لا غَرابةَ في سَوِيَّة الغضب الشعبي تجاهَ تلك النماذج التي يراها المواطنون العاديون والبسطاء تبرز بشكلٍ مثيرٍ للضحك والغضبِ في آن معًا كلما أراد حاكمٌ جبانٌ أن يكشف عن ارتباطه بالعدوّ أو انضمامه لمجرمي ومتخلفي الإبراهيمية، فالردودُ المقابلةُ تستوحي سويّتها من هبوط مستوى الأدب في لغة أتباع الأنظمة، بعد رؤية فيديوهات وتصريحات لأشخاصٍ نكرةٍ غير معروفين مسبقًا يكيلون الشتائم ل فلسطين والفلسطينيين دونما تمييز، أو حتّى دراية بمعلومة ما عن التاريخ أو الجغرافيا، حيث إن أول ما يمكن ملاحظته هو اللغة الشتائميّة التي تعبّر عن شحٍّ متفاقمٍ في ثقافة هؤلاء المهاجمين الذين غالبًا ما يحملون الجنسيات الخليجية وبعض السوريين المهاجرين الناقلين المقلدين لا المبدعين من أمثال "علي فرزات"، ولا حاجة هنا للتذكير على ما نعتقد بالكم الكبير من الردود الشعبية والنخبوية الغاضبة التي تلقاها هؤلاء، والكم الهائل من الاستنكار والشجب والاستغراب الذي انهال عليهم من قبل أبناء جنسياتهم ذاتها وبشكل أساسي.
لم نرَ تحليلًا سيكولوجيًّا لهؤلاء المهاجمين، وذلك بسبب الشعور العربي العام بعدم الضرورة؛ نظرًا لتفاهة ووضاعة مفردات التعبير لدى هؤلاء، ولقناعة العرب جميعًا بأن هؤلاء هم مجرّد ببغاوات لأنظمة التطبيع والموساد ولقناعة البعض بمصداقية التسريبات التي تشي بأن جهاز الموساد يدفع لهؤلاء خمسة ألاف دولار عن كلّ حلقة بثٍّ شتائمية تطال الفلسطينيين شعبًا، أو فيديو مديح وتلميع للشخصية اليهودية وكيان الاحتلال، وهو ما يفسر الانتشار العارم لفيديوهات يقوم بها مواطنون عراقيون وأكراد ومن بلاد الشام والمغرب للحديث عن اليهود" الطيبين" الذين كانوا يعيشون بيننا في هذا البلدان، وهذه الفيديوهات بدورها ممولة من مؤسسات تدعم الكيان الصهيوني وتستمد ميزانياتها من مؤسّساتٍ دوليّةٍ مناصرةٍ له.
ليس هذا معرض تناولنا الأساسي الآن على كل حال، بل هناك ما نُفضّل تسميته بـ "متلازمة التطبيع" التي تُظهر في أُولى تجلياتها فقر مُصابيها الثقافي والمعرفي مدعومة بخصلة "حُمَّى الكراهية المرضية" بما تحمله من فجاجةٍ عنصريّةٍ وتعميمٍ فجٍّ مباشرٍ ينتمي في جوهره لمفرداتٍ غريزة القطيع التي تنضح بالسمات الحيوانية من حيث النظرة الجُموعيّة القبائليّة كما يصنّفها علم النفس.
