Menu

في الذكرى الثانية لمعركة سيف القدس

جبهة العدو الداخليّة بين فعل الخرق الفلسطينيّ ومحاولة الرتق الإسرائيليّة

د . عابد الزريعي

نشر في العدد (49) من مجلة الهدف الرقمية

شكّل الإخفاق في تحييد الجبهة الداخليّة أحدَ أهمّ الإخفاقات الإسرائيليّة خلال معركة سيف القدس التي حوّلتها إلى ساحة مواجهة، بطريقةٍ لم تشهدها في تاريخها؛ الأمرُ الذي أطاح بنظرية الأمن القومي الإسرائيلي في شقّها المتعلّق بضرورة خوض الحرب خارج الحدود. لذلك احتلّ هذا الموضوع جانبًا مهمًّا من التفكير السياسي والأمني، حيث انكبَّ عديد الخبراء والمحللين على البحث عن الوسائل التي يمكن أن ترتق الخرق الذي أحدثته معركة سيف القدس. يتناول المقال (البحثي) هذا الموضوع بمستوييه، أوّلًا تحديد ملامح خرق واختراق الجبهة الداخليّة باعتباره أحد إنجازات معركة سيف القدس، وثانيًا تحديد الآليات التي اقترحها الباحثون الإسرائيليّون لمعالجة الخرق ورتقه.
المحور الأوّل: ملامح خرق الجبهة الداخلية الإسرائيليّة، وتتحدّد تلك الملامح في ثلاثة هي:
أوّلًا: اختراق القبّة الحديديّة
تمكّنت المقاومة الفلسطينيّة من كشف محدوديّة قدرات القبة الحديدية التي لم تستطع اعتراض أغلب القذائف الصاروخيّة، وذلك بسبب الكثافة الكمية للصواريخ، وتضليل القبة الحديدية، عن طريق إطلاق قذائف "تمويهية" في السماء لاستدراج صواريخها، ودفعها إلى إفراغ حمولتها، لتغتنم المقاومة الفرصة وتطلق الصواريخ "الحقيقيّة" (أبو عامر: 22/5/2021). وحسب قناة كان الإسرائيلية كانت مدينتا أسدود وعسقلان (جنوب) أكثر المدن استقبالًا للصواريخ، وتم إطلاق نحو 400 صافرة إنذار في كلّ منهما، كما تم إطلاق نحو 160 صافرة إنذار في مدينة بئر السبع (جنوب) ووصل أقصى مدى للصواريخ إلى القدس من الشمال الشرقي وديمونا من الشرق وجنوب منطقة الشارون و(المجلس الإقليمي) عيمك حفير من الشمال، والمجلس الإقليمي حيفيلإيلوت من الجنوب (الجزيرة: 21 ــ 5 ــ 2021)، وبالنتيجة تم ضرب عمق ما يسمى "المدن الإسرائيلية". 
تقول الكاتبة الإسرائيلية د. ليرازمرجليت: "قدرات عسكرية قادرة على إلحاق الضرر بقلب إسرائيل: قلبها العاطفي، القدس العاصمة، وتل أبيب العاصمة الاجتماعية والتجارية" (تقرير:12 ــ 6 ــ 2021).
ثانيًا: الإنهاك النفسي للجبهة الداخليّة
لقد ترتّب على ذلك إدخال ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ ووقف حركة القطارات بين مدن وسط وجنوب البلاد، وتعليق هبوط وإقلاع الرحلات الجوية لفترات بمطار بن غوريون (الجزيرة: 21 ــ 5 ــ 2021)، وتحوّلت عسقلان إلى مدينة أشباح، وهجرت عديد المنازل التي لا يوجد فيها ملاجئ حماية (بنا: 18 ــ 5 ــ 2021). ويكشف الإعلام الصهيوني عن نوع من “الإنهاك النفسي” للمجتمع الإسرائيلي، الذي لم يعرف من قبل هذا النمط من الاشتباك وبهذا الاتساع. وتشير تقارير وزارة الصحة الإسرائيلية إلى ارتفاع نسبة الانتحار في “إسرائيل” التي بلغت أعلى معدلاتها في مستوطنات غلاف غزة، وذلك نتيجة الإنهاك والقلق النفسي الشديد والمتواصل (عبد الحي:25 ــ5 ــ 2021).
