Menu

تمرّد فاغنر.. قراءةٌ في الداخل الروسي

محمد أبو شريفة

نشر هذا المقال في العدد 52 من مجلة الهدف الإلكترونية

رسمتْ وسائلُ الإعلام الغربيّة صورةً سوداويّةً قاتمةً عن الأوضاع التي جرت في روسيا عشيّةَ تمرّد مجموعة (فاغنر) العسكريّة الخاصة 24 يونيو/حزيران الماضي، والاشتباكات التي كادت أن تحدث مع الجيش الروسي، لكن هذه الصورةُ القاتمةُ استدعت ردود أفعالٍ روسيّةٍ جاءتْ مغايرةً، ومن الواضح أنّ الإعلام الغربيّ تكلّم بما يشتهي أن يحدث، وليس بما حدث فعلًا.

فقد كانت الوقائعُ تكذّبُ كلَّ معطيات العالم الغربي، وخير دليلٍ على ذلك أنّ الوضع الداخلي الروسي لم يهتزَّ قيد أنملة، وأيضًا ساحة الحرب لم تتأثّر بالهجوم الأوكراني المضادّ الذي بدأ منذ نحو شهرين، بل على العكس من ذلك، بقيت الساحة كما هي. ووفقًا لأرقام وزارة الدفاع الروسية، بين بداية يونيو/حزيران الماضي و9 يوليو/تموز، فقدت أوكرانيا ما يقرب من 1250 مركبةً مدرعةً (بما في ذلك الدبابات)، وما يقرب من 950 مركبةً عسكريّةً أخرى، و29 قاذفةً مدفعيّةً صاروخيّة، و425 قطعةَ مدفعيّة وقذائف هاون، ونظامين للدفاع الجوي، وأكثر من 500 طائرة دون طيار، و22 طائرة، و6 طائرات هليكوبتر.

وراهن الكثير من المراقبين على إمكانية نشوب حربٍ أهليّةٍ لا تبقي ولا تذر، وتهدد وحدة البلاد التي يعيش بها 190 مجموعةً عرقيّةً، وتستنزف قدراتها، خاصّةً بعد تقدّم مئات الآليات العسكريّة تجاه العاصمة موسكو، وإشاعة أخبارٍ عن مغادرة الرئيس الروسي مقرّه في العاصمة تجاهَ مدينة سانت بطرسبورغ، حينها استولت قوات مجموعة (فاغنر) العسكريّة الخاصّة، على مقرّ المنطقة العسكريّة الجنوبيّة في مقاطعة روستوف على نهر الدون، وأقامت الحواجز على مداخل المدينة ومخارجها، وهدّدت بعدها بالتقدّم نحو موسكو، لإسقاط القيادة العسكريّة في وزارة الدفاع، ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تصرفات المتمردين بأنّها مغامرةٌ إجراميّةٌ وطعنةٌ في ظهر روسيا وخيانة، وفتح جهاز الأمن الفيدرالي الروسي قضيّةً ضد يفغيني بريغوجين مؤسس (فاغنر) بموجب تهمة تنظيم "عصيانٍ مسلّح".

لقد أشاع الغرب ادّعاءاته ووظّفها في محاولةٍ لإحداثِ اختراقٍ فعليٍّ في بنية الدولة الروسيّة وعلاقتها الداخليّة، فتجنّدت وسائل الإعلام الغربيّة المرئيّة والمسموعة والمكتوبة في نشر تقاريرَ زائفةٍ تتحدّث عن صدعٍ كبيرٍ في بنية الدولة الروسية، وأن الرئيس بوتين يمر بأوقاتٍ صعبة، رغم أن الإعلام الغربي وصف محاولة التمرد "بأقصر محاولةٍ انقلابيّةٍ في التاريخ". ومن المرجح أن كل هذا الضخ الإعلامي كان يهدف إلى إسناد الجبهة الأوكرانية، وربما كان تمرد (فاغنر) بدايةً لحملةٍ واسعةٍ تستهدف وحدة البلاد، بحيث لا يستطيع أحد إيقافها إلا أن احتواء الكرملين لهذا التمرد وبمساندة بعض المقربين من السلطة في موسكو لا سيّما الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو أدّى إلى محاصرة الأمر الذي كاد أن يقع ويذهب بالأحوال إلى تعقيداتٍ مجهولة المصير وخساراتٍ جسيمة. وقال في بيان له: إنّه "يوجد خيار مقبول ومريح لحل الموقف مع ضماناتٍ أمنيّةٍ لمقاتلي فاغنر"، وذهب البعض إلى التساؤل: لماذا قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالوساطة بينه وبين قائد ميليشيا انقلابية؟ هل هو حقنًا للدماء، كما صرح قائد (فاغنر) بريغوجين؟ أم كانت الخطوة لقطع الطريق أمام داعمي (فاغنر) من الخارج؟ لا سيّما أن المراقبين يعلمون جيّدًا بأنّ روسيا لم تخسر أي حربٍ خارج حدودها؛ فالحروب التي تؤثّر عليها هي حروبها من الداخل، واتفقت مجموعة من المحللين الغربيين على أن تسوية الأمر وإخماد التمرد على وجه السرعة لا يعدو أن يكون مرحليًّا، وأن الضرر قد لحق بالفعل بصورة بوتين وبحكمه وسيكون لها تداعياتها.

