Menu

في ذكرى رحيل القائد الكبير الرمز الفلسطيني والقومي والأممي وديع حداد

طارق أبو بسام

تأتي ذكرى استشهاد وديع حداد في هذا العام في ظل مجموعة من التطورات الدولية والإقليمية والمحلية سيكون لها انعكاسات كبيرة على مستوى المنطقة والعالم ككل، نشير إلى أهمها بعجالة:

١_ تراجع الدور الأمريكي على المستوى العالمي، كون الولايات المتحدة لم تعد تتحكم في العالم كما تشاء، كما كانت عليه الأوضاع في الفترة السابقة، خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة القطب الواحد ممثلا بالولايات المتحدة الأمريكية.

٢_ استعادة روسيا لدورها العالمي والعودة للمسرح الدولي كلاعب رئيسي في أعقاب الحرب في جورجيا عام ٢٠٠٨ وبعد استعادة جزيرة القرم في عام ٢٠١٤ وتنامي دورها في الشرق الأوسط بعد إرسال القوات الروسية إلى سوريا لمحاربة داعش والإرهاب، وتكرس هذا الدور بقوة أكبر بعد العملية الخاصة في أوكرانيا في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو ومن معهم، معلنة من خلال التحالف مع الصين والشركاء الآخرين نهاية نظام القطب الواحد وبداية عالم متعدد الأقطاب.

٣_ تقوية العلاقات الروسية _ الصينية وتكريس التحالف الاستراتيجي بينهما في مختلف المجالات.

٤_ تزايد النفوذ الصيني عالمياً، خاصة على المستوى الاقتصادي، بحيث أصبح يتنافس بقوة مع النفوذ الأمريكي وبات يهدده بقوة، ويتفوق عليه في الكثير من مناطق العالم، وهذا ما ظهر جلياً من خلال المشاريع الكبرى والاتفاقات التجارية التي عقدتها مع الكثير من الدول في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها.

٥_ تزايد حدة التناقضات داخل دولة الكيان الصهيوني ووصولها إلى هذا المستوى لأول مرة منذ تأسيس الدولة واشتراك الجيش في عملية الصراع، حيث باتت هذه الصراعات تهدد وجود الكيان بشكل كبير وتضع علامة استفهام حول مستقبله، خاصة بعد فوز اليمين المتطرف في تشكيل الحكومة بعد الانتخابات الأخيرة، وهذا ما نشاهده اليوم في الشارع، حيث تعم المظاهرات والاحتجاجات المدن والشوارع ويشارك فيها مئات الآلاف مما رسم علامة استفهام على مستقبل دولة الكيان.

٦_ التطور النوعي في العمل الفلسطيني المقاوم في الفترة الأخيرة وفشل كافة الإجراءات الأمنية (الإسرائيلية) والتنسيق الأمني في الحد من عمليات المقاومة، حيث باتت تبشر بدخول مرحلة نوعية جديدة.

ففي مثل هذا اليوم من عام ١٩٧٨ رحل عن عالمنا القائد التاريخي الاستثنائي والمميز، الدكتور وديع حداد.. نعم رحل القائد والثائر المتمرد، رحل فارس الفرسان، رحل من أدخل الرعب في قلوب الأعداء، رحل من أدخل استراتيجية جديدة في مواجهة الأعداء. استراتيجية وراء العدو في كل مكان، رحل من حمل القضية الفلسطينية إلى كافة أنحاء العالم، رحل من كنا في زمنه نخيف ولا نخاف، وأصبحنا اليوم نخاف ولا نخيف، رحل صاحب المدرسة الأممية المناضلة.

رحل القائد القومي والعروبي الكبير، أحد مؤسسي حركة القوميين العرب مع رفيق دربه وتوأمه الدكتور جورج حبش ، وأحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

وديع حداد لم يكن قائداً عادياً بل كان قائداً استثنائياً لقضية استثنائية، استثنائياً في تفكيره وتخطيطه وممارسته وتواضعه وإبداعه. وقد تولى عدة مواقع قيادية في حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية.

