ولد في الدكتور وديع حداد في مدينة صفد وتلقى دروسه الابتدائية في صفد، والثانوية في حيفا. التحق بالجامعة الأميركية في بيروت سنة 1946 لدراسة الطب، والتقى جورج حبش القادم من مدينة اللد لدراسة الطب أيضاً. وفي الجامعة تعرف إلى قسطنطين زريق الدمشقي، وإلى أفكاره في القومية العربية، علاوة على أفكار ساطع الحصري وغيره من المفكرين القوميين العرب.
انعقدت أواصر عدد من طلاب الجامعة على تأسيس حركة سياسية تتبنى العنف وسيلة لتحقيق غاياتها النبيلة، وكانت المجموعة التأسيسية مؤلفة من جورج حبش ووديع حداد وصالح شبل (من فلسطين)، وهاني الهندي (من سورية)، وأحمد الخطيب (من الكويت )، وحامد الجبوري (من العراق) وحمد الفرحان (من الأردن)، ولم يكد العام 1965 يطل حتى كان هؤلاء وغيرهم قد أسسوا حركة القوميين العرب.
بعد تخرجه في كلية الطب، غادر مع رفيقه جورج حبش إلى الأردن، وافتتحا عيادة واحدة لمعالجة اللاجئين، وقد اعتقل في نيسان 1957، بعد الانقلاب على حكومة سليمان النابلسي، وأمضى ثلاث سنوات في سجن الجفر الصحراوي، ثم استطاع أن يهرب إلى سورية في سنة 1961.
أحد القادة المؤسسين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقائد «المجال الخارجي» فيها الذي دوّخ العالم بالعمليات الخاصة، مثل: عملية مطار اللد في سنة 1972، وعملية اقتحام مؤتمر منظمة أوبيك في فيينا سنة 1975.
لا يذكر وديع حداد إلا وينصرف الذهن فوراً إلى جورج حبش، ولا يذكر جورج حبش، إلا ويحوم طيف وديع في ظلال الذاكرة؛ كانا توأمين في النضال والفكر السياسي والمسلك الطهراني، ومنذ أن التقيا في أفياء الجامعة الأميركية في بيروت، وفي رحاب الفكر القومي العربي وقضية فلسطين بالتحديد، ما عادا يفترقان على الإطلاق.
من يقرأ سيرتيهما يخال أنهما واحد حلّ في جسدين، أو أنهما اثنان اجتمعا في سيرة واحدة ومسيرة مشتركة. فلا عجب، والحال هذه، أنهما في بداية حياتهما النضالية في الأردن، كانا يعملان في عيادة واحدة، وينامان أحياناً في سرير واحد، عندما يضيق المكان بالرفاق القادمين من الشام أو من لبنان. أمران فقط فرّقا جانبا من شخصيتيهما: اللقب والعمليات الخاصة، فقد انفرد جورج حبش بلقب «الحكيم»، واكتفى وديع حداد بلقب «الخال»، علاوة على كنيته «أبو هاني».
لم أعرفه، لكنني رأيته كثيراً ومراراً في ملامح ابنه الصديق هاني حداد، وفي سيماء امرأته أم هاني وسماحة وجهها، وفي التماع العيون لدى ذكر اسمه أمام من عمل معه أو عاش إلى جانبه أو رافقه في حقبة التألق العاصف للثورة الفلسطينية المعاصرة. لم أعرفْهُ، لكنني عرفت بالتواتر أنه كان زاهداً وحانياً، وعاش في هذه الدنيا بلا متع ولا حياة خاصة، منصرفاً عنها بكبرياء، راغباً في شأن واحد هو قضية شعبه وقضية تحرير بلاده. كان إنساناً عادياً تماماً، يبكي لفقدان رجاله، لكنه أخلص لشعبه بشكل غير عادي، وأعطى وطنه اعمالاً جبارة، فمنحه هذا الشعب احتراماً فائقاً وتبجيلاً يليق به.
أكلتُه المفضلة «كوسى محشي وورق عنب»، ويطرب لأصوات وديع الصافي ونصري شمس الدين وصباح وفيروز. ها هو إذا ابن صفد الرابضة فوق جبل الجرمق لم تغيره «حداثة» بيروت، فبقي جليلياً في جوهره، وصفدياً في صميمه.
في 8 أيلول 1970، بينما كان وديع حداد موجوداً في مطار «داوسن فيلد» في الأردن، منهمكاً في مقارعة العالم لإطلاق أسرى فلسطينيين بعدما اختطف رجاله أربع طائرات في يوم واحد، قام أحد الفلسطينيين في البحرين ، من تلقاء نفسه، باختطاف طائرة تابعة للخطوط الجوية البريطانية، وأمرها بالتوجه إلى بيروت للتزود بالوقود، ثم التوجه إلى مطار عمان، ولما كان وديع حداد لا يعلم أي شيء من أمر هذه الطائرة، فقد ارتاب، وخشي من أن يكون خلف ذلك مكيدة، فطلب برهاناً من الخاطف عن جنسيته وغايته، فما كان من الخاطف إلا أن قال له عبر برج مطار «داوسن»: «كوسى محشي وورق عنب»، فانفجر وديع حداد ضاحكاً وقال: «إنه من جماعتنا، فليهبط».
