Menu

صرخة أمهات شهداء مقابر الأرقام: "أبناؤنا لهم أسماء ولهم وطن"...

إلهام الحكيم

نشر في العدد الأخير من مجلة الهدف الرقمية

تفخر الأمهات الفلسطينيات ببطولات أبنائهن في الدفاع عن الأرض والشعب، لكن الغصّة والحسرة تغلّفان قلوب أمهات لا يعرفن مصيرًا واضحًا لأبنائهن من الشهداء، لم يعانقنهم أو يودعنهم بقبلةٍ ووشْوَشة دعاء الرضى.. لم يزغردن لهم في زفة الاستشهاد.. فالعدو الصهيوني اعتقلهم وغيّب جثامينهم في الثلاجات ليس لأيام أو شهور فحسب، بل لسنوات وعقود، وإمعانًا في غيّه وإجرامه نزع عنهم أسماءهم التي تدلل على شخصياتهم، ونقلهم إلى غياهب المقابر المجهولة المكان في زمنٍ مجهولٍ مستبدلًا أرقامًا مكتوبةً على الأكياس بأسمائهم، التي تضم رفاتهم الطاهر! ومن هنا جاءت تسمية "مقابر الأرقام" التي ابتدعتها عقلية الاحتلال الصهيوني عام 1968 بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة واحتجاز جثامين الفدائيين المتسللين من سوريا ولبنان، فبدأ بمقبرة "جسر بنات يعقوب" القريبة من الحدود السورية الفلسطينية، ثم تضاعفت حتى وصل عددها لخمس مقابر - أو يزيد - وتضم جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب موزعة على أماكن سرية عدّة، حتى لا يتمكن الأهالي من معرفتها والوصول لأبنائهم أو تقديم الشكاوى للهيئات الدوليّة، يغلب على المقابر الإهمال، حيث تُسجّل أرقام الشهداء على الأكياس البلاستيكية بأقلام فلوماستر سرعان ما تُمحى بتأثير العوامل البيئية في التربة، كما يتعمّد الاحتلال عدم تثبيت اللوحة المعدنية المحفور عليها اسم الشهيد مما يؤدي لانزياحها من مكانها وضياع الحقيقة!! إضافةً لدفن الجثامين بالقرب من سطح التربة دون إحاطتها بطبقةٍ إسمنتيّة حامية، مما يؤدي لانجرافها بفعل العوامل الجوية المختلفة "رياح، أمطار" واختلاط الرفات بالتربة وضياع الهوية الحقيقية للشهيد كما حصل مع رفات الشهيدة دلال المغربي التي لم يتم التبادل عليها بحجة انهيار التربة وانجراف جثمانها خارج المقبرة!