وضمن معادلة درء الخطر ورد الفعل المنتظر كان هنالك تنازل من الطرفين، حيث لاحظ الجميع تنازل بريغوجين عن كل شيءٍ يتعلّق بفاغنر بعد تورطه بعملية التمرد وتم إبعاده خارج البلاد. وفي المقلب الآخر تحفّظ أنصار بوتين على الأسلوب الذي تعامل به في هذه القضية الخطيرة مع بريغوجين، والتوقّعات تقول بتراجع شعبيته بحسب مراقبين؛ لأنه لم يعتقله ويعاقبه. لكن الغالبية ترى أن مثل هذا النوع من التنازلات يتم من أجل مصلحة البلاد والحفاظ على استقرارها. ومن ثَمَّ وفقًا للشعب الروسي فقد انتصرت روسيا الدولة بعدم نشوب حربٍ أهليّةٍ مدمرة، وطمأن بوتين الشعب بتصريحاته وأكد عن بالغ ثقته بنجاح خطط بلاده في اوكرانيا، وأنّه "لا يغفر الخيانة" بأي شكلٍ من الأشكال، خاصّةً أنّها تمسُّ أمن روسيا القومي ومكانتها باعتبارها دولةً كبرى على الساحة العالمية. لذلك تم التنازل عن ذلك ضمن حدود وسقف معينين، حتى إن بعض المصادر المطلعة، قالت إنّ بوتين رفض خروج بريغوجين إلى السعودية أو الإمارات أو تركيا، فقد أراد أن يبقى في بيلاروسيا؛ لأنّها حليفة لموسكو وستبقى (فاغنر) تحت المراقبة الروسيّة رغم أنّه مبعد، ولم تلبث حرب التصريحات أن تأخذ مداها حتى صب بريغوجين جام غضبه على توجيه الاتهامات ضد القيادة السياسية الروسية وضد وزير الدفاع ورئيس الأركان وطالب بمحاسبتهما والتشكيك بنتائج الحرب على أوكرانيا حتى إنّه وصف حلف الناتو "بالصديق ولا يشكّلُ خطرًا على روسيا"، ما يشير إلى توتّرٍ شخصيٍّ بينه وبين وزارة الدفاع الروسيّة بقيادة سيرغي شويغو؛ الأمر الذي انعكس على الأرض بمحاولة تمرّدٍ سرعان ما فشلت.

 وعملت فاغنر سنواتٍ مجموعةً لتقديم خدماتٍ أمنيّةٍ لأنظمة دولٍ في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا، وفي الآونة الأخيرة كانت تتجه نحو أميركا اللاتينيّة ومنطقة البحر الكاريبي، وتضمّ فاغنر أكثر من 30 ألف مقاتل.

وبعد مرور أسابيع على حادثة التمرد وفشل الهجوم الأوكراني المضاد تراجعت وسائل الإعلام الغربية من حدتها، لكنّها بقيت تعزف على الإيقاع نفسه، فهي تتحدّثُ بغير الوعي الغربي عبر أمنياتٍ تكاد تكون مفارقةً للواقع، فإذا دقّقنا في الوضع الداخلي الروسي وعبر مؤشّراتٍ عدّة نجد أنّ روسيا ما تزالُ ترسمُ استراتيجيّاتها بالتعامل مع الغرب، والتعامل مع ميادين الحرب في أوكرانيا بالإيقاع ذاته، وتشهد العديد من المؤشّرات على ذلك، حيث نلحظُ أنّ المؤشّر الاقتصادي الروسي يؤكّد على متانة القدرة الاقتصاديّة رغمًا من  كل الحصار المضروب والعقوبات المفروضة عليه، فهو ما يزال اقتصادًا حيويًّا وقادرًا على الثبات والتطوّر، فيما المؤشّر العسكري يؤكّد أنّ المؤسسة العسكريّة الروسيّة قادرةٌ على صدّ الهجمات الأوكرانيّة المدعومة غربيًّا، وحتى الإعلام الغربي يتحدّث عن فشل هذا الهجوم وهزالة الجاهزيّة العسكريّة الغربيّة في ساحة المعركة، واستمرار نقل أسلحةٍ متطوّرةٍ أو محرّمةٍ دوليًّا إلى أوكرانيا من شأنه إجبار روسيا على اتّخاذ إجراءاتٍ للرد، وتاليًا لن يؤثّر على مسار العمليّة العسكريّة الخاصّة. أمّا المؤشّر السياسي، فكل الدلالات تؤكّد أن السلطة السياسيّة بقيادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما تزال تمسكُ بكلّ خيوط اللعبة.