متلازمة التطبيع في هذا المضمار تبدأ بدوافع نفعيّة، فَيُوهم المنتفع ذاته بضرورة إنشاء آلية تفكيرٍ قسريّةٍ مُفتعَلة، يتدرّب مرارًا على ذلك لممارسة فعله الواعي بحيث ينال رضا السيد وينفس عن الشعور بالدونية، وبالضرورة أيضًا السعي إلى تبرير ذلك بشتى الحالات؛ الأمرُ هنا مشابهٌ لرغبة اللصّ بجعل السرقة حلالًا لكون المسروق ذا صفاتٍ معيّنةٍ، وهذا ديدن التبرير اللصوصي، أو قتل إنسان ما لغاية ما، فيتم التبرير بالسعي لترسيخ اعتقاد القاتل بأن القتيل يستحق القتل لأسبابٍ ينسجها القاتل تبريرًا لفعلته وتشريًا لجريمة القتل، ولإقناع ذاته بالابتعاد عن تذكر المصلحة- الرشوة، لذا فإن أول ما يمكن ملاحظته عند المصاب بمتلازمة التطبيع هو الارتباك والخضوع الإرادوي للعبودية بناءً على الرغبة الدفينة بالعبودية، وهو ما يمكن ببساطة ملاحظته حتى عند الحكام المهزوزين الذين يدفعهم التشبث بالكرسي لقبول العبودية المطلقة، فتخونهم الجدارة بالكرسي ذاته، ليصلوا إلى تغيير ديانتهم فيستبدل إسلامه بما عرف بالإبراهيمية، التي لا يفقه معناها أصلاً، والتي من الواضح أنها أنشئت برغبة سياسية، حتى أن أحد هؤلاء – الأمراء!- رد على سؤال أمام وسائل الإعلام مفاده: ما هي الإبراهيمية؟ بطريقة مرتبكة ومشوشة توضح بأنه لا يعرف عنها شيئاً!
تبدأ متلازمة التطبيع إذًا من لحظة الرغبة في الاستلاب، بما تحمله من رواسب مازوشية، كما أنها هي القناعة الداخلية القهرية المسماة شعورًا بالدونية وهي تشبه إجابات العبيد والعضاريط في مراحل العبودية عبر التاريخ القديم، على سؤال مفاده كيف يدافع العبد عن السيد المعبود مع معرفته بظلمه له، يجيب العبد غالبًا: "إنه سيدي، لذلك فهو على حق"!
هذه ليست مطابقة علمية بقدر ما هي مثال دلالي، فالمصاب بمتلازمة التطبيع يدرك في أعماقه بأن تطبيعه كان قسريًّا لا اختياريًّا، وعلى الرغم من ذلك يشيد بأخلاق وإنسانية السيد المستبد الذي يعلم بأنه قاتل، الذي رأى جرائمه المتكررة لسنواتٍ طوال، وربّما يصل مستوى تفاقم المتلازمة هذه إلى تحية قاتل أهله ذاتهم وتمجيده، ولكون التطبيع بحد ذاته وفي جوهريته هو عملية استجابة للأوامر، يسعى المصاب بالمتلازمة إلى القفز فوق مطالب السيد، فيضيف من عنده، وذلك لتحقيق أعلى درجات الرضا من قبل هذا السيد، فيصف الفلسطينيين مثلًا بأنهم ليسوا عربًا ولا هم أصحاب الأرض وأن الأرض لبني إسرائيل، وبقدر الجهل الثقافي والتاريخي بوجود فلسطين وشعبها المتعارف عليه عالميًّا، وهي معلومةٌ تقرّ بها حتى الصهيونية ذاتها يستوفي المصاب بالمتلازمة أضعاف شروط توظيفه سواء بالمال أو بالحماية أو إبقائه على الكرسي، لهذا يبدو هزليًّا مضحكًا، يوجب كوميدية الرد كما عبرت عن تلك الحالة ببساطة وعفوية ردود المواطنين العرب البسطاء الأصحَّاء على وسائل التواصل مثلًا.
