Menu

العلمانية والوعي العربي: قراءة في كتاب وسام الفقعاوي

جواد العقاد

نشر هذا المقال في العدد 49 من مجلة الهدف الإلكترونية

تُعدُّ العلمانية من أهم المفاهيم في الفكر السياسي العربي، وقد أثير حولها الجدل والنقاش على مر العقود. وترتبط العلمانية بصورة وثيقة بمفاهيم أخرى سياسياً وفكرياً، مثل: الديمقراطية، الدولة، الحرية، والتجديد الديني. ومن المغالطات الكبرى التي تواجه العلمانية هو اعتقاد بعض الأشخاص، سواء كانوا منشغلين بالحقل السياسي أو الديني، أو حتى الجمهور العام، بأن العرب ليسوا بحاجة للعلمانية، نظراً لأن الإسلام هو الحل وأنه يجمع بين الدين والدولة. ويرى هؤلاء أن العلمانية نشأت ردة فعل ضد سلطة الكنيسة في أوروبا، وبالتالي فإنها لا تصلح للواقع العربي، حيث يعد الإسلام ديناً لا كهنوت فيه.

ومع ذلك، فإن الحقيقة تكمن في أن الخلافة الإسلامية حكمت بالحديد والنار مدة أربعة عشر قرناً باسم الإسلام، واحتكرت الدين بفهمها الضيق للدين. وبذلك تحوّل الدين (الإسلام) إلى سلطة سياسية تُرسخ لاتجاه ديني واحد، مما يولد قلقاً دائماً من أي تأويل جديد للدين. ولا نقول بأن الإسلام دين كهنوت، ولكن نقول إن الخطاب الديني السلطوي الذي يحتكر الدين لصالح السياسة يقدم قراءة واحدة للدين، ويغلق باب الاجتهاد ويرفض كل من يحاول تقديم تصور جديد عن الإسلام، وهو بذلك يشيد حصناً كهنوتياً حول رجال الدين.

منذ بدايات القرن العشرين سعى الباحثون العرب لتقديم رؤى جديدة حول الإسلام، وذلك انطلاقاً من جيل الشيخ محمد عبده ومن بعده علي عبد الرازق الذي نفى ارتباط الإسلام بالحكم السياسي، إذ لم يحدد الأول شكلاً معيناً للحكم بل رآه أمراً دنيوياً يخضع لمصالح الناس. وبهذا حاول علي عبد الرازق إرساء وعي جديد حول أهمية الدولة المدنية، خاصة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية التي لم تُقَدِّم للعرب سوى استخدام الإسلام وسيلة للحكم فقط. وإن جوهر الكهنوت، أو احتكار الحقيقة والحق، هو ما قدمه الإسلام السلطوي عبر قرون، واكتمل بصورة واضحة في الإسلام السياسي بوصفه صورة نهائية لتحالف الدين والسياسة. ومن هنا، تطمح العلمانية إلى فصل الدين عن السياسة وليس عن الحياة، ولا تعادي العلمانية الدين بل تعارض أي سلطة سياسية للمؤسسة الدينية أو الفكر الديني في الشأن العام، فهي تؤمن بأن الدين يمكن أن يكون جزءاً من الحياة الشخصية للفرد، ولكنه لا ينبغي أن يتدخل في قرارات الحكم والسياسة التي تخص المجتمع بأكمله. إنها رؤية تركز على إقامة نظام سياسي مبني على المبادئ العلمانية، والذي يكفل حرية المعتقد والتفكير للجميع، دون احتكار السلطة السياسية لأي جهة دينية أو فكر ديني.  

يمكن القول بأن العلمانية لا تستطيع أن تتأسس في المجتمع العربي بدون وجود أسس منهجية تسهل تحويلها من فكرة فلسفية إلى ممارسة اجتماعية، قبل أن تصبح نظاماً سياسياً. وبالرغم من أن قيم التسامح والعدالة والاعتراف بالآخر والدعوة للعقلنة والعلم تعد قيماً إنسانية شاملة لا تقتصر على العلمانية فحسب، إلا أن المثقفين العلمانيين يجب أن يعملوا على تعزيز هذه القيم وترسيخها في المفاهيم الجوهرية للعلمانية، بدءاً من المؤسسات التعليمية والثقافية والأكاديمية وحتى الأحزاب وقواعدها الشعبية. ومن الضروري عدم الانحصار في فلك النخبة وتحويل العلمانية إلى كهنوت فكري، وبدلاً من ذلك ينبغي على الفرد استيعاب المفاهيم الاجتماعية والسياسية التي تترابط مباشرة مع حياته اليومية، مثل: الدين والعلمانية والحرية، بوعي خاص فردي. وفي المحصلة، يجب أن تعمل الأطراف المختلفة في المجتمع العربي على تغيير السمعة السيئة التي ألصقتها بالعلمانية تياراتُ الإسلام السياسي، وأن تعمل على تحقيق التوافق والتعاون والتسامح بين جميع الأطراف.