 وأمام تلك المؤشّرات جميعًا يتساءل المراقبون عن جدوى استمرار الحرب دون قيودٍ، فمن المؤكّد أنّ الغرب استنزف مخزونه الاقتصادي والعسكري والسياسي مستخدمًا ساحة أوكرانيا لإخضاع روسيا، وفرض شروطٍ وإملاءاتٍ عليها، وبعد أن تجاوزت الحرب الـ 500 يوم وأكثر، بدأت بعض ملامح اللغة العقلانيّة تظهر خاصّةً بعد تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن الأخيرة في قمّة الناتو، التي أشار فيها إلى استحالة قبول عضوية أوكرانيا في الناتو في ظلّ الحرب، وبرّر الاستحالة بالقول: إنّ قبول العضويّة يجبر دول الناتو على خوض حربٍ مع روسيا، وهذا غيرُ مطروحٍ على الطاولة. وبهذا الشأن قال زيلينسكي، إنّ "الرئيس الأمريكي، جو بايدن، يمكن أن ينهي النزاع في أوكرانيا في غضون خمس دقائق فقط"، واستدرك قائلًا: إنّ ذلك سيكون على حساب التنازل عن أراضينا، لكن كييف لن توافق على مثل هذه الخطوة، على حدّ قوله.

واعترفت جميعُ وسائل الإعلام الأميركيّة ومعظم الغربيّة الرئيسيّة بأنّ الهجوم المضاد لأوكرانيا قد تعثّر، مع فشل كييف وحلف شمال الأطلسي في التأثير على الخطوط الدفاعيّة الروسيّة؛ الأمر الذي دفع واشنطن مؤخّرًا إلى الموافقة على إرسال القذائف العنقوديّة المحظورة دوليًّا إلى زيلينسكي، لتعويض نقص الذخائر لديه، وسط انتقادٍ ولومٍ أوكراني مستمرٍّ للحلفاء الغربيين؛ بسبب بطء وصول الأسلحة، ما يعيق بدء الجيش الأوكراني بشنّ هجماته في مناطقَ عدّة.

 وضمن السياق تعالت أصواتٌ غربيّةٌ تنتقد الدعم الغربي غير المحدود لأوكرانيا في ظلّ الإخفاق العسكريّ في ساحة المواجهة، فبعد أكثر من أربعين يومًا على الهجوم المضادّ تتحدّث القوّات الأوكرانيّة عن استعادة 194 كيلومتر مربع فقط من إجمالي مساحة مئة ألف كيلومتر مربع تمّت السيطرة عليها من الجيش الروسي، ونتساءل بداهةً هنا كم يلزم القوات الأوكرانيّة من الوقت لاستعادة كامل الأرض؟!

وثمّةَ مؤشّراتٌ واضحةٌ تدلُّ على خفوت الصوت المنادي باستمرار المعركة، وتشير بعض التقارير إلى مطالبة أوكرانيا بالنزول عن الشجرة والدخول في عملية تفاوضٍ دون شروط.

أمامَ كلّ هذه المعطيات الماثلة اليوم بالإضافة إلى كون روسيا هي إحدى الدول العظمى التي تحتفظ بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وهي من دول حقّ النقض الفيتو إلى جانب الولايات المتّحدة الأميركيّة والصين وفرنسا وبريطانيا، وعلى مجريات الحرب في أوكرانيا، ومحاولة التمرّد الفاشلة تنتقل المواجهة بينها وبين الغرب إلى مرحلة توتّرٍ جديدةٍ ربّما تنذر بحربٍ لا تقتصر على روسيا وأوكرانيا فقط، فمن المؤكّدُ أن الدولة الروسيّة وعلى الرغم من كل المآزق والمصاعب التي تمر بها إلا أنّها قادرةٌ وحدَها على إدارة المعركة مع الغرب مجتمعين.