ثالثًا: اندلاع انتفاضة الداخل
حولت الهبة الشعبية الفلسطينية في مدن اللد والرملة وحيفا وعكا ورهط ويافا وغيرها (عيسى: 15 ــ 5 ــ 2021)؛ الجبهة الداخلية الإسرائيليّة إلى ساحة مواجهةٍ حقيقيّة، وبرهنت على إسقاط مشاريع "الأسرلة" الثقافية والديمغرافية (العقرباوي: 23 ــ 5 ــ 2021)، وأكدت على أنّ لدى الاحتلال خاصرة رخوة وحساسة، وقد كان الأمر ثقيلًا على العقل الصهيوني إلى حدّ أن الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين حذر من حربٍ أهلية، ووصفت وسائل الإعلام الغربية ما يجري بأنه “جبهة مواجهة ثانية” إلى جانب المواجهة مع غزة (عبد الحي:25 ــ5 ــ 2021). لقد شكلت الهبة الشعبية في المناطق المحتلة عام 1948 لطمة كبيرة للمؤسسة "الإسرائيلية"؛ تلك الهبة التي ضعضعت الجبهة الداخلية خلال المواجهة من ناحية، وأعلنت فشل سياسات الأسرلة والإذابة والتهميش التي مورست عليهم لعقود من ناحية ثانية (الحاج: 28 ــ 5 ــ 2021)؛ فقد جاءت الهبة لتؤكد سقوط الاستراتيجية الهادفة إلى تفكيك المشروع السياسي الجامع والجماعي للفلسطينيين، والقائمة على الأسرلة وتجريم العمل السياسي وملاحقة الحركات والقيادات السياسية التي تشدد في خطابها على تنظيم الجماهير وبناء وعيها المقاوم (بكري:21 ــ 5 ــ 2021).
المحور الثاني: محاولات رتق خرق الحلقة الداخليّة
تتعلّق بوضع الجبهة الداخليّة على ضوء معركة القدس التي كانت بالنسبة للأوساط الإسرائيلية بمثابة "بروفة" لتوقع مواجهة على الجبهة الشمالية، وفي هذا السياق؛ إجراء تعديل "على مستوى البلاد بأسرع ما يمكن"(ضاهر: 28 ــ 5 ــ 2021)، من أجل "الحفاظ على جبهةٍ داخليّةٍ إسرائيليّةٍ صحيّةٍ ومرنة" (تقرير:12 ــ 6 ــ 2021)؛ قادرةٍ على التكيّف مع الهجمات العسكريّة، وفي هذا الصدد؛ يتم الاشتغال على ثلاثة مستويات.
أوّلًا: الإخلاء والحماية
يسجّل المحلّلون الإسرائيليّون خللًا على مستوى عمليات الإخلاء أثناء القصف، ومستويات الحماية المتوفّرة، خاصّة توفر العدد الكافي من الملاجئ؛ فلم"يكن هناك إخلاء منظم للمستوطنات، في منطقة غلاف غزة"، وتم تنفيذ الإخلاء من قبل قيادات البلديات، كما أن السكان لم يتعودوا على خطاب الإخلاء (مائير:3 ــ 6 ــ 2021)، ولمعالجة ذلك يتم التأكيد على الحفاظ على قدرات الدفاع المدني المتوفرة وتحسينها، والعمل على توفير الملاجئ، وإصدار قوانين صارمة لبناء الملاجئ للعائلات داخل مدى الصواريخ في قطاع غزة ولجميع سكان عسقلان (تراجتنبرغ:15 ــ 6 ــ 2021).
