Menu

معايير مزدوجة أم معيار واحد أوحد؟

وسام رفيدي

من أكثر التعابير استخداماً في الخطاب السياسي الفلسطيني الرسمي عند وصف السياستين الأوروبية والأمريكية، بانها تتبنى معايير مزدوجة عند النظر للمسألة الفلسطينية، وأحياناً يستعاض عنه بتعبير القياس بمكيالين. هل نحن حقاً أمام معايير مزدوجة أم إن المسألة عدم إدراك لجوهر هاتين السياستين، أو لنقل استخدام لتعبير دبلوماسي ملطف لا يقطع الجسور مع السياستين؟
إذا كان من الصحيح أن للدبلوماسية، في أحيان كثيرة، تعابيرها وصياغاتها وبالمجمل خطابها، وللسياسة والفكر تعابيرهما وصياغتهما وخطابهما، غير أنه من الخطورة بمكان تحول الخطاب الدبلوماسي لخطاب الفكر السياسي فنغدو حينها ليس أمام تشويه للحقائق فحسب، بل وتشويه لوعي المتلقي للخطاب وهو في هذه الحالة شعبنا.
لنأخذ مثلاً الموقف الأوروبي والأمريكي من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مقارنة بذات الموقف من الاستعمار الصهيوني. في الموقف الأول بلغ العداء لروسيا أوجه، وكذا الإجراءات العقابية التي تتلاحق منذ أكثر من سنة، وفُتحت الترسانة العسكرية الأوروبية والأمريكية أمام زيلينيسكي ونازييه، واصطبغ هذا العداء بخطوات وخطاب عنصري فج وصل حد مقاطعة الرياضة والفنون والموسيقى والغناء والثقافة الروسية، حتى بلغ الجنون العنصري حد اتخاذ جامعة إيطالية قراراً بشطب تدريس تولستوي من مقرراتها الأكاديمية، فيما جرى فتح الأبواب وتقديم المساعدات للأوكرانيين اللاجئين ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرق والخضر، فيما تقر خطوات للوقوف بوجه هجرة الأفارقة والأسيويين وهذا ما يجري في بريطانيا وإيطاليا وغيرهما مثلاً.
بالمقابل الاستعمار الصهيوني لم يقم بمجرد عملية عسكرية في فلسطين، ولا حتى مجرد غزو، بل ترحيل وتطهير عرقي من نتيجته ترحيل 850 ألف فلسطيني في العام 48 هم اليوم 7 ملايين لاجئ، واستعمار كل فلسطين وإغراقها بالمستوطنين المجلوبين من كل بقاع الأرض، وإدارة الظهر لعشرات القرارات الأممية التي يرفض الصهاينة الالتزام بها وبدعم أوروبي أمريكي في الأمم المتحدة.
ما الرد الأمريكي والأوروبي على كل العدوانية الاستعمارية الصهيونية: الإدانة والقلق، وفي أكثر الحالات تطرفاً التنديد الشكلي؟ 
لم تفرض عقوبات كما في حالة روسيا، ولم تشن الحرب على الاستعمار الصهيوني كما في حالة روسيا، حيث الأطلسي برمته رمى بثقله هناك في المعركة، لا بل تحولت دولة المستعمرين لترسانة عسكرية ضخمة بفعل الدعم الأمريكي والأوروبي، لا بل وتزويدها بمقدرات صناعة أسلحة نووية.
هل نحن والحال هذا، أمام معايير مزدوجة وكيل بمكيالين، معيار للموقف من روسيا وعمليتها العسكرية، ومعيار للموقف من المستعمر الصهيوني لفلسطين؟ نهائيا فالمعيار واحد. فالسياسة الأمريكية والأوروبية تحركها العقلية الإمبريالية ذاتها وإن اختلفت هذه عن تلك ببعض الرتوش، وعلى العموم كل الرهان على استقلالية ما لأوروبا عن أمريكا باءت بالفشل، فالسياسة الأوروبية مجرد تابع ذليل للسياسة الأمريكية ويتأكد هذا باستمرار، من حيث الجوهر، في الحالتين فلسطين وروسيا.
إنه معيار واحد، الهيمنة على مقدرات الشعوب ومنع تطور قوى معادية، أو بالحد الأدنى منافسة، للنفوذ الأمريكي والأوروبي الإمبريالي. (معيار الهيمنة المطلقة)، إن جاز التعبير، هو الذي حرك الأطلسي بفرعيه الأمريكي والأوروبي ضد روسيا منعاً لتحولها لقوة مواجهة للنفوذ الأمريكي وهو تحرك بدأ منذ انقلاب 2014، قوة تسعى لتغيير قواعد النظام الدولي الذي يضمن هيمنة الإمبريالية الأمريكية المطلقة، وهو ذات التوجه في إظهار العداء للصين وتصعيد الموقف ضدها، وهو ذات المعيار الذي يحكم الدعم المطلق الأوروبي والأمريكي للاستعمار الصهيوني في فلسطين، ضمان احتجاز تطور المنطقة العربية وضرب أية محاولات لتحررها من الهيمنة، وتحويل دولة المستعمرين لإمبريالية صغرى، حسب التعبير الموفق للراحل د. حبش، وأداة ضاربة بيد الإمبريالية الأمريكية. ويمكن ببساطة سحب ذات المعيار على الموقف الأوروبي والأمريكي من إيران وسوريا وحزب الله في لبنان: السعي الحثيث لضرب الجهود المتوجهة لبناء محور مقاوم للنفوذ الأمريكي والأوروبي والصهيوني دفاعاً عن الإمبريالية الصغرى ودورها في المنطقة واحتلالها لفلسطين.
إن السياسة الأمريكية والأوروبية في المنطقة لا يوجهها من حيث الجوهر المصالح الرأسمالية المشتركة بين الأوربيين والأمريكان والصهاينة فحسب، بل من حيث الجوهر الانتماء لذات المعسكر الأيديولوجي تاريخياً: معسكر الرجل الأبيض العنصري تجاه كل مَنْ هو خارج أوروبا، حتى الروسي يغدو آسيوياً وفق هذه النظرة العنصرية، وما دولة المستعمرين إلا دولة الإشكناز الصهاينة البيض.
لا معايير مزدوجة بل معيار واحد يحرك السياستين الأوروبية والأمريكية، هو العداء لطموحات الشعوب في الاستقلال، ومنها شعبنا، وايجاد موقع لها على خريطة العالم بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية.