Menu

أحمد سعدات.. لماذا هذا الاستثناء؟

ثائر أبو عياش

يُعدّ النظامُ الداخلي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بمثابة العقد التنظيمي الذي ينظّم العلاقة بين أعضاء الحزب، ويرسم ملامحها وأشكالها، وأيضًا بين الحزب والجماهير الشعبيّة، بالإضافة إلى أنّ النظام الداخلي هو بمثابة "نصوص" ليست جامدة، بل تحمل في طيّاتها المرونة باعتبارها لوائح داخليّة، والقدرة على مواكبة التطوّرات على الأصعدة كافة، وخاصّةً أنّ هذه النصوص تقوم بترتيب الهيكليّة الداخليّة للحزب بما يتناسب مع ضرورة متطلّبات القضيّة الفلسطينيّة وما يخدم أهدافها.

تؤكّد نصوص النظام الداخلي للجبهة الشعبية أنّ المدى القصوى لإشغال عضويّة موقع "الأمين العام" يجب ألا تتجاوز دورتين متتاليتين (عشر سنوات)، وهذا ما أثار بعض النقاش حول تجديد عضوية موقع الأمين العام مرّةً أخرى للأسير "أحمد سعدات"، حيث تجديد العضوية بحسب النظام الداخلي يعدّ عدم احترام للّوائح الداخليّة، كما وصفها البعض، وأنّ هذا التجديد يُعبّر عن عدم التجديد في ديناميكيّة الحزب التنظيميّة، وخصوصًا أنّ الجبهة الشعبيّة تؤمنُ بضرورة ضخّ دماءٍ شبابيّةٍ داخل هيئاتها القياديّة، حيث عبّرت الجبهة عن ضرورة وجود فئة الشباب مع خبرة القدماء من أجل صوابيه القرار الحزبي، بل إنّ هذا التجديد لا يتناسب مع ما كان يدعو له الأمين السابق الشهيد " أبو علي مصطفى " الذي قال: "من لا يتجدّد حتمًا يتبدّد".

هنا يُطرح السؤال التالي: "هل احترام القانون الذي تم صياغته لخدمة القضية الفلسطينية يتطلب أن يُترك أحمد سعدات دون احترام تاريخه ونضاله في ظل - إذا جاز التعبير - التقصير معه؟ وللإجابة عن هذا السؤال في مقابلةٍ سابقةٍ له عبر نائب الأمين العام للجبهة الشعبية "جميل مزهر" بالقول(1(: "إنّ رمزية أحمد سعدات تتطلب الوفاء لتاريخ هذا الرجل، حيث يعدّ أحمد سعدات أيقونةً للمقاوم، ولن تسمح الجبهة أن يقوم الاحتلال بالاستفراد بأمينها العام، وتجديد العضوية لسعدات هي بمثابة الوفاء له، وأكثر، هي رسالةٌ أخلاقيّةٌ لنضالات هذا الرجل".

على النقيض ممّا قاله "جميل مزهر" يقول "أحمد سعدات"(2( بعد تجديد الأمانّة العامة، التي جاءت نتيجةً لعقد المؤتمر الثامن(3(: " كنت أفضّل إعفائي من هذه المهمّة لسببين؛ الأوّل احترامي لنصوص النظام الداخلي للجبهة الذي لا يجيز بأن يشغل أي رفيق موقع الأمين العام أكثر من دورتين، والثاني أنّ الخيار الأفضل والأكثر عمليّة هو إسناد هذه المهمة لرفيقٍ حر وعلى رأس العمل المباشر".

على الرغم من رؤية "أحمد سعدات"، أو ما عبّر عنه باحترام النظام الداخلي، إلا أنّه قرّر تحمّل مسؤوليته أمينًا عامًّا، وعلى الرغم من أن من يتحمل العبء الأكبر في قيادة الجبهة الشعبية هو نائبه "جميل مزهر"، وعليه يمكن القول إنّ موقف الجبهة من تجديد عضوية الأمين العام للأسير "أحمد سعدات" هو بمثابة الثقة بتاريخ رجلٍ أفنى حياته ثمنًا لقرار وجوده بالمقاومة، بالإضافة إلى وجود رسالةٍ سياسيّةٍ بالحفاظ على أحمد سعدات على رأس هرم الجبهة الشعبيّة مفادُها ألا يترك "سعدات" دون الحفاظ على تاريخه السياسي، وأكثر مواقفة السياسيّة، وهذا ما يؤدّي دورًا في الحفاظ على تاريخ الجبهة الشعبيّة بالدرجة الأولى.

إنّ التمسّك بأحمد سعدات هو بمثابة التمسّك بمن قام بترجمة شعار "الرأس بالرأس (4)" حيث تركت هذه الكلمات بصمةً واضحةً ونوعيّةً في تاريخ الصراع مع الاحتلال، بالإضافة إلى أن "الكاريزما" التي يتمتع فيها "أحمد سعدات" تتطلب الحفاظ على وجود هذا الرجل على رأس قرار الجبهة الشعبيّة، ويضاف إلى ذلك تأكيد الجبهة الشعبية على أن واقع الصراع مع الاحتلال يتطلّب أحيانًا أن يكون الحفاظ على قرار المقاومة أهم من الحفاظ على ديمقراطية اللوائح الداخلية.

