الإنسان من حيث التكوين والخلق مبنيا وفق امكانات تحددها مجموعة من السلطات أو المحركات، هذه الأخيرة تكاد تخرج عن سياق إرادته الفردية لترتبط بالإرادة الجمعية التي تؤلف وعي البشر وتحيط جميع تصوراتهم، ومن ثم تتحدد هناك الأطر والأنظمة التي تحكم هذا السلوك أو ذاك، حسب طبيعة المجتمع وما يحمل من تراكمات واحداث تاريخية ومعرفية وامكانات راسخة الجذور، سواء تلك المؤصل فيها وعي العنف وجميع ترددات الذات البشرية التي لا تعرف التسامح مع الذوات الأخرى أو تلك التي تنتمي إلى وعي الحرية والتمدن والإيمان بالإنسان، كقيمة عليا سامية، فالثقافة من حيث تركزها لدى الإنسان تؤدي الفعل الحضاري الذي يعمل على عدم تشظ الإنسان إلى بؤر ومراكز تحد من سيطرته على مجمل ما يحيطه، من أفعال وأحداث وامكانات تقوده إلى مجموعة من الأشكال والصور المختلفة والمتناقضة فيما بينها، وهكذا وفقا لرسوخ الثقافي داخل المجتمع وقدرته على تأسيس الشروط التي تساعد على تأصيل الحضارة والفهم الإنساني الأفضل القائم على الحوار واللقاء والتكامل مع المختلف أكثر من تأسيس قابليات للرفض والاقصاء، ومن ثم ممارسة التطرف والعنف إزاء الأفراد عموما.
وسأنطلق من هنا؛ للتماهي في وضع الثقافة الوطنية الفلسطينية الراهنة؛ التي تحملنا بعطاء المثقف الوطني الفلسطيني وريادته إلى فضاءات عربية وعالمية جديدة. فالثقافة الوطنية ومبدعيها على مر الأجيال قديمها ووسيطها وجديدها، حملت، وحملوا جميعا راية الدفاع عن الهوية والشخصية الوطنية، وحموها بسياج إبداعاتهم، وأغنوها يوما تلو الآخر بعطاءاتهم ونتاجاتهم. كما كانت الثقافة الوطنية وروادها على مر سني التاريخ المعاصر منذ ما قبل نكبة العام 1948 وأثناءها وما تلاها الحصن الحصين، الذي ذاد عن الشعب والأرض والقضية والهوية الوطنية، لأن المشروع الكولونيالي الصهيوني شاء، وما زال يسعى القائمون عليه لتبديد وتصفية القضية الوطنية، وإلغاء الحقوق السياسية للشعب العربي الفلسطيني، بهدف إسقاطه من الخارطة الجيوبوليتكية في المنطقة. لكن الثقافة الوطنية كانت، وما زالت بالمرصاد لكل طغاة العصر والأعداء من مختلف بقاع الأرض، وخاصة دولة الأبرتهايد العنصرية الإسرائيلية وحماتها في الغرب الرأسمالي عموما والأميركي خصوصا.
فروح وحاجة الثقافة الوطنية الفلسطينية؛ تظل عطاء متواصل، وفعل دائم، وإنتاج متجدد على مدار الساعة غير منقطع. وبالتالي يكون المطلوب من القائمين على المؤسسات الثقافية أكانت رسمية أو أهلية؛ إعادة نظر جدية في آليات التعامل مع المثقفين والثقافة الوطنية، لا سيما وأن عملية الخلق والإبداع للمثقفين والفنانين والمبدعين من مختلف المشارب وألوان الطيف الثقافي والفني والمعرفي، هي عملية متواصلة مستمرة لا تنقطع بغياب أحد أو انقطاع أحد عن الإنتاج الثقافي المعرفي. فكل إنتاج ثقافي داخل فلسطين التاريخية وفي الشتات يشكل منارة مضيئة لكل الفلسطينيين.
الثقافة الوطنية والقائمون عليها، عليهم مسؤولية الارتقاء بدور الثقافة والمثقف، وتعميق عملية التأصيل لها في المجتمع الفلسطيني، لمواجهة التحديات المطروحة على الشعب الفلسطيني، وخاصة التصدي للاحتلال الذي يمثل أُس كل الجرائم والظلم التاريخي الذي طال الشعب العربي الفلسطيني، وما زال يرتكب أبشع الانتهاكات وأعمال البطش وإرهاب الدولة المنظم، وهو المنتج، والداعم لعملية التمزيق والانقسام التي يعيشها الشعب الفلسطيني، بهدف تصفية القضية الفلسطينية. وتعتبر الثقافة الوطنية هي الجامع لكل الفعل الثقافي والفني والمعرفي ومطالبة ومعنية بالتصدي بقوة للاحتلال، من خلال إعادة الاعتبار لوحدة الأرض والشعب والقضية والنظام السياسي الديمقراطي التعددي، لدفع الأهداف الوطنية خطوة نوعية للأمام، لا سيما وأن الشعب الفلسطيني أمام استحقاقات سياسية هامة، ما يضاعف من مسؤولية المثقفين والفنانين وعموم المبدعين الفلسطينيين في الوطن والشتات لدعم القضية الفلسطينية. ولتقوم الثقافة الوطنية وروادها بالدور المناط بهم؛ كما يقع على القائمين على الثقافة الوطنية الفلسطينية، تقديم الدعم غير المحدود للثقافة، والكف عن سياسة قطع اليد. تلك السياسة الخاطئة والخطيرة وغير المتبصرة، والتي أدت وما زالت تؤدي إلى طغيان ثقافة الظلام المعادية للثقافة والمعرفة والمعادية قبل كل شيء لقضية الشعب الفلسطيني العادلة، وساهمت من حيث يدري القائمون عليها أو لم يدروا بالوصول إلى نتائج وخيمة مست بالمشروع الوطني الفلسطيني.
إلى من لا يعرف أو يعلم، فإن دعم الثقافة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز دورها التنويري شكل، ويشكل محور الرحى في النهوض بالمجتمع والشعب الفلسطيني في مجالات الحياة المختلفة، بدءا من مجابهة الانقسام وصولا إلى وأد الاحتلال الاسرائيلي وتحقيق الأهداف الوطنية في الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة، وما بينهما من أهداف اجتماعية واقتصادية وقيمية، يقف على رأسها محاربة الفساد واللصوصية وكل عمليات القهر والاستغلال الاجتماعي والثقافي والوظيفي.