Menu

معركة جنين.. شق في الجدار الحديدي

ثائر أبو عياش

في مقاله حول الجدار الحديدي يؤكد مؤسس اليمين الإسرائيلي "جابوتنسكي(1)" أن الشعب الفلسطيني لا يمكن اعتبارهم "أغبياء" عبر خدعاهم بنصوص لطيفة لتحقق الحركة الصهيونية أهدافها، أو حتى أن يتنازل الشعب الفلسطيني عن حقوقه مقابل بعض المال، مؤكداً أن قبول الشعب الفلسطيني بوجود الحركة الصهيونية لا يمكن إلا بالقوة العسكرية رغماً عن الفلسطينيين، ويضيف أن الشعب الفلسطيني ما دام لديه بصيص من الأمل للتخلص من الحركة الصهيونية فلن يبيعوا أمالهم.

تستند العقيدة الصهيونية بطبيعة الحال وخصوصاً اليمين الإسرائيلي على نظرية "جابوتنسكي"، حيث قال "نتنياهو" خلال أحد المؤتمرات التي أقامتها صحيفة "مكور ريشون"، وتحديداً في شهر تموز/يوليو 2019: "العظمة العسكرية هي أحد الأسس الجوهرية للجدار الحديدي الذي تحدث عنه جابوتنسكي"، ولذلك يسعى نتنياهو إلى استخدام القوة العسكرية ضد الشعب الفلسطيني، وهو لا يضيع فرصة في التأكيد على ذلك، فقد قال بعد موجة العمليات الأخيرة التي قام بها الفدائيون الفلسطينيون في شمال الضفة الغربية: "كل من يقتل إسرائيليين سيصل إما إلى السجن أو القبر".

يستخدم الاحتلال جدار "جابوتنسكي" في خريطته السياسية والأمنية والحكومية والبرلمانية والحزبية لتحطيم الإرادة الفلسطينية، وذلك عبر تعميق حالة اليأس والإحباط بالجدوى من مقاومة، ويمكن القول هنا أن الاحتلال نجح جزئياً في ذلك عندما قام في عام 1993 بجر قيادة حركة فتح إلى توقيع اتفاق أوسلو، وما زال يسعى لتفريغ الأمل من الأحزاب والحركات الفلسطينية المتبقية، مستنداً في ذلك بالطبع إلى نظرية جابوتنسكي التي قال فيها: "فقط عندما لا يبقى في الجدار الحديدي أيّ شق، لا يبقى لديهم بصيص أمل. عندها ستفقد المجموعة المتطرفة، وشعارها الرفض المطلق، قوتها، وبدلاً منها سيأتي إلينا الفريق المعتدل ويبدي استعداداً للتنازل والمساومة، والطريق الوحيد للوصول إلى اتفاق هو الجدار الحديدي".

بناء عما سبق كان قرار معركة جنين بالنسبة للمؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية هو قرار حتمي للحفاظ على قوة الجدار الحديدي، فقط بات يُشكل المخيم قاعدة لانطلاق الفدائيين وشنّهم هجماتٍ من داخل المخيم قامت بقض مضاجع الاحتلال، ولذلك سعت قوات الاحتلال من خلال هذه العملية إلى تدمير قوة المقاومين، حيث حاولت العمل أيضاً على زعزعة ثقة المقاومة أولاً بنفسها، وثانياً زعزعة ثقة الحاضنة الشعبية بجدوى المقاومة، والدليل أن قوات الاحتلال بدأت العمل لحظة انطلاق المعركة على تحطيم البنية التحتية لمخيم جنين، ولكن أفشل احتضان الحاضنة الشعبية للمقاومة وأكثر صمودها هذا المخطط الذي كان في جعبة الاحتلال.

صنعت معركة جنين شق في "الجدار الحديدي" جعلتهُ آيل للسُّقوط، ووضعت الأمل على مائدة الانتصار من جديد، فقد قامت بتحطيم حالة اليأس والإحباط التي كانت تسود الشارع الفلسطيني وتحديداً في الضفة الغربية، حيث حالة جديدة تطورت بعد هذه المعركة لتؤكد أن المقاوم الفلسطيني قادر على هزيمة جيش الاحتلال وتحقيق الانتصارات.