العلمانية عند وسام الفقعاوي: نظرة عامة

بالتأمل في تاريخ الفكر السياسي، نجد العديد من الكتب والمؤلفات التي تناولت العلمانية من مختلف الجوانب، فقد بحث بعضها في مفهوم العلمانية وتاريخها، وأخرى في علاقتها بالدين. ومن بين هذه الكتب، كتاب "العلمانية في الحالة الفلسطينية: نقد السائد" للدكتور وسام الفقعاوي الذي يُعدّ مصدراً مهماً يتناول العلمانية مفهوماً تاريخياً واجتماعياً وسياسياً، ولا يقتصر على الجانب الفلسفي فحسب، بل يُناقش المفاهيم الأساسية للعلمانية، مثل: عدم التسلط الديني وحرية العبادة والمساواة بين الأديان والمعتقدات. ويقدم الكتاب أيضاً تحليلاً للعوامل الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى نشوء مفهوم العلمانية، وكيف تطورت هذه المفهومية في العالم الغربي.

يتناول الكتاب المفهوم الأساسي للعلمانية بوصفها أداة سياسية، حيث تسعى إلى تحقيق الحرية الدينية للمواطنين والحفاظ في الوقت نفسه على الحيادية في القضايا الدينية، ويركز على أهمية العلمانية في مجالات الحرية الدينية وحرية التفكير، إضافةً إلى الأهمية السياسية، ويؤكد المؤلف على أن العلمانية ليست مجرد مفهوم فلسفي، وإنما هي نظام سياسي يمكن من خلاله تحقيق الحرية والعدالة والمساواة للجميع، بما في ذلك المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء. ويضم الكتاب نقاشات حول المصطلحات المختلفة التي يمكن استخدامها لوصف العلمانية. ومن خلال هذا المقال، يمكننا استخلاص بعض النقاط المهمة حول مفهوم العلمانية وأهميته في تحقيق الحرية والعدالة في المجتمعات المختلفة.

ونستطيع القول إن كتاب الدكتور الفقعاوي "العلمانية..." مرجعاً مهماً لتفكيك مفهوم العلمانية وتطبيقه في الواقع، إذ يتميز باعتماد الكاتب على أمثلة تطبيقية واقعية لتوضيح أفكاره، مما يجعله مفهوماً وممتعاً للقراءة. ويتناول الكتاب تحليلاً للحالة العربية والإسلامية والفلسطينية بصورة خاصة، مقدماً نصائح ومقترحات لتطبيق مبادئ العلمانية في المجتمعات العربية. ويعد هذا الكتاب إضافة قيمة للمكتبة العربية في مجال الفكر السياسي والاجتماعي، حيث يساهم في النقاش العربي حول دور الدين في الحياة السياسية والمجتمعية، وكيفية تطبيق مبادئ العلمانية في هذا السياق.

ويشير الدكتور الفقعاوي إلى أن الذهنية العربية الجمعية تفتقر إلى مفهوم جديد للدولة، حيث ما زالت تجسد الاستبداد السياسي باسم الدين والخلافة على مدى قرون طويلة. ويؤكد أن العلمانية بلا ديمقراطية ستؤدي إلى حكم النخبة وتمييز الأفراد بناءً على انتمائهم الحزبي والسياسي، وهو ما لا يحقق كيان الإنسان. بينما يعتبر الدكتور الفقعاوي أن الديمقراطية تعد السبيل الوحيد لتحقيق كيان الإنسان وتحقيق العدالة والمساواة بين الجميع.

ومن هنا، يتعين على العقل العربي أن يتبنى مفهوماً جديداً للدولة يحرره من الأفكار الجامدة والتقاليد العقيمة، ويستفيد من التجارب الحضارية الأخرى، ويعمل على تعميق الوعي السياسي والديمقراطي في المجتمع. وينبغي للعقل العربي أن يكون له دور فعال في تحديد مستقبل المنطقة، من خلال التفكير الحر والتجديد الفكري والثقافي، والتخلي عن الأفكار الجامدة والتقاليد العقيمة.

