Menu

رحيل طبيب مقاوم..كاتب ومفكر ومثقف لم يساوم

طارق أبو بسام

بالأمس واليوم تزاحمت الكثير من الأفكار في رأسي، عن ماذا أكتب؟ هل أكتب عن عبد الناصر ورحيله في مثل هذا اليوم ٢٨/٩/١٩٧٠؟ هل أكتب عن الوحدة بين سوريا و مصر ومن ثم الانفصال والذي وقع في مثل هذا اليوم ٢٨/٩ /١٩٦١؟ هل أكتب عن انتفاضة الأقصى التي اندلعت في مثل هذا اليوم ٢٨/٩/٢٠٠٠؟

وفي ظل تزاحم هذه الأفكار، وردني الخبر المؤلم، وهو رحيل الرفيق والصديق العزيز الدكتور فايز رشيد، نحيت كل هذه المواضيع جانباً، خاصة أنني كتبت عنها مرات عديدة في السنوات السابقة، وقررت أن أمسك قلمي وأكتب عن الدكتور فايز، لما له من مكانة خاصة عندي، ومن تاريخ نضالي مشترك، معه ومع زوجته الرفيقة المناضلة ليلى خالد... والذين جمعتني معهما علاقات وطيدة امتدت على مدار أكثر من ٥٠ عاما وبدأت قبل زواجهما.

عند سماعي للخبر عادت بي الذاكرة إلى الوراء، أكثر من نصف قرن، عندما كنا ندرس في موسكو في بداية السبعينيات، حيث درسنا معاً وناضلنا معاً من أجل فلسطين، وتعارفنا على بعضنا البعض من خلال الانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والتي اختارها كل واحد منا عن قناعة تامة.

بقي فايز متمسكاً بها ومدافعاً عنها حتى الرحيل، وسوف أبقى كذلك وهذا عهد قطعته على نفسي رغم كل الظروف. لقد رحل د فايز وهو حاملاً رايتها، وما زلت شخصياً أفتخر وأعتز بتاريخي معها.

نعم.. رحل اليوم الرفيق والصديق، الدكتور فايز، رحل صاحب المواهب المتعددة، رحل الكاتب والصحفي، رحل رجل السياسة والإعلام، رحل الروائي والمفكر، رحل المثقف واسع الاطلاع، رحل من آمن بتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، رحل وهو يردد مقولة الرئيس الخالد جمال عبد الناصر “ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة” وهو القومي الناصري حتى نخاع العظم، رحل من حارب التنازلات، وقاتل ضد أوسلو والفساد، رحل المتمسك بالمبادئ، الذي لم يهادن، أو يساوم، رحل عاشق فلسطين والمناضل من أجل تحريرها، رحل من فضل العام على الخاص ومن انحاز لشعبه ووطنه، وليس للمصالح الشخصية الضيقة، رحل مؤلف كتاب تزوير التاريخ، رداً على كتاب نتنياهو مكان تحت الشمس، رحل وهو يحمل معه حلم العودة إلى قلقيلية مسقط رأسه.

الدكتور فايز، كان مناضلاً من نوع خاص وطراز رفيع، كان صادقاً فيما يقول، شجاعاً في طرح موقفه، يؤمن بالحوار الهادف، كان يسير عكس التيار، كلما اشتدت الصعوبات زادته صلابة، وكلما ازدادت التنازلات عن المبادئ والقيم والأرض زاد تمسكاً بها، قاتل بشراسة ضد أوسلو والتنسيق الأمني، وحارب المستسلمين، وبقيت القضية الفلسطينية شغله الشاغل طوال حياته، حتى في سنوات مرضه.

لم أزره مرة إلا وكانت فلسطين وأزمة الثورة المعاصرة والخروج من المأزق، وأوضاع الجبهة والتطورات داخلها والمسؤوليات الملقاة على عاتقها ودورها في معالجة هذه الأزمة، إلا وكانت كل هذه العناوين مدار البحث والنقاش فيما بيننا، وكانت الرفيقة ليلى مشاركة دائمة في هذا الحوار وتضفي عليه طابعاً خاصاً مميزاً، بما تملكه من وعي وقدرات وتجربة طويلة.

الدكتور فايز كان مسكوناً بفلسطين، والجبهة تسكن في داخله. كان بإمكانه بحكم قدراته وتعدد مواهبه وتاريخه النضالي، أن يكون وزيراً أو سفيراً أو مديراً عاماً على الأقل في مؤسسات ودوائر السلطة، كما غيره الكثير لو وقف مع اوسلو، ولكنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً جازماً.

كنت أسأل فايز عن صحته وكان يسأل عن الوضع الفلسطيني... كنت أساله عن العلاج ويسألني عن الخروج من المأزق.. كنت أسأله عن الدواء والعلاج... وكان يجيب العلاج للوضع الفلسطيني هو الأهم، وهذا لن يتم إلا عن طريق المقاومة والتمسك بالبندقية.

غادرنا اليوم ورحل عن عالمنا الرفيق الأصيل، صديق الدرب الطويل وزمن المقاومة الجميل... غادرنا إلى عالم آخر، لا نفاق فيه ولا فساد.

هل نرثيك اليوم وأنت من رثيت الكثيرين من المناضلين والقادة؟

اليوم نودعك إلى مثواك الأخير، رحلت عنا وأنت باق فينا... وبكل ألم وأسف أنني لم أستطع المشاركة في التشييع، ولم أستطع طبع قبلة الوداع على جبينك، ولم أتمكن من الهمس في أذنك اننا على العهد باقون.

وفي يوم الرحيل والوداع.. أتقدم باسمي وباسم عائلتي بخالص العزاء للرفيقة المناضلة ليلى خالد زوجة الرفيق وشريكة حياته، وأولاده بدر وبشار، وشقيقه أمين رشيد.

كما أتقدم بالتحية للرفيقة ليلى التي وقفت إلى جانبه في هذه الظروف الصعبة، وفي الوقت الذي كانت فيه تحتاج لمن يقف إلى جانبها بسبب المرض الذي أصابها، وكانت قمة في الأصالة والوفاء كما عودتنا... لها كل التحية والتقدير إلى جانب العزاء.