Menu

فلسطينُ في الفكرِ السياسيّ لحركة القوميّين العرب

صلاح صلاح

نشر في العدد 45 من مجلة الهدف الرقمية

نكبةُ فلسطين عام 1948، أحدثتْ زلزالًا هزَّ المنطقةَ العربيّة، وكشف عورة الأنظمة العربيّة الخاضعة لهيمنة ونفوذ الدول الاستعماريّة التي أوجدتها، وإعلان قيام (دولة إسرائيل) توّج الشراكة بين الاستعمار والحركة الصهيونيّة، للسيطرة على كامل المنطقة العربيّة وإخضاع شعوبها ونهب خيراتها.

ولّدت النكبةُ حالةً من اليأس والإحباط بين أوساطٍ واسعةٍ من الجماهير العربيّة، لكنّها في الوقتِ نفسِهِ استفزّت مشاعر الغضب والتمرّد في أوساط الشباب، ومنهم مجموعةُ الشباب القوميّين العرب اللذين شكّلوا نواةَ تأسيسِ حركة القوميّين العرب، رفضوا الاستسلام للهزيمة، ولم يقبلوا الخضوع للأمر الواقع، فكانت بدايتهم بالتصدّي للمشاريع التي تستهدفُ استكمال المخطّط الاستعماريّ الصهيونيّ بعقد الصلح بين الأنظمة العربيّة والكيان الصهيونيّ من جهة، وإقامة الأحلاف العسكريّة من جهةٍ ثانية. المدخل لإنجاز ذلك الوصول إلى حلٍّ لمشكلة اللاجئين باعتبارهم الطرف الحيّ والمباشر لاستمرار الصراع، والمستند على قرارٍ دوليٍّ رقم 194.

بإمكانيّاتهم المتواضعة أصدر الشباب القوميّون العرب نشرةً متواضعةً تحمل اسم "الثأر" طريق التحرير والعودة بتوقيع "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل" مهمّةً راهنةً يجب التصدي لها، وعندما انتقل الحكيمان ( جورج حبش ووديع حداد) بعد تخرجهما إلى عمان أصدرا مع زملاءٍ لهما مجلّةَ الرأي لتتناوب مع نشرة "الثأر". من خلالهما تمكن الشبابُ القوميّون العرب من الوصول إلى أوسع قاعدةٍ جماهيريّة، وبث الوعي بين صفوفها ورفع معنوياتها للتغلّب على مناخ اليأس والإحباط، ومن خلالهما مع وسائل أخرى حاربوا بلا هوادةٍ المشاريع التي حاولت أطرافٌ عدّةٌ على رأسها الولايات المتحدة تنفيذَها لحلِّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين مدخلًا للصلح بين (إسرائيل) والدول العربيّة.

وكالةُ غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أوّلُ من اُستخدم لتحقيق ذلك؛ باستصلاح أراضي في سينا لإسكان اللاجئين، وببناء وحداتٍ سكنيّةٍ في منطقة الأزرق - الأردن، أو بنقل الفلسطينيين المقيميين في لبنان إلى الجبل الأخضر في ليبيا ، مع إمكانية بقاء قسم منهم يتوطن في لبنان، إضافةً إلى تشجيع الفلسطينيين بالهجرة إلى كندا والولايات المتّحدة الأميركيّة وتوفير فرصِ عملٍ مناسبةٍ لهم هناك، وإغراءِ آخرين للقبول بتعويضٍ مناسبٍ مقابلَ التخلّي عن كرت الإعاشة؛ ليتوطن في البلد المقيم به أو أي بلدٍ آخر.

وعندما لم تنجح الأونروا في إنجازِ مهمتها رغمَ كلِّ ما وضع تحت تصرّفها من إمكانيّات، وما لديها من كوادرَ بشريّةٍ وأجهزةٍ إداريّة، تدخّلت الولاياتُ المتّحدة الأميركيّة بشكلٍ مباشرٍ وعلى أعلى مستوى؛ فأرسل الرئيس الأميركي أيزنهاور مبعوثًا خاصًّا "أريك جونستون" تحت عنوان "استغلال مياه الأردن واليرموك بالاشتراك بين الدول العربيّة وإسرائيل" لكن الذي اتّضح بعد ذلك، وما نشرته "الثأر" و "الرأي" بمتابعة الجولات المكوكيّة للسيّد جونستون أنّ الأهداف الكامنة من وراء زيارته:

- إسكان اللاجئين.

- تشتيت تجمّاعتهم والمخيّمات.

