Menu

وليد دقّة ... حكايةُ تحدٍّ جديرةٌ بالتأمّل

كميل أبو حنيش

نشر في العدد الأخير من مجلة الهدف الرقمية

أظهرَ الأسيرُ الفلسطيني وليد دقة، مقدرةً هائلةً في تحدّي السجن، واستيلاد كلّ ما هو ثاقبٌ في السخرية من السجّان ووسائله التي تلامس الألعاب الصبيانيّة. وليد الذي أمضى حتى الآن أكثر من سبعةٍ وثلاثين عامًا في السجن، ولم يتبقَ له سوى أقلّ من عامين، يرقد حاليًّا على سرير المرض في عيادة سجن الرملة في محطّته الأخيرة قبل الانعتاق من عالم السجن، ليعانق "سناءه" و"ميلاده" اللتين كانتا أسطورتين متجسّدتين، ويجسّد ثلاثتهم تجربةٌ إنسانيّةٌ فريدةٌ في دلالتها ونموذجيتها، وإصرارها على البقاء وهي تختصرُ الحكاية الفلسطينيّة بـأوجاعها وأحلامها، ورحلتها المتعبة.

آمن وليد وسناء بالحب، على الطريقة الفلسطينيّة، بإنجاب ميلاد الابن والابنة، لكن عالم السجن المتربّص بالحلم الفلسطيني، أعاق مثل هذا الاحتمال لسنواتٍ، فَشكّل إلى جانب قوانين البيولوجيا الصارمة، وجدار الزمن السميك، إحدى الاستحالات أمام ولادة الحلم، بيدَ أنّ القدر الفلسطيني الحافل بألوانه الفسيفسائيّة أصرّ أن يقف إلى جانب وليد وسناء، ليهديهما "ميلاد"، ولتنبئ عمليّة ولادتها، بميلاد زمنٍ فلسطيني آخر، عنوانه تحدّي عالم السجن حتى الرمق الأخير، فانتصر وليد في ربع الساعة الأخير من عمر قيده الطويل، بعد أن تمرّد على زمنه الموازي واخترق جداره؛ ليلامس الزمن الإنساني في عالم ما وراء الجدران.

أما وليد المثقّف، فقد تحدّى السجن ببضعة مؤلفاتٍ أدبيّةٍ وفكريّةٍ ثاقبةٍ وعميقة، فمن مسرحية الزمن الموازي التي كتبها وأصبحت تعرض في مسارح المدن الفلسطينية في الداخل المحتل، محوّلًا إياها إلى كابوسٍ يقضّ مضاجع المحتلّين، فلم يتوانوا عن مطاردتها شبحًا عندما أوصلت رسالتها إلى الوجدان الإنساني. أمّا مُؤلَف "صهر الوعي" فقد كشف من خلاله وليد، عن أحطّ الأساليب وأحقرها التي تتّبعها سلطة السجن، في استلاب الوعي، فكان مؤلّفًا فريدًا في فضح وسائل التعذيب الحديثة التي تستهدفُ أعماق الأسير الفلسطيني وإنسانيّته وانتمائه الوطني.

وتُمثّل حكاية "سر الزيت" شغف وليد الدفين، باستيلاد "ميلاد" من قبضة المستحيل، فطاردت سلطة المُستعمِر، حكاية أطفال، وعزلت صاحبها، وحاولت تخريب حفل إطلاقها، لكن القصة انتشرت، وحظيت باهتمامٍ حافل، واشترطت سلطة القمع على وليد أن يحجم عن نشر قصة "سر السيف" مقابل إنهاء عزله. ووليد الذي أتقن لعبة إغاظة سجانه وإثارة أعصابه، وكيفيّة التحايل على الزمن انحنى قليلًا أمام العاصفة، ولم يلبثْ أن أطلق تلك القصة، محوّلًا إياها إلى تحدٍّ جديد، وهكذا انتصر وليد مرّةً أخرى على سجّانه بقصّة أطفال.

ولأنّ وليد دأب على قهر السجن وفكرته، سينتصر انتصاره المدوي على السجن، بعد أن ينعتق من وراء أبوابه الموصدة، ويكتب تجربته الطويلة مع السجن، ويروي لكلِّ من يهمّه الأمر، كيف أخفقت الوسائل الشيطانيّة في صهر وعي الفلسطيني، وكيف اخترق جدار الزمن الموازي، وكيفيّة الانتصار على دولة "إسرائيل الخارقة" بقصّة أطفال.