عندما يجد الفلسطينيون جثامين الشهداء بيد عدو غاشم لا يرعى إلّا ولا ذمة، ويغلب عليه الإجرام وغير الإنسانية فلا يصدر شهادة وفاة، ولا يسمح لأم بوداع ابنها، ولا لأخت بتعطير شقيقها بالزهر والبخور، ولا لأخ بحمل نعش أخيه، ولا لأب بدفن ولده حسب الشرائع السماوية، حينئذ لا بدّ لهذا الشعب من أتباع أساليب مواجهة تحفظ قدسية الشهيد، وتمكّن الأهالي من دفن شهدائهم بشكلٍ لائق، وبمكانٍ معروفٍ "مسقط رأسهم" وزيارتهم على الدوام، لقد تزايد عدد الجثامين المحتجزة خلال الانتفاضة الثانية، لهذا تمَّ إطلاق "الحملة الوطنيّة لاسترداد جثامين الشهداء" يوم 27/9/2008 وتابعت الحملة فعاليّاتها تحت شعار "لنا أسماء ولنا وطن" وتمّ تقديم التماسات؛ فرديّة وأخرى جماعيّة إلى "المحكمة العليا الإسرائيليّة"؛ بهدف معرفة عدد المقابر التي تحتجز فيها الجثامين وأماكنها وظروف الدفن، وصولًا لاستردادها ودفنها حسب الشريعة.. أسفرت الفعاليات والنشاطات والضغوطات عن تحرير "131 جثمانًا" من مقابر الأرقام خلال - عشر سنوات - بجهودٍ شعبيّةٍ وقانونيّةٍ ومساعدة "مركز القدس للمساعدة القانونيّة" وكان أوّل المحرّرين جثمان الشهيد مشهور العاروري بعد احتجازٍ دام 34 سنة، تلاه تحرير جثمان الشهيد حافظ أبو زنط بعد 35 سنة احتجاز، وعام 2012 تمّ تسليم 91 شهيدًا وشهيدةً منهم تسعة جثامين مجهولة الهُويّة دفنت في قبرٍ جماعي في رام الله، تلاه عام 2014 انتزاع قرار من المحكمة العليا بتحرير 37 جثمانًا سلمت قوات الاحتلال 28 شهيدًا وامتنعت عن تسليم البقية متذرعة بمبررات واهية غير مقنعة، بعدها توقفت عملية تسليم أية جثامين من مقابر الأرقام! بل على العكس فقد انتزع جيش الاحتلال قرارًا من الكابينيت الصهيوني 13/10/2015 يقضي باحتجاز جثامين الشهداء ليكونوا أداة رادعة لمنفذي العمليات ضد الجنود والمستوطنين حسب ادعائهم.. وأداة ضاغطة على الأهل.. إضافةً لاستخدامهم ورقةَ ضغطٍ في حال التفاوض مع المقاومة الفلسطينيّة على تبادل الأسرى، وبناءً عليه تحفّظ الصهاينة على جثامين 200 شهيد وشهيدة مددًا تتراوح بين أيام وعدة سنوات، كما أنه بقي محتفظًا بـ 45 جثمانًا للشهداء في الثلاجات 2/7/ 2019 حسب المحامي محمد عليان والد الشهيد بهاء الذي حُجِز جثمانه عشرة أشهر قبل تسليمه لذويه ودفنه، كما أكّد عليان على نقل رفات أربعة شهداء "عبد الحميد أبو سرور، محمد طرايرة، رامي عورتاني، محمد الفقيه" من الثلاجات ودفنهم في مقابر الأرقام استنادًا للأمر العسكري يوم 7/5/2018 الذي سمح بأخذ عينات لفحص / DNA / وإثبات هُويّتهم وشخصيّتهم - كي لا تختلط الأمور كما حصل سابقًا - إضافةً لتحفّظ المحكمة على العديد من الجثامين لفترات متفاوتة في الثلاجات ومنع تحويلها للمقابر أو تسليمها للأهالي "سماح مبارك، أشرف نعالوة، فارس بارود، رائد الصالحي". ونظرًا لغياب التوثيق الرسمي فقد نشر عليان بجهد فردي (22 حزيران 2019) قائمة بأسماء "42 شهيدًا" محتجزين بظروف غير قانونية مع حرصه على متابعة قضيتهم حتى الإفراج عنهم ودفنهم بين ذويهم، ويبلغ عدد الجثامين الذين احتجزوا بالمقابر والثلاجات "370 شهيدًا بينهم أطفال" منذ عام 2015 حتى 16/1/2023.

يضاف إلى مقابر الأرقام "المقابر الجماعيّة" التي تضمُّ رفات المئات من الفلسطينيين الذين استشهدوا وبقيت جثثهم ملقاةً بالشوارع إثر المجازر الوحشيّة المتزامنة مع الاحتلال ونكبة 1948، لكن هؤلاء بقيت أعدادهم مجهولةً ويحرص العدو على طمس معالم تلك القبور الجماعية وعدم الاعتراف بها، خاصّةً أنّ معرفة هُويّة أصحابها تحتاج لفحص " DNA " للتأكيد على انتمائهم ل فلسطين ولهم امتدادٌ في الوطن والشتات وهذا ما يمنعه الاحتلال، وقد فضح الفيلم الوثائقي "الطنطورة" تلك الجرائم وسلّط الضوء على أهميّة متابعتها لاستعادة الفلسطينيين لتاريخهم وهُويتهم وحقهم بالعودة والوجود على أراضيهم وممتلكاتهم التي هجّروا منها عام 1948.