- توفير دخل للاجئين ينهي خدمات الأونروا.

- الصلح مع إسرائيل.

- حلف شرق أوسطي عسكري يضم تركيا ، العراق، الأردن.

فشل جونستون، فأنابه "دلاس" وكان واضحًا منذ البداية بأنّه يحلُّ "مشروع الدفاع المشترك" وهو يدرك لنجاحه يوجب حلّ مشكلة اللاجئين مدخلًا للصلح، وأعلن بخبثٍ ودهاء، حسبما نشرت مجلة "الثأر" 22 آب 1957: "إن وضع حدّ لمأساة اللاجئين العرب المبالغ عددهم 900 ألف لاجئ يتطلّبُ تمكين هؤلاء القوم من استئناف حياه الكرامة واحترام النفس عن طريق الإسكان والترحيل". ويضيف السيد دلاس "يجب على إسرائيل أن تعوض على اللاجئين العرب عما فقدوه، وإذا كانت إسرائيل غير قادرةٍ على توفير المال اللازم، فإنّ الرئيس إيزنهاور سيوحيّ بمساهمة الولايات المتّحدة الأميركيّة في تقديم القروض، وتحقيق مشروعات الرعي واستثمار المياه". ولم يكن حظ الخلف أوفر من حظ السلف، فاستعانت الولايات المتحدة الأميركية بالسيد همرشولد، فبدل أن يدافع عن قرار الأمم المتحدة بحق عودة اللاجئين والتعويض عليهم، قام بجولةٍ على الدول العربيّة بدأها ب مصر عام 1959، يروّج لاقتراح "أن يعاد قسم ضئيل من اللاجئين إلى المنطقة المحتلّة من فلسطين على أن ينال الآخرون جنسيّاتٍ إقليميّةً من الدول التي يقيمون فيها حاليًّا".

من خلال هذا السيل من المشاريع التي تعاقبت عليها عدة أطراف اتّضح للشباب القوميين العرب حجم المخاطر التي تحملها باستخدام موضوع اللاجئين للصلح بين الأنظمة العربيّة والعدو الإسرائيلي، وحذروا منه في جميع إصداراتهم "إنّ أخطار الصلح مع (إسرائيل) عظيمة جدًّا؛ فالصلحُ أكثرُ من إقرارٍ بالعبوديّة نوقّعه لليهود والمستعمرين، إنّه حكمُ الإعدام نصدره على الملايين من أبناء الشعب العربي وعلى أجياله الطالعة. فعلى كل عربي أن يقاوم الصلح، وأن يقاوم كل محاولةٍ للمساومة على الصلح؛ لأنّ الصلح كارثة".

- هذه المعركةُ الأولى التي خاضها الشباب في حركة القوميين، بوسائلَ بدائيّة، مستندين على حجم الإسناد والدعم والتجاوب الجماهيري خاصّةً في أوساط الشباب، التي بفضلها انتصروا بإفشال مشاريع الصلح، وحلّ مشكلة اللاجئين؛ تدخّلًا لتصفيّة القضية الفلسطينية، والتأسيس للمرحلة اللاحقة بالإعداد للكفاح المسلح وانطلاق الثورة الفلسطينية.

- الحركة لم تكن وحدها في تحقيق هذا الانتصار العظيم ضد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، لكنها كانت الأبرز والأنشط، والرائدة في فضح هذه المشاريع والتصدي لها. مع الاستفادة القصوى من حالة النهوض الشعبي العربي بقيادة الرئيس عبد الناصر، مما جعل الأنظمة الرجعيّة العربيّة، التي كان بعضها يوافق على المبادرات الأميركية، هيّابة من إعلان مواقفها، خاصّةً بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا. بعد إعلان الوحدة التي كانت إنجازًا قوميًّا عظيمًا توج العديد من الإنجازات التي سبقت:

- التخلّص من النظام الملكي التابع والمستبد، تأميم قناة السويس، هزيمة العدوان الثلاثي، الإصلاح الزراعي دعم ثورة الجزائر واليمن، صفقت السلاح التشيكي، مؤتمر باندونغ...

- الاهتمامُ بالقضيّة الفلسطينيّة في خطاباته، ورفعه شعار "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"، وتشكيل مجموعات فدائية في قطاع غزة، وفتح المجال لتدريب شباب من حركة القوميين العرب في معسكر أنشاص – مصر/ وحرستا – سوريا.