ثانيًا: الضبط والسيطرة
انكبّ المحلّلون الإسرائيليّون على البحث عن آلية للسيطرة وإيجاد آلية للتعامل مع أبناء الشعب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلّة عام 1948، من أجل "ضمان عدم تحول الساحة الداخلية إلى ساحةٍ أمنيّةٍ نشطةٍ بشكلٍ عام، خاصّةً في حالة حدوث صراعٍ مع عدوٍّ خارجي" (يادلين: 26 ــ 6 ـــ 2021)، وذلك من خلال تفكيك الروابط التي تشكلت خلال المعركة بين مختلف الجغرافيا الفلسطينية، وشل تحركها حتى بشكلٍ منفردٍ لما يسبّبه من إرباكٍ كبيرٍ لجبهة العدو الداخليّة، ومن أجل تحقيق ذلك تمّت صياغة الآليّات الآتية:
1ـــ إنشاء قوّةٍ أمنيّةٍ داخليّةٍ كبيرةٍ تعتمد على جنود الاحتياط، وتحت قيادة الجبهة الداخلية أو شرطة الحدود، وهي عبارةٌ عن نموذجٍ إسرائيليٍّ للحرس الوطني الأمريكي (الهدف: 21 ــ 5 ــ 2021)، وزيادة قوة الشرطة في مجال النظام العام، وفي مجال التحقيقات والاستخبارات (لافي:6 ــ 6 ــ 2021)؛ لتعويض النقص في قوات الشرطة (ضاهر: 28 ــ 5 ــ 2021) والجيش الإسرائيلي (تقرير:12 ــ 6 ــ 2021)، وتقوم هذه القوّة بمهمّة إعادة تأكيد سيادة الدولة، وقابليّتها للحكم، وسيادة القانون في جميع أنحاء البلاد" (تقرير:12 ــ 6 ــ 2021). وفي هذا السياق؛ قالت الهيئة العربية للطوارئ، يوم 25 /5/2021، إنّها رصدت أكثر من 1700 اعتقال و300 حالة اعتداء على مواطنين عرب أو على ممتلكات بحيازة مواطنين عرب، وأشارت إلى أنّه منذ بدء ما تسمى حملة "تطبيق القانون" يتم بالمعدل اعتقال 100 مواطن عربي في كل يوم (قاسم: 28 ــ 5 ــ 2021).
2ــ الاستعانة بالجيش لفرض السيطرة على فلسطينيي المناطق المحتلّة عام 1948 في حال نشوب حرب، وقد نشرت صحيفة "يسرائيل هيوم" تقريرًا بتاريخ 1 مايو 2022؛ يشير إلى أن الجيش الإسرائيلي يعد لتدريباتٍ تحاكي حربًا تتعرّض خلالها إسرائيل لهجومٍ صاروخيٍّ من لبنان وقطاع غزة، وتصعيدًا في الضفة الغربية يتحوّل إلى مواجهاتٍ سرعان ما تمتد إلى القدس والمدن التاريخية في مناطق 1948، بما يترتب على ذلك من ضرورة إغلاق طريق وادي عارة في المثلث، مع محاكاة عملية إدخال قواتٍ نظاميّة، خاصةً وقوّات مداهمة وقوات شرطية إلى البلدات العربية لمعالجة "أعمال الشغب". وفي هذا السياق؛ نقلت عن ضابطٍ كبيرٍ في الشرطة الإسرائيليّة، قوله: "الخبرة المتراكمة والدروس المستفادة من عملية حارس الأسوار قادتنا إلى تجهيز وبناء نماذج جديدة؛ قمنا ببناء أجهزة استشعار استخباراتيّة مع الجيش والشاباك لتجنب المفاجآت" (مجادلة: 1ــ5ــ2022).
3 ــ تسليح المستوطنات الحدودية، وإيجاد صيغٍ بديلةٍ لما كان يسمى "النظام الدفاعي الإقليمي الهائل الذي كان يضم السكان المحلّيين المسلحين والمدربين من قبل الجيش في المجتمعات الحدودية" (تقرير:12 ــ 6 ــ 2021). وفي هذا السياق؛ تم إنشاء ميليشيا أرئيل؛ لقمع أهل النقب.