ولد وديع حداد في مدينة صفد عام ١٩٢٧، هذه المدينة التي عاش فيها وأحبها، كما أحب كل فلسطين، وهو من قال لو عرض عليّ استعادة فلسطين دون صفد لما قبلت، ولو عرض استعادة فلسطين دون بيتنا في صفد لما قبلت أيضاً، أريد وأعمل لاستعادة فلسطين كل فلسطين ولن أتخلى عن حبة تراب منها.

هُجر وديع مع عائلته بعد قيام دولة العدو إلى لبنان وفيها أكمل دراسة الطب في الجامعة الأمريكية وتخرج منها. افتتح عيادة لمعالجة المرضى مع رفيقه الحكيم في منطقة الأغوار في الأردن، سميت بعيادة الفقراء، وكانت تقدم العلاج والأدوية مجاناً، وكان يستفيد من هذه العيادة في إقامة العلاقات مع الجماهير والشباب وتجنيدهم لصالح العمل الوطني الفلسطيني.

هو صاحب شعار وراء العدو في كل مكان، والعمليات الخاصة التي قام بالتخطيط لها وتنفيذها في الخارج، ومنها عمليات اختطاف الطائرات، وعملية أوبك، والكورال سي وغيرها، وعملية مطار اللد الشهيرة مع الجيش الأحمر الياباني وعملية سينما حين التي نفذها مظفر الإيراني الجنسية، إلى جانب تزويد الداخل بالسلاح.

في عمليات خطف الطائرات كان وديع يريد أن يبرز القضية الفلسطينية عالمياً وأمام الراي العام العالمي وتعريفه بها، وليس هذا فحسب، بل كان يريد من هذه العمليات تحرير الأسرى من سجون العدو بعد أن تزايدت أعدادهم وكان يؤمن أنه لا يمكن تحريرهم إلا بالقوة. ومن المعروف أن أول عملية تبادل للأسرى بين دولة العدو مع المقاومة تمت مع الجبهة الشعبية، أثر اختطاف أول طائرة في عام ١٩٦٨وتحويلها إلى مطار الجزائر.

تعرض وديع لعدة محاولات اغتيال فاشلة كان أبرزها عملية قصف بيته بواسطة الصواريخ في بيروت، إلا أن إسرائيل نجحت في اغتياله حسب اعتراف الموساد بالتعاون مع المخابرات الأمريكية وأجهزة مخابرات عربية عن طريق السم.

اختلف وديع مع قيادة الجبهة الشعبية عندما قررت وقف العمليات الخارجية في مطلع السبعينات كونها أدت الغرض منها، إلا أن وديع لم يقتنع بذلك واستمر في تنفيذها مما أدى إلى اتخاذ قرار بفصله من الجبهة.

المهم أن ردة فعل وديع على قرار فصله أنه كان يقول (نعم أنا عضو في الجبهة الشعبية بمرتبة مفصول)، وقد أعيد الاعتبار له في المؤتمر الرابع للجبهة الشعبية الذي عقد في بيروت عام ١٩٨١.

نعم لقد ظُلم وديع حداد بهذا القرار وكان مجحفاً بحقه وظُلمت الجبهة أيضا وكما قال الشاعر المظلوم طرفة بن العبد (وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـد).

لم يكن وديع محباً للظهور ولا للكلام، وإنما كان يعمل بصمت وإتقان. أعماله كانت تتكلم نيابة عنه، حيث كان يرتعد منه العالم ويصغي إليه دون أن يتكلم بكلمة واحدة.

نعم ما أعظمك يا وديع، وما أحوجنا اليك في هذه المرحلة التي تحولت المقاومة من ثورة الى ثروة وساد الفساد ونهج المساومة والتنازل وأصبحت الخيانة فيه وجهة نظر ونقول لك، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

تعرفت على وديع حداد شخصيا عن قرب وقابلته عدة مرات، ودعاني إلى بيته مع عائلتي لتناول الطعام في بيته، وهذا ما قلّ أن يحصل، وقد لمست منه التواضع الكبير الذي يتمتع به وحب النكتة والروح المرحة، كان قاسياً إلى درجة الحزم ومتواضعاً لطيفاً ودوداً إلى درجة أن من يقابله ويتعرف عليه يشعر أن له من اسمه نصيب.