أكد الفدائيون خلال هذه المعركة أنه ليس بالسلاح وحدة ينتصر الإنسان، فقط كانت المقاومة تخوض معركة هي معركة صراع الإرادات بالدرجة الأولى، وأكثر إن المقاومة لم تكن تسعى لتحقيق انتصار عسكري على العدو فقط، بل كانت تسعى أكثر في الخفاء لتثبيت نفسها كمعادلة صعبة لا يمكن كسرها.

إن صمود الفدائيين وقتالهم وعدم تراجعهم أمام تفوّق الاحتلال عليهم في العدد والعتاد، والتمتع بالروح المعنوية، والإعداد الاستراتيجي لهذه المعركة، ودور الحاضنة الشعبية كان لهم الدور الأكبر في صمود المقاومين داخل مخيم جنين وإفشال الاحتلال في تحقيق أهدافه عبر هزيمة هذا الجيش الذي خلف أعداداً من الآليات المدمرة والمعدات العسكرية.

لقد سعت قوات الاحتلال إلى الوصول لمخازن الأسلحة داخل المخيم، ولكنها فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً، حيث صمدت المقاومة واستطاعت الاشتباك طوال المعركة، حيث وقع الاحتلال في مستنقع جنين بفعل العبوات الناسفة، والكمائن الصعبة التي زعزعت صورة الردع التي كان يسعى لها، يضاف إلى ذلك زعزعة صورة الجيش الذي لا يقهر أمام الوسط الصهيوني، هذا الجيش الذي بدأ العملية بتوقيته، ولكن المقاومة استطاعت تحديد موعد انتهاء المعركة بتوقيتها.

إن الانتصار الذي حققته المقاومة الفلسطينية في جنين أدى إلى حدوث طفرة هائلة في الدعاية والدعم للمقاومين، كتلك التي حققتها المقاومة والجيش الأردني بعد "معركة الكرامة(2)"، وفي سياق مختلف يمكن القول: أن تخوف المؤسسة الأمنية والسياسية لدى الاحتلال في تحول جنين إلى غزة حدث بالفعل من خلال العملية التي قام بها، حيث صمود المقاومة رغم القصف الجوي، والاجتياح البري، واستخدام جيش الاحتلال أكثر من 30%(3) من قدرات جيشه لاجتياح جنين أعاد الذاكرة والسيكولوجية الجماهرية الفلسطينية إلى ما كان بالفعل يحدث في غزة، وأعتقد أن تحقيق المقاومة هذا الانتصار النوعي لعب دور كبير في مواجهة كي الوعي بجدوى المقاومة، وأن الشعب الفلسطيني قادر على تحقيق المستحيل في ظل صراع الوجود القائم مع الاحتلال.

إن ما حدث في جنين يمكن تكراره مرة أخرى، سواء في جنين أو في مدن أخرى، حيث المقاومة تؤمن أن الضفة هي ساحة من ساحات المواجهة، وفي البعد الاستراتيجي للصراع هي الساحة الأهم من حيث التأثير على العدو لأنها ساحة "حرب التحرير الشعبية"، وفي المقابل يسعى الاحتلال لإيقاف نمو هذه الطفرة داخل الضفة، حيث يدرك الاحتلال أنه يواجه شعب بأكمله وهذا ما لا يمكن السيطرة عليه، حيث كانت العملية التي ضربت العمق الصهيوني، والتي قام بها الشهيد" عبد الوهاب" في ما تسمى "تل أبيب" دليل على ذلك، فقد كان لهذه العملية دلالات من حيث توقيتها وأكثر مكانها في حسابات الاحتلال.