4ـــ المتابعة الأمنيّة والاستخباريّة للتأكّد من أن حماس لا توجه مزاج الشارع العربي في "إسرائيل" إلى احتياجاتها السياسيّة (تقرير:12 ــ 6 ــ 2021)، والمراقبة المنتظمة للعناصر القانونيّة والأمنيّة وعناصر السياسة الخارجية من خلال الأنشطة غير القانونية التي تقوم بها العناصر الأجنبية في "القدس الشرقية"، والضرب بقوة في أحياء المدينة التي يسود فيها الشغب، وعدم التعرّض للأحياء الهادئة (تقرير:12 ــ 6 ــ 2021)، والتزام الشرطة الصارم بالنظام العام، وإنفاذ القانون لتقديم مثيري الشغب من كلا الجانبين إلى العدالة (لافي:6 ــ 6 ــ 2021).
ثالثًا: أسرلة الوعي
يحاول المحلّلون الإسرائيليون تقليص ونزع الطابع الوطني عن هبة فلسطينيي المناطق المحتلّة عام 1948؛ فيصفونها بأنّها اندلاعٌ لأعمالِ عنفٍ بين العرب واليهود، تعود أسبابه إلى "تياراتٍ عميقةٍ في المجتمع العربي، تغذيها مجموعة من قضايا الهُويّة والإحباط والجريمة والتحريض والافتقار" (شفايتزر: 8 ــ 6 ــ 2021)، وأنّ "85% من المشاركين في موجة العنف كانوا مجرمين شبان، والباقون هم ناشطون في الحركة الإسلامية وأقلية صغيرة من الأفراد الذين يتماثلون مع أحزاب يسار عربية"(ضاهر: 28 ــ 5 ــ 2021). وبما أن الأمر يتعلق بهذه الأسباب التي تحاول الأقلية من الناشطين استغلالها، لقطع الصلة بين "العرب واليهود"، يتم تقديم مجموعة اقتراحات لتمتين تلك الصلة الواهية، التي سعت حماس إلى إقامتها مع اندلاع الحرب (شفايتزر: 8 ــ 6 ــ 2021)؛ تتلخص فيما يلي:
1ـــ قيام القادة والشخصيات العامة اليهودية والعربية على جميع المستويات بالتعبئة لتهدئة الروح المعنوية للطرفين، والتأكيد على أن هذا يمثل مصلحة حيوية للعرب واليهود على حدٍّ سواء (لافي:6 ــ 6 ــ 2021).
2ـــ تنفيذ برامج اقتصادية واجتماعية بالتنسيق مع القيادات العربية، للتعامل مع آثار العنف والجريمة، بما قد يسرع ويؤسس لعمليات اندماج العرب في المجتمع والدولة ويقوي تيار إسرائيل داخلها، وذلك يستدعي وقف عمليات التطرف المتنامي في أوساط الجمهور اليهودي، وإنكار أية شرعيةٍ سياسيةٍ للمنظمات اليمينية (لافي:6 ــ 6 ــ 2021).
3 ـــ توسّع البلديات والوزارات الحكومية، في تقديم الخدمات المتعلقة بالثقافة والرفاهية والمجتمع والشباب والتعليم. (تقرير:12 ــ 6 ــ 2021)، ودمج البرامج المناسبة في نظام التعليم (لافي:6 ــ 6 ــ 2021).
خاتمة:
إنّ النظر إلى المسألة من زاويتيها يفرض العمل على تطوير القدرات التي أحدثت ذلك الخرق الاستراتيجي، سواءً على المستوى العسكري أو على مستوى الانتباه إلى أهميّة وحدة ساحات الفعل الفلسطيني، خاصّةً دور أبناء فسطين المحتلّة عام 1948، ومن ناحية ثانية الانتباه لما يخطّط له العدو، من أجل وضع الخطط المضادة؛ بهدف إجهاضه، بما يعنيه ذلك من توسيع خرق الفعل الفلسطيني حتى يستحيل على الراتق الصهيوني.