Menu

في فلسطين فقط الشهداء يزفون الشهداء

غسان أبو نجم

غسان أبو نجم

خاص - بوابة الهدف

 

 

كتب غسان أبو نجم*

كأنها حكاية من حكايات جدتي حول الشاطر حسن وبطولاته الخارقة للزمان والمكان أو بطل مغوار يتحدى كتيبة من الجيش بعدها وعتادها مثل غبيش الذي صدحت ببطولاته ألسنة نساء فلسطين (حيد عن الجيش يا غبيشي) أو أي بطل زخر بسيرته موروثنا الشعبي ظهر أبو شجاع فتى أسمر نحيل الجسد قصير القامة حاد النظر يحمل على كتفيه الصغيرتين بندقية تتدلي لتلامس أرض المخيم الذي ولد وترعرع به ويعبر جمهور المشيعين لجنازات شهداء مخيم نور شمس الذي ظل الاحتلال يحاصره لثلاثة أيام متتالية بحثاً عن هذا الفتى ورفاقه الذين أذاقوا الاحتلال ويلات الهزيمة وجعل جنوده يرون النجوم في عز الظهر كيف لا وهو مخيم الشمس ونورها اخترق الفتى الجموع وهو يستمع لصرخات التكبير والتوعد بأخذ الثأر له ولرفاقه ويبدو على ملامحه الحادة نشوة الانتصار أنه حي أنه الشهيد الحي الذي تلهج باسمه صرخات المشيعين يتقدم أبو شجاع ليلحق بالأكفان التي تحمل على الأكتاف والتي أعد له واحداً منها بالأصل بعد أن انتشر نبأ استشهاده مع ثلة من رفاقه والذي على أثره انسحب جيش الإبادة الصهيوني من محيط المخيم بعد أن اعتبر باستشهاد إبي شجاع أن مهمته انتهت، ليُفاجَأ جيش الاحتلال وضباط استخباراته وحفنة عملائه أنه حي يرزق وليس هذا فقط بل يتقدم الجموع في تشيع رفاقه الشهداء.

ساد هذا المشهد حالة من الذهول والفرح بين الجموع المحتشدة والكثير من الأسئلة حول كيف نجا الشاطر أبو شجاع وأين اختفى وكيف ظهر والعديد من الأسئلة التي دارت بين الجموع لم يقدم أبو شجاع إجابة عليها، فقد اعتبر أن مجرد وجوده