فعاليّات الأمهات جسر تواصُل مع الأبناء:

ما زالتْ أمهات الشهداء المحتجزة جثامينهم يعتبرن احتجازها جريمة من جرائم الاحتلال.. ويطالبن بزيارة المحامين للثلاجات والقبور للتأكد من وجودهم واستردادهم لاحقًا وحصول أبنائهن على أبسط حق من حقوق الإنسان ألا وهو دفنهم بكرامة حسب الشريعة والقانون.. تقول إحدى الأمهات: "صرت أكره الاقتراب من ثلاجة المنزل؛ لأنّها تؤلمني وتذكّرني بابني داخل ثلاجة الاحتلال عديم الإنسانيّة والأخلاق".. يسعين لتدويل القضيّة والتوجّه للصليب الأحمر والهيئات الحقوقيّة والدوليّة ومطالبتهم بالضغط على الاحتلال للإفراج عن الجثامين ومعاقبة الصهاينة على جرائمهم بحقّ الإنسانيّة.. يشاركن بفعاليات "الحملة الوطنيّة لاسترداد الجثامين" منذ انطلاقها عام 2008 ويعتبرن أن المشاركة بتلك الوقفات شيء أساسي للإبقاء على التواصل مع الشهداء الذين يجهلون مكان دفنهم في مقابر الاحتلال الظالم، الذي يسانده العالم المنافق من خلال الصمت على جرائمه ضدّ الإنسانيّة.. يعلين أصواتهن رغم هدم البيوت واعتقال الآباء والأخوة للضغط عليهن ومنعهن من التحرّك والمطالبة بأبنائهن، لكنهنّ لم يرضخن، بل زاد إصرارهن، ويؤكدن أن البيوت لن تكون أغلى من الأبناء حتى وهم جثامين، ومع أن بعضهن حصلن بواسطة "مؤسسة عدالة" على تقرير طبي يكشف الحالة وتفصيل الاستشهاد وحجز الجثمان إلا أنّهن رفضن وقف التحرّك الجماعي ومازلن مع غيرهن يسعين لتحويل ملف "الشهداء المعتقلين" إلى قضيّةٍ وطنيّةٍ عامة يجب أن تشارك فيها المؤسسات الرسمية والقانونية والإعلامية حتى الإفراج عنهم ودفنهم بشكلٍ لائقٍ يحفظ كرامتهم الإنسانيّة، خاصّةً وأنّهن حصلن على بعض المعلومات بأن الاحتلال يبيع الأعضاء والأجساد لمراكز طبية مهتمة بها..!

مجابهة القرارات العنصريّة:

قرار الكابينيت عام 2015 عززته القرارات والقوانين الصادرة من الكنيست والحكومة مؤخّرًا بعد سيطرة اليمين المتطرّف عليهما بوصول العديد من المستوطنين المتطرفين إلى مركز القرار "سموتريتش، بن غفير" ومساندتهم لنتنياهو في عنصريّته المفرطة ضدّ الفلسطينيين والدعوة إلى الضرب بيد من حديدٍ لكلّ من يتجرأ على المساس بأمن الدولة – حسب زعمهم طبعًا – لهذا يدعمون الفاشية وسياسة الفصل العنصري بقرارات العقوبات الجماعية الصادرة من مؤسساتهم المتطرفة دون السماح بالعودة إلى المحكمة العليا "هدم وتدمير بيوت، حرق الأراضي الزراعية، إبعاد وترحيل الأهل، قتل...إلخ"! لكن هذا لم يثنِ الفلسطينيين، بل زادت مقاومتهم بأساليب مبتكرة تربك العدو "دهس، طعن، إطلاق نار، عمليات فردية ضد العدو"، فقد تجاوز الشباب قياداتهم المتكلسة والمترهلة فشكّلوا "الكتائب والأجنحة والعرين" وقاوموا اقتحام المستوطنين وجنود الاحتلال عبر غرف العمليات المشتركة مستندين إلى الحاضنة الشعبية في المخيمات والمناطق المختلفة غير آبهين بكل وسائل القمع الصهيوني.. ويقولون للأمهات كلنا أولادكن ونقف إلى جانبكن وسندافع معكن عن حقوق شعبنا حتى نيل حرية الأسرى "أحياءً وشهداء"، سنقاوم حتى العودة والتحرير...

* المصادر: شاشة نيوز، الجزيرة نت، العربي الجديد، عرب 48، فلسطين أون لاين، دنيا الوطن، المركز الفلسطيني للإعلام، وكالة وطن للأنباء.