يروى أن أعضاء المجموعة المؤسسة لحركة القوميين العرب اتفقوا على عدم الزواج قبل تحرير فلسطين (ويضيف البعض للتفكه أنهم اتفقوا على عدم الابتسام وعلى عدم ارتياد أمكنة اللهو بما في ذلك المقاهي أيضاً!) لكن، مع قيام الوحدة المصرية ـ السورية، شعروا بأن التحرير يقترب، فراح البعض منهم يتزوج. وعندما هبط وديع حداد دمشق قادماً من الأردن بعدما فرّ من سجنه، وجد أن رفيقه جورج حبش وقريبته هيلدا باتا على أهبة الزواج، وقد تزوّجا بالفعل في سنة 1961، عند ذلك أقدم وديع على الزواج من قريبته سامية نعمة الله حداد، وهي من لاجئي سورية.
أستاذ في «فن العمليات الخاصة»، ومعلم فذ لجيل كامل من المناضلين الأمميين الذي رأوا في العنف الثوري طريقاً للتحرر من الرأسمالية والاستعمار، وكان ملهماً لحركات سياسية كثيرة اعتنقت مبادئ العنف الثوري في مواجهة الاستبداد وعنف السلطات، ولمناضلين كانوا يعرفون تماماً الفارق النوعي بين العنف والإرهاب، أمثال: كارلوس ومحمد بودية وكمال خيربك وفؤاد عوض وباسل كبيسي وجايل العرجا وأنيس النقاش وفايز جابر وغيرهم كثيرون جداً. وامتدت علاقاته من اليابان الى أميركا اللاتينية، من «الجيش الأحمر الياباني» إلى «الساندينيستا» في نيكاراغوا، حتى أن جلال الطالباني، الرئيس العراقي السابق، كان أحد رجاله، وكان له مكان آمن في شاتيلا، وكثيراً ما كلفه جمع معلومات في أوروبا، أو ايصال رسائل إلى خلاياه المنتشرة في عدد من أصقاع العالم.
كان يقرأ الكتب في حدود ما تتيحه له أوقاته المزدحمة، لكنه كان ميالاً إلى العمل المباشر، ويروى أنه في سنة 1963 كان يقرأ كتاب ريجيس دوبرييه «ثورة في الثورة»، لكنه لم يكمل أكثر من 35 صفحة، فقد كان همّه منصباً على كيفية تخزين الأسلحة في داخل فلسطين استعداداً للشروع في العمليات العسكرية، وحين أسس «الجهاز الخاص» في «إقليم فلسطين» التابع لحركة القوميين العرب، اختار لمعاونته كلاً من فايز جابر وصبحي التميمي، وهما مؤسسا منظمة «أبطال العودة» سنة 1964، التي انضمّت إلى الجبهة الشعبية قبيل التأسيس في سنة 1967.
و«الجهاز الخاص» هو الأب الشرعي لـ«المجال الخارجي» الذي ظهر في إطار الجبهة الشعبية سنة 1968 تطبيقاً لشعار «مطاردة العدو في كل مكان»، ودشن عملياته باختطاف طائرة «العال» المتجهة من روما إلى تل أبيب، والهبوط بها في مطار الجزائر. على أن أكثر العمليات الخاصة إثارة هي عملية تحرير جورج حبش من سجن الشيخ حسن في دمشق، وهي العملية التي خططها «أبو هاني»، ونفذها في قلب دمشق في 5/11/1968، وشارك فيها كل من أحمد جنداوي ومحمد سعيد (أبو أمل) ومحمود الألوسي (أبو حنفي) وجبريل نوفل (أبو رأفت) وفايز قدورة وزكي هلّو ووداد قمري وآخرين، وتمكن هؤلاء من اختطاف جورج حبش من سيارة للشرطة العسكرية كانت تقله من المحكمة الى السجن.
ومن طرائف ما وقع لوديع حداد، أنه في أثناء الاستعداد لقصف ناقلة البترول الإسرائيلية «كورال سي» بالقرب من باب المندب سنة 1971، طلب «أبو هاني» من رئيس الوزراء اليمني الجنوبي محمد علي هيثم زورقاً سريعاً، فقال له أن ليس لدى الحكومة اليمنية مثل هذا الزورق، وبعد عدة أيام اتصل به محمد علي هيثم وأخبره أن مركباً يرسو في ميناء عدن تنطبق عليه المواصفات المطلوبة، فاسرقوه... وهكذا كان.
مثل معظم القادة الكبار، لم يدوّن وديع حداد مذكراته أو يكتب سيرته، وما كتب عنه، أو قيل فيه قليل جداً، ولا يشفي غليل الباحث أو المؤرخ، ولعله أراد أن تتحدث أعماله عنه لا أقواله. ومهما يكن الأمر، وبعد خلاف مع جورج حبش على خطف الطائرات التقى الاثنان في بغداد سنة 1976، وهو لقاء اختلطت فيه الدموع بالكلام وبفيض من المحبة الجارفة. لم يمهله سرطان الدم، الذي بدأت عوارضه تظهر عليه في أواخر سنة 1977، طويلا، فنقل الى ألمانيا الشرقية في1/3/1978، وتوفي فيها في 28/3/1978، ودفن في بغداد في 1/4/1978. وقد راجت روايات كثيرة عن موته بالسم أو بالأشعة أو بالشوكولا المسمومة، وقد بقي موته لغزاً، مثلما سيبقى اسمه خفاقاً في تاريخ النضال الفلسطيني المعاصر.