كل هذا جعل الحركة تعلّق الآمال على دولةِ الوحدة بقيادة عبد الناصر لتحرير فلسطين، باعتبار أن إعلان الوحدة بين مصر و سوريا وضع المنطقة العربية أمامَ مرحلةٍ جديدةٍ أهمّ خصائصها "قيام قيادةٍ رسميّةٍ للنضال العربيّ الشامل، تتبنّى الأهداف القوميّة وتسعى لتحقيقها، هذه القيادة هي قيادة الجمهوريّة العربيّة المتّحدة". لكن "الحركة لا تعفي نفسها من أن يكون لها دورٌ تحدّده في سياق قراءتها للمرحلة التي مرّت بها قضيتنا في فلسطين منذ النكبة حتى اليوم".

ففي عام 1961 أصدرت الحركةُ تعميمًا يطرحُ تصورها لمعركة استرجاع فلسطين ودورها في هذه المعركة، تحت عنوان: مخططنا لقضية فلسطين، ملخّصه: "أما دورنا نحن في هذه الصورة هو تحمل مسؤولية تنفيذ هذا المخطّط على صعيد تنظيم أبناء شعب فلسطين، تنظيمًا ثوريًّا عسكريًّا يضمنُ النجاح في تنفيذ الدور الذي يقومون به".

على هذا الأساس قرّرت اللجنة التنفيذيّة للحركة تشكيل لجنة فلسطين وحدّدت مهمّاتها:

- مسؤولة عند العمل في مجال فلسطين ووضع المخطّطات اللازمة لكلّ ساحة.

- ملاحقة التطوّرات المتعلّقة بالقضيّة الفلسطينيّة على الصعيدين العربيّ والدوليّ.

- متابعة تشكيلات الاتّحاد القوميّ الفلسطينيّ.

- الاهتمام بالنواحي الحياديّة للنازحين ومحاولة تأمين حلول لمعالجتها.

 لم يدم الرهان على نظام الوحدة لتحرير فلسطين، فحصل الانفصال الذي ولّد خيبةَ أملٍ كبيرةٍ في أوساط الرأي العام العربيّ وترك تأثيراتٍ مؤلمةً في صفوف الحركة، احتاجت قيادتها بعض الوقت لاستيعاب التطورات والنتائج التي ترتبت على الانفصال وما تلاه من انقلابات في سوريا والعراق، والمباحثات في مصر حول إمكانية قيام وحدة ثلاثية (مصر، سوريا، العراق)، وانعكاس كل ذلك على الوضع الفلسطيني؛ فحسم المؤتمر القومي للحركة 1964 الأمر، بالدعوة لعقد مؤتمر إقليم فلسطين في نفس العام، تنبثق عنه قيادة تتولى الشأن الفلسطيني وتتابع مختلف القضايا المتعلّقة بالقضيّة الفلسطينيّة؛ فتشكّلت قيادة الإقليم بمسؤوليّة الشهيد وديع حداد الذي أولى اهتمامًا خاصًّا للعمل العسكريّ باتّجاهين:

الأوّل؛ استئناف دورات التدريب العسكري التي كانت قد بدأت في أنشاص عام 1956 وفي حرستا 1958.

الثاني؛ إرسال مجموعاتٍ إلى المناطق المحتلّة عام 1948 لمحاولة إقامة قواعد ارتكاز تكون جاهزة للبدء حين ساعة الصفر، التي في إحداها استشهد الفدائي الأول خالد أبو عيشة ورفيقه حسين رمضان بعد أن نفذت زخيرتهما وأردوا ب 26 قتيلاً صهيونياً باعتراف العدو نفسه.

 وصدف أن كان اللقاءُ الأول بين زعيم حركة القوميين العرب د. جورج حبش والزعيم القومي العروبي الرئيس عبد الناصر في نفس العام، وأخذ الموضوع الفلسطيني وإمكانيّة البدء بالعمل العسكري ضمن أسلوب حرب العصابات مداه من النقاش، انتهى بالآخذ بوجهة نظر الرئيس عبد الناصر التي تُشجع بالاستمرار بالإعداد ضمن الحدود التي لا تورط مصر بحربٍ غيرِ جاهزةٍ لها، مع الأخذ بالاعتبار أن أي حربٍ مع العدو الإسرائيلي هي مع أميركا ودول الغرب. فترجمت الحركة هذا الموقف في العمل العسكري على الصعيد الفلسطيني تحت شعار "فوق الصفر تحت التوريط".

