة في البرازيل، حيث كادت الديمقراطيّةُ أن تتعرّضَ إلى ضربةٍ مؤلمة، ولكن الإجراءات الحازمة للحكومة الفيدراليّة والتكاتف السياسيّ الكبير والالتفاف الجماهيري المؤسّساتي حولَ داسيلفا أحالوا دون الإطاحةِ بالديمقراطيّة البرازيليّة.
وبحسب أصداء الجماهير البرازيليّة، فإنّ الأزمة مستمرّةٌ منذ 4 سنوات عند انتخاب بولسونارو، الذي أتى إلى السلطة والبرازيل، تعيشُ انقسامًا حادًّا في المجتمع بين اليمين المتطرّف واليسار وهو ليس فقط عرقيًّا وله جوانبُ عديدة، حيث يرتكزُ اليمين على ثلاثة ركائز أساسيّة (الإقطاع الزراعي الذي يدعمُ إزالة الغابات بشكلٍ منهجيّ، والإنجيليّين الجدد الذين يؤيدون اليمين المتطرف، والسيطرة على المنظومة الإلكترونيّة وصناعة الهايتك). وقد وصفت جماهير لولا داسيلفا تأييدهم له كبحر أحمر اللون متدفّقٍ لإضفاء الشرعية على الانتخابات وأكدوا: أنّه من أهم الأعوام في حياة البرازيل السياسية ولا يريدون ترك حيّزٍ للفاشية. فلديهم الأملُ أن يعاد إنتاج الإنجاز العظيم الذي حققته حكومته الأولى، عندما ارتقى أكثر من 30 مليون برازيلي إلى الطبقة الوسطى من خلال البرامج الاجتماعيّة الحكوميّة.
فهو الزعيمُ النقابيُّ المؤسّسُ لحزب العمّال ورئيس البلاد مرتين، وجاء من عائلةٍ ريفيّةٍ إلى ساوباوبو بحثًا عن حياةٍ أفضل، حيث كان يعمل والدُهُ في الزراعة، ووالدته كانت تعمل خياطة، وكان هو يعملُ في تلميع الأحذية وبيع الفول السودان ي في الشوارع، واستطاع في الستينات العمل في مصنع للصلب خسر فيه أحد أصابع يده اليسرى. وعمل لولا من أجل ضمان حصول العائلات البرازيليّة على ما يكفي من الطعام، وتمكّن من إخراج البرازيل من خريطة الجوع العالمي وأدرك ضرورة تطبيق التنمية الاجتماعيّة والتوزيع العادل للثروات، فأغلبيّةُ أصوات داسيلفا من الفقراء والنساء اللائي يتلقين المعونات الحكوميّة، بالإضافة إلى الناخبين الشباب والطلاب وأصحاب البشرة السمراء وأعضاء المجتمع الأهلي، فأطلق برامجَ عديدةً منها معونات، خاصة للأطفال وبرنامج الاستفادة من المنح الدراسية وحقيبة لكل أسرة لضمان ذهاب كل طفل إلى المدرسة، وبفضل سياساته دخل جيل برازيلي كامل الجامعات، وبرنامج الكهرباء للجميع والتمكّن من امتلاك منازل. ورؤية دا سيلفا لم تقتصرْ على المعونة ذات الـ (130$)، بل تجاوز ذلك وخلق طبقةً برازيليّةً وسطى. وفي سنوات حكمه الماضية رئيسًا ينتمي لحزب العمّال خلال الفترة من 2003 إلى 2010، نجح في إخراج 26 مليون شخص من الفقر، وخلق 15 مليون وظيفة وعيّن 11 امرأة، منهم مغنية وأول وزيرة للشعوب الأصلية وأسس لأكبر حراكٍ طبقيٍّ عرفته البرازيل، ومنح المزارعين قروضَ ائتمانٍ بأسعار فائدةٍ منخفضة مقابلَ حمايتهم للغابات حينها تلقت البرازيل أكثر من مليار دولار من ألمانيا والنرويج في إطار "صندوق الأمازون" (Amazon Fund) لحماية الغابة المطيرة، وقد تقلّصت نتيجةً لذلك ظاهرةُ إزالة الغابات بين الـ 2005 و2012 بمعدل 76%.
ووقتها تعهّد بسنّ حزمةِ إصلاحاتٍ هائلةٍ منها خروج البرازيل من تسلّط صندوق النقد الدولي وشرع باقتراحاتٍ جديدةٍ من بينها: تشجيع التصنيع، زيادة الإنفاق على القطاعات الاقتصاديّة، سياسة إحلال الواردات، فتح علاقات جديدة مع الاتّحاد الأوروبي، تطوير في قوانين الاستثمار، تشجيع الزراعة، تشجيع السياحة هكذا استطاع دا سيلفا أن يعيد للبرازيل مكانتها من جديدٍ، فقد حقّقت سياساته الإصلاحيّة الجديدة نجاحاتٍ أبهرت العالم وأخرجت البرازيل من إحدى أسوء الأزمات التي عرفتها، وفي عام 2010 تربّعت البرازيلُ في المركز السابع عالميًّا من حيث قوّة الاقتصاد محقّقةً نسبةَ نمو 7.5% ، وأصبحت من ضمن ما يعرف The Acronym BRIC وهي دولٌ تضمُّ كلًّا من البرازيل، روسيا، الصين، الهند وهي الدول التي حقّقت معدلات نموٍّ قويّة، وأسهمت في انتعاش الاقتصاد العالمي. فمن مستقبل الديمقراطيّة إلى قضية المناخ، فالأمنُ الغذائي العالمي الذي تؤدي فيه البرازيلُ دورًا رئيسيًّا بوصفها واحدةً من كبار مصدّري المواد الأساسيّة على مستوى العالم.
تبدو تداعيات الانتخابات الرئاسيّة مرشّحةً إلى تجاوز حدود البلاد إلى محيطها، بل وربّما العالم بأسره، حيث يشكّلُ انتصار لولا دا سيلفا في الانتخابات الرئاسيّة البرازيليّة لحظةً فاصلةً في السياسات الدوليّة المتعلّقة بتغيّر المناخ. ومن الواضح أن داسيلفا ماضٍ بسعيٍّ حثيثٍ إلى ترسيخ معادلة التحرر في مواجهة الاستتباع، ويكفي الإشارة إلى أن اليوم الأول لتوليه الحكم أدرج القضية الفلسطينية ضمن أولوياته، وهو يدركُ مسبقًا أنّ هذا الإدراج هو عاملُ تحدٍّ للإمبرياليّة الدوليّة، وذلك بعد أن أقدم على استدعاء السفير البرازيليّ في تل أبيب، وهو امتدادٌ لليمين البرازيليّ المساند لكيان الاحتلال، وأعاد من جديدٍ الخطابَ السياسيَّ المناصرَ للقضية الفلسطينيّة، ليس داخل البرازيل فحسب بل وخارجها، هذا المؤشّرُ يعطي الانطباع أن تجربته ليست داخليّةً، فهو يريدُ للبرازيل أن تحضر على المسرح الدولي؛ لأنّها تمتلكُ كلّ مؤشّراتِ النهوض.
نعم... هناك ثقةٌ في لولا دا سيلفا زعيمًا، وأيضًا هناك ثقةٌ في النخبة التي أحضرها معه لتولّي الحكم، إلّا أنّ الحكمَ على هذهِ التجربة الجديدة بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الوقت؛ لتتضحَ معالمُها.