تُعدّ شخصية "أحمد سعدات" شخصية فريدة، ونادرة؛ لأنّه يمثّل "محامي دفاع عن الشعب الفلسطيني (5)"، حيث رفض الوقوف للمحكمة العسكرية والاعتراف بشرعيتها (6)، وعاش هذا الرجل بشكل زهيد عن ترف الحياة، ولم يتنازل يومًا للمظاهر التي تعبّر عن التبعيّة للنظام الرأسمالي، ولم يُغيّر منصب "الأمين العام" شيئًا في شخصيته، حيث مارس نضاله جنديًّا مقاتلًا دون استخدام هذا المنصب لطموحاتٍ فرديّة، ولم يتنحَ يومًا أيضًا عن ممارسة دوره في المقاومة؛ لأنّه لم يكن قصير النفس رغم حجم الضغوطات الواقعة عليه.

يقول الفيلسوف نيتشه (7): "الشاي نافع في الصباح فقط، ومن الأفضل تناوله بكميات قليلة وأن يكون ثقيلًا، إن الشاي يصبح مضرًّا ومجلبًا للكدر طوال اليوم إذا ما كان خفيفًا أكثر من اللازم"، وهذا ما كان يفعله "أحمد سعدات" الرجل المغرمُ بالشاي، وفي هذا الصدد يقول الأسير "حسن سلامة"(8) في رسالة كتبها عن "أحمد سعدات": "كنت كل يوم أنتظر برّاد الشاي الذي يصنعه أبو غسان، ويأخذ منه كاسًا ويترك الباقي حتى أستمتع بشربه"، وتحدثنا مثل هذه القصص عن الأشياء البسيطة التي يُحبّها "أحمد سعدات".

مثل القادة الذين يؤمنون بتحقيق العدالة لشعوبهم يترك "أحمد سعدات" بصمة تؤدي دورًا مهمًّا في تغيير شخصية كلّ من يعيش معه، وهنا يمكنني القول إنني التقيت "أبو غسان" في "سجن الرملة" أو ما يطلق عليه الأسرى "معبار الرملة" عام 2010، وعند محاولتي مساعدته في ترتيب فراشه، رفض ذلك بشكلٍ صريحٍ وقال: "أنا أمتلك اليدين والقدمين وأستطيع ترتيب فراشي"، واستمر النقاش معه وكان يتمحور حول مرحلة التحقيق، وهنا قال لي كلمات حفرت عميقًا بداخلي حيث قال: "عندما يطرق الاحتلال باب البيت عليك، أدرك أنّك منذ هذه اللحظة في مرحلة تحقيقٍ حتى يتم الإفراج عنك، وخلال هذه المرحلة عليك عدم التحدّث عن نشاطك المقاوم حتى لو من طرح السؤال هو أحمد سعدات نفسه".

*****

1. مقابلة مع نائب الأمين العام للجبهة الشعبية "جميل مزهر"، 4 يوليو 2022. الميادين: بإيجاز، https://www.youtube.com/watch?v=WsCutKPJ548.

2. مقابلة مع الأمين العام "أحمد سعدات"، 30 أبريل 2023، حوار شامل مع صحيفة الخبر، بوابة الهدف الإخبارية، https://hadfnews.ps/post/117757/

3. في 25 أيّار/ مايو 2022، عقدت "الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين" مؤتمرها الوطني الثامن" بعد انقطاعٍ دام تسع سنوات من موعد آخر مؤتمر لها.

4. وعد "أحمد سعدات" الشهير والذي قال فيه بعد اغتيال الشهيد "أبو علي مصطفى:" لن نستحق احترام الشهداء، ولن نستحق احترام شعبنا؛ شهدائه من قادته أطفاله وشيوخه ونسائه، إذا لم يكن شعارنا: العين بالعين والسن بالسن والرأس بالرأس. فعهداً لك يا رفيقنا أبو علي، عهداً لك يا معلمنا، عهدًا لك يا رمزنا، عهدًا لك يا عنوان عزتنا، ألا يكون شعارنا أقلّ من الرأس بالرأس؛ هذا لكم يا كتائب الشهيد أبو علي مصطفى".

5. متراس، 10 ديسمبر 2022. أحمد سعدات: سيرة "الرأس بالرأس".

6. 12عامًا على محاكمة القائد أحمد سعدات، 25 ديسمبر 2020. مجلة الهدف، النص الكامل للكلمة التي قالها الأسير "أحمد سعدات" داخل المحكمة.

7. فريدريش فيلهيلم نيتشه: فيلسوف ألماني، ناقد ثقافي، شاعر وملحن ولغوي وباحث في اللاتينية واليونانية، كان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث.

8. حسن سلامة: أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية، من سكان خان يونس جنوب قطاع غزة، اعتقل في الخليل عام 1996، وحكم عليه بالسجن 84 مؤبدًا وثلاثين عامًا (1175 عامًا).