من زاوية أخرى لمعركة جنين يمكن القول: إن من يحمي الشعب الفلسطيني اليوم هو المقاوم الفلسطيني، ذلك المقاوم الذي تعرض للعطش وهو يقاوم، حيث ذهب إلى أحد الثلاجات أمام أحد البقالات المغلقة بفعل الحصار، وقام بالحصول على الماء والعصير دون إذن صاحبها، ولكنه بالمقابل قام بوضع ثمنها داخل الثلاجة، وفي سياق متصل فإن غياب السلطة الفلسطينية عن هذه المعركة ليس بالشيء الجديد، وأكثر إن قرار "وقف التنسيق الأمني" كرد على هذه العملية ليس كافياً، حيث قرار وقف التنسيق الأمني لا يحتاج إلى عملية كالتي حدثت في جنين، لأن التنسيق الأمني هو معضلة بالأساس منذ بدء العمل به.

أخيراً وليس آخَراً، استخدام الاحتلال أسلوب المباغتة أو ما يعرف "بعنصر المفاجأة(4)" في الحملة العسكرية على مدينة جنين وتحديداً "مخيم جنين" لتحقيق الأهداف التي كان يسعى إليها، وأبرزها كما تحدثنا استعادة صورة الردع للجدار الحديدي، ولكنه عاد بعد أن انقلب السحر على الساحر يجرُّ أذيال الخَيْبَة والهزيمة، وأكثر كان يعتقد أنه قادم إلى جنين في نزهة داخل الحديقة "مخيم جنين"، لتتحول تلك النزهة من خلال اشتباك ملحمي خَاضَتْهُ المقاومة إلى فاجعة لدولة الاحتلال "المنزل" بعد أن أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.

***

1. جابوتنسكي: فلاديمير جابوتنسكي واسمه الكامل هو زئيف فلاديمير جابوتنسكي، هو قيادي في الحركة الصهيونية ولد في أوكرانيا في 17 أكتوبر 1880.

2. معركة الكرامة: هي اشتباك مسلح لمدة 15 ساعة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والقوات المسلحة الأردنية، ومنظمة التحرير الفلسطينية في بلدة الكرامة الأردنية في 21 آذار 1968، حين حاولت قوات الكيان الصهيوني احتلال نهر الأردن لأسباب يعتبرها استراتيجية، وقد عبرت النهر فعلاً من عدة محاور مع عمليات تجسير وتحت غطاء جوي كثيف. فتصدى لها الجيش الأردني على طول جبهة القتال من أقصى شمال الأردن إلى جنوب البحر الميت بقوة. وفي قرية الكرامة اشتبك الجيش العربي والفدائيون مع القوات الإسرائيلية، في معركة استمرت قرابة الخمسين دقيقة. واستمرت بعدها المعركة بين الجيش الأردني والقوات الإسرائيلية أكثر من 15ساعة، مما اضطر الاحتلال إلى الانسحاب الكامل من أرض المعركة تاركين وراءهم ولأول مرة خسائرهم وقتلاهم دون أن يتمكنوا من سحبها معهم. وتمكن الجيش الأردني من الانتصار على القوات الإسرائيلية وطردهم من أرض المعركة مخلفين ورائهم الآليات والقتلى دون تحقيق الكيان الصهيوني لأهدافه.

3. قال الخبير العسكري "واصف عريقات"، بأن الترسانة العسكرية التي استخدمها الاحتلال في مخيم جنين، "وفقا للعلم العسكري" استخدم في المواجهة جيش لا يقل تعداده عن 5 آلاف عسكري، وجبهة عرضها يصل 20 كيلو متر، ومخيم يقوم فوق نصف كيلو متر مربع يقطنه مدنيون عزل، وفيه بعض المقاتلين الذين يتسلحون ببنادق متواضعة، مشيرا الى أن الاحتلال استخدم 30-40% من قدرات جيشه في اجتياحه مخيم جنين.

4. عنصر المفاجأة أو الهجوم الخاطف أو تكتيك الصدمة: هو مناورة هجومية في المعارك، والذي تقوم فيه القوات المهاجمة بالهجوم بقوات كبيرة وبأقصى سرعة. الهدف من هذا التكتيك: توجيه ضربة مباشرة قوية ضد العدو، تهدف إلى كسر تشكيلاته وتحطيم معنويات جنوده.