يبدو المصاب بهذه المتلازمة هاربًا من شواهد المنظومة الأخلاقية، فلا يمكن أن يسمح لذاكرته بعرض صور الأطفال المغدورين من الفلسطينيين في حين يشفق على جندي قتل في الضفة الغربية مثلًا ويصف الفدائيين بالإرهابيين، لا بل إن بعض العصابيين- وهو مجنّدٌ من قبل مخابرات عضاريط حكام الإمارات والسعودية- يدعو حرفيًا سيّده الحضاري الصهيوني لذبح كل الفلسطينيين أطفالًا ونساءً ورجالًا! وهذا يدل على مُستوًى عالٍ من الحالة المرضية، وهو ما يبدو أيضًا من ملامح الوجه المُتشنّج مَرَضيًّا مع شدّ أعصاب الوجنتين وتغلغل العينين في ذاتهما، ليدل الوجه ذاته بملامحه على غرابة امتزاج الجهل بالحقد بالمصلحة المُنجزَة من قبل المنظومة الصانعة للعبودية، ولهذا ظن البعض بأن هؤلاء يقعون تحت ضغط التهديد بعد تورطهم في دعارة أو مخدرات فتجبرهم السلطات الإماراتية و السعودية على القيام بذلك لهذا يبدون مُفتَعَلي المنطق، وعزز ذلك أن أحد شرفاء الإماراتيين أكد بأن أحد المأجورين كان في السجن لاغتصابه طفلة.
من سمات هذه المتلازمة أيضًا أنها تحمل بذور الرغبة في الانتحار، بسبب كراهية الذات والمجتمع والدين والتاريخ، لهذا فإن أحد المصابين من هؤلاء تم تلقينه مباشرة من قبل الموساد كي يقول: إنّ النبي محمد قد اضطهد اليهود في الجزيرة وسلبهم أموالهم وديارهم وسبى نساءهم، وأن علينا - نحن العرب - تعويضهم عن ظلم النبي محمد لهم، في حين هو يرى بأم عينه سلب الأراضي والقتل والإرهاب في فلسطين، هنا تبرز ملامح الشيزوفرينيا وتبدو اختلاطات الحالة المرضية من ذلك النوع الذي يصل في النهاية للانتحار بفعل تراكم الخواء وما يفضي لاضطرابات عقلية متفاقمة.
توجب الإصابة بمتلازمة التطبيع بالضرورة شُحَّ الثقافة والاضطرابات العقلية والعصبية والمحنة السيكولوجية التي غالبًا ما تكون بذورها قد زُرعت في فترة الطفولة كمعاناة التفكك الأسري وغياب القيم الأخلاقية والغموض في العلاقات العائلية... هذه الحالة بعيدة كل البعد عن نمط دعاة السلام الذين يسعون بعد تفكير وتمحيص ودراسة إلى حلٍّ سياسي، غالبًا بل وبالضرورة أن هذا الحل السياسي الممكن سيكون ظالمًا للواقع والتاريخ الفلسطيني، هؤلاء يحاولون إيجاد حلٍّ ما، ويمكن سماعهم ومحاورتهم على الأقل كأصحاب نهج وإن لم نوافقهم في ذلك، أما المصابون بمتلازمة التطبيع وحمى الكراهية فهم بحاجة لفترة علاج طويلة داخل المصحات النفسية وتحت إشراف أطباء وعلماء نفس.
عمومًا فقد خبتْ في الشهور الأخيرة أصوات هؤلاء، ربما كان ذلك بسبب تراجع الموساد عن تنظيم ذلك الأمر بعد قناعة بعدم جدواه، فإسرائيل تدرك بأنها كلما جنّدت عملاء علنيين سطحيين قلّت فائدتهم، وانتهى وهم احترامهم لدى الشعوب العربية وشعوبهم ذاتها وهو ما حل مع أبناء زايد وآل مكتوم، حيث تحولوا إلى مسخرةٍ في جلسات السمر الشعبية الإماراتية، لكنها الآن مرشحة للعودة بعد عودة نتنياهو وحكومته المتطرفة الإرهابية المنتخبة، وقد يُعاد قريبًا دعم هذا التوجه على الرغم من عدم جدواه، لكن ما يقلق الاحتلال هو الفشل في تجنيد أي شخص عربي يحمل وعيًا وثقافة رفيعة، لكن ربما يحدث ذلك بالضغط والترغيب والترهيب؛ وذلك بسبب عدم وجود مصحات كافية للاستشفاء في بلدان الوطن العربي!