وفيما يتعلق بالحالة الفلسطينية، يلاحظ الدكتور وسام الفقعاوي أنها واجهت تحديات خاصة نتيجة الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني الاستيطاني. ومن بين هذه التحديات كانت شكل وطبيعة الدولة ونصوص الدساتير التي ستنظم العلاقة داخلها، وحسم المرجعية الأيديولوجية للدولة وهويتها. ورغم ذلك، تمكنت فلسطين من الحفاظ على وحدتها وتماسك شعبها وأرضها.

لذا، يجب على العقل العربي أن يعتمد على النقد والتفكير النقدي المستمر، ويسعى للوصول إلى مفهوم جديد للدولة يعتمد على الحرية والعدالة والمساواة، ويحقق الكيان الإنساني. ينبغي أن يعمل العقل العربي على تطوير العلوم والمعرفة في مختلف المجالات، ويتبنى التجارب الحضارية الأخرى. كما ينبغي أن يكون له دور فعال في تحديد مستقبل العالم، وذلك من خلال التفكير الحر والتجديد الفكري والثقافي، والتخلي عن الأفكار الجامدة والتقاليد العقيمة.

ويرى الكاتب تطور الخطاب الديني في الحالة الفلسطينية بعد عام 1967، حيث ظهرت تعبيرات "العودة إلى الدين الصحيح" و"السلف الصالح" و"دولة الخلافة" بصورة قوية في الخطاب الأيديولوجي، بعد تراجع الحالة القومية والوطنية وظهور دور رجال الدين الذين ارتبطوا بحركة الإخوان المسلمين. ومن هنا، يؤكد الدكتور الفقعاوي أن الإسلام السياسي يلعب دورًا رئيسيًا في التحدي الذي تواجهه فلسطين، في حين ينحصر الخطاب القومي والوطني.

ويتحدث الدكتور الفقعاوي بالتفصيل عن العلمانية والخطاب الديني قبل وبعد النكبة، حيث يسلط الضوء على التحولات التي طرأت على الخطاب الديني بعد نكسة حزيران، وذلك لإبراز الدور الهام الذي يلعبه الدين في الحياة السياسية والاجتماعية في فلسطين. يُذكر أن الخطاب الديني المسيس في فلسطين يعكس التأثيرات الاجتماعية والسياسية على الدين، حيث يُستخدم لتعزيز الهوية الدينية والمطالب السياسية، ويُعَدُّ جزءاً من الحركات الإسلامية والتنظيمات الدينية المتنوعة التي تؤثر في الحياة العامة والقرارات السياسية في فلسطين.

في الختام، يمكن القول إن أحد أكبر الأخطاء في تاريخ الفكر السياسي والثقافة العربية عموماً، هو تبني النظريات الغربية كما هي دون أخذ الظروف المحلية والخاصة بها في اعتبار. على سبيل المثال، فإن العلمانية لن تحقق نجاحها في العالم العربي إلا إذا كانت تتبنى رؤية جديدة تأخذ في اعتبارها السياق الخاص والمتغيرات السياسية والاجتماعية في الحالة العربية.

والشرط الأساسي لتحقيق ذلك هو أن لا يكون هناك عداء للدين بأي شكل من الأشكال في هذه الرؤية العلمانية الجديدة، بالإضافة إلى ذلك، فإن نجاح أفكار التجديد والإصلاح الديني في العالم العربي سيسهم في تعزيز العلمانية وتطويرها لتكون قادرة على توجيه النظام السياسي والحياة العامة.

ومن المهم أن تكون الجهود الرسمية والشعبية مُكرسة لتجديد الخطاب الديني بمعزل عن التلاعب السياسي، حيث يمكن أن يكون لها تأثير واضح في تمكين إقامة دول مدنية تُحافظ فيها على حقوق الأفراد وتُنفذ فيها واجباتهم. إن تعزيز التجديد الديني والعمل على بناء خطاب ديني متجدد ومتوافق مع السياقات المحلية يمكن أن يكون مدخلاً لتعزيز العلمانية في الحياة السياسية والاجتماعية في الحالة الفلسطينية والعالم العربي بعامة.