بعد تشكيلها وجدت نفسها قيادة إقليم فلسطين أمام العديد من الموضوعات الهامة والخطيرة، ولكلّ منها تفرعات، وعليها أن تعطي أجوبةً عمليّةً ومواقفَ محدّدةً لكلٍّ منها؛ الحديث الذي بدأ حول امتلاك العدوّ الإسرائيليّ القنبلة الذريّة، وكيف يمكن مواجهة ذلك، تصوّر الجمهوريّة العربيّة المتّحدة - التي نراهن عليها – لحرب التحرير ودور العمل الفدائي الفلسطيني فيها، موقف مؤتمرات القمة العربيّة، منظمة التحرير الفلسطينية وما تحمله في داخلها من تناقضاتٍ بين نهجٍ ثوريٍّ يجعل منها قوّةَ تغييرٍ ثوريٍّ جماهيريٍّ من جهة، ونهجٍ يمينيٍّ يحرصُ على إبقائها ضمن الإطار العربيّ الرسميّ من جهةٍ ثانية.

تجربةُ العملِ الفدائي التي بدأتها فتح وما أفرزته من سلبيّاتٍ وإيجابيّات، تجربة قيادة إقليم فلسطين في اللجنة التحضيريّة للعمل الفلسطيني الموحّد، البعد القومي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، الوضع الدولي الداعم للكيان الصهيونيّ.. إلخ... في خضم النقاش ووضع الدراسات والأبحاث حولَ مختلِف هذه القضايا حصلت النكسة المدوّية في حرب 1967، بقدر ما شكّلت النكسة هزّةً بل زلزالًا على الصعيدين الرسمي والشعبي، كذلك أبرزت للعلن ما كان يجري من تبايناتٍ في قيادة الحركة بين ما سُمّي يمين ويسار، مع ذلك وبعد جهد جرى الاتفاق على إصدار بيان ينهي الرهان على النظام العربي الرسمي ويعلن أنه "لم يعد الرهان على الجمهورية العربية المتحدة بقيادة الزعيم عبد الناصر هو المحور في إستراتيجية حرب تحرير فلسطين". ويضيف البيان في تحليل الأسباب هزيمة 5 حزيران 1967 بأنها "تمت في ظل قيادة الأنظمة الوطنية التقدمية، وهذه الأنظمة هي التي لم تسطع الارتفاع إلى مستوى مواجهة هجوم 5 حزيران، وهي المخاطبة أولاً بالرد على النكسة. ونخطئ كثيراً إذا خرجنا بنتيجة تعتبر النكسة نكسة عسكرية فقط، إنها نكسة لكل الخط العام العربي سلكته الأنظمة التقدمية والحركات الشعبية في مجابهة الاستعمار الأميركي الصهيوني.. وهذا بالتحديد هو الذي دفع بهذه الأنظمة لتقبل بعد ستة أيام بوقف إطلاق النار، وتقف حائرة مترددة أمام التساؤل الأساسي بعد الهزيمة ما العمل؟".

 للرد على هذا السؤال "دخلت اللجنة التنفيذية للحركة في بحث وبلورة خط الكفاح الجماهيري المسلح باعتباره الطريق الرئيسي للارتقاء بحركة التحرر الوطني العربية وتجديد بنيتها الطبقية والسياسية".

استجابت قيادةُ إقليمِ فلسطين لمضمون البيان الصادر عن لجنتها التنفيذية وطلبت من قيادات الأقاليم المختلفة للحركة "بأن يتقدّموا بكلّ ما عندهم من أراءٍ وأفكارٍ ومقترحاتٍ مختلفة، ومهما كانت بسيطةً وجزئيّةً لتساعد في دفع الكفاح المسلح ورفع مستواه وتطويره".

تلبيّةً لهذا الطلب فقد وصلها عدة أوراق منها: واحدة حول قيام وتنظيم العمل السري المسلح ضد قوى الاحتلال، وأخرى حول العمل الفدائي في معركة التحرير الفلسطينية، وثالثة تحت عنوان متطلبات النجاح للعمل الشعبي المسلّح. كلّها مهمّةٌ وربّما ما تزال ذات فائدة، خاصّةً في الضفّة الغربيّة حاليًّا.

أنهي بفقرة عن تقرير مؤتمر إقليم فلسطين 1967: "وهنا لاحظ المؤتمر أن ما هو مطلوب منه بالفعل، هو بلورة خطة عمل كاملة، تتضمن فيما تتضمن، صورة الأداة القادرة والمؤهلة بقيادتها وكوادرها إلى نقل هذه الخطة إلى حيز التطبيق الشامل"... التي أدّت فيما بعد إلى إعلان قيام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي نحتفل بذكرى مرورها الـ 55 من العطاء والتضحيات.