كان إنساناً بامتياز رغم الصورة التي تحيط به، زرته مرات عديدة في مقر عمله في بغداد، وكانت آخر مرة قبل استشهاده بأقل من شهرين، ولم يخطر في بالي أن هذا اللقاء سيكون الأخير. كان كثير العمل، لا يكاد يهدأ أو يستريح وإذا ما شعر بالتعب كان يغفو لعدة دقائق على كرسيه الذي يجلس عليه ثم ما يلبث بعدها أن ينهض لمتابعة عمله.

كان عملياً وعلمياً. عبقرياً، وطاقة لا مثيل لها، دقيقاً لا يقبل الفشل. وكان ذو حس إنساني حتى مع أعدائه، وهو من كان يصدر أوامره لمنفذي العمليات، خاصة الطائرات المخطوفة، لا تقتلوا المدنيين حافظوا عليهم ولا تطلقوا الرصاص إلا دفاعاً عن النفس، نحن نريد عملية التبادل والإفراج عن أسرانا. وكان دائماً يردد جملته الشهيرة (في العمل الثوري لا يوجد مستحيل وكلمة مستحيل لا توجد إلا في قاموس الأغبياء).

كان يقول للرفيقة ليلى خالد، تلميذته ورفيقة دربه كما روت في أحد مقابلاتها، لا أريد أن أموت على السرير، أريد أن أموت في ساحات المواجهة والقتال وبالرصاص وإذا مرضت سأقول لك متى تطلقي عليَّ الرصاص.

ونحن نكتب عن وديع لا بد من الكتابة عن الدروس المستخلصة من تجربة الراحل الكبير، ونلخص بعضها بما يلي:

١- التأكيد على أن جبهة الأعداء جبهة واحدة ولا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى، الإمبريالية والصهيونية و(إسرائيل) والرجعية العربية، يشكلون جسدا واحدا وعندما تضرب أي منها تصيب الآخرين.

٢- التأكيد على الأهمية الكبرى لتشكيل جبهة أممية من مناضلي وأحرار العالم للوقوف في وجه معسكر الأعداء، وهذا ما عمل على تحقيقه من خلال إقامة أوثق العلاقات معها وتقديم الدعم والتدريب وتنفيذ العمل المشترك. لقد شكل وديع تجربه أممية مقاتلة جمعت المناضلين من كل أنحاء العالم لضرب واستهداف مصالح الأعداء، وهذه التجربة تستحق التوقف أمامها ودراستها.

٣- أكدت تجربة وديع أن العدو لا يفهم إلا لغة القوة، ولا يحترم إلا القوي، وهذا ما حصل عندما كانت الكثير من الدول الغربية تتسابق لإرسال الرسائل وعبر الوسطاء كي لا يضرب مصالحها وتستجيب لشروطه في الكثير من الحالات.

٤- أقام وديع حداد العلاقات مع الحلفاء على قاعدة الندية، وخدمة فلسطين أولاً، وهذا ما أكدته التجربة مع العراق والجزائر و اليمن ومع الاتحاد السوفييتي وألمانيا الديمقراطية وغيرها من دول العالم. لم يكن تابعاً لأحد وكان يأخذ قراره بشكل مستقل كان يحترمه الجميع ويتمنون أن يقيموا العلاقة معه لدرجة أن أندروبوف، رئيس الاتحاد السوفييتي سابقا، طلب اللقاء به وأرسل له طائرة خاصة.

٥- تميّز وديع بدقة التخطيط ووضع الاحتمالات والإجابة عليها، ولم يترك أي مسألة مهما كانت صغيرة إلا وأجاب عليها بشكل علمي، وبعد دراسة عميقة، بعيداً عن الارتجال والعاطفة، وهذا سبب نجاحه.

في ذكرى رحيلك أبا هاني، ننحني إجلالاً واحتراماً لعظمتك ونضالاتك وللمدرسة الثورية في التي أسستها.

نذكرك في هذه الأيام التي تتسابق فيها الخيول المهزومة، وهي في الواقع بغال مُسرجة على أنها خيول، بعد أن غادرت الساحة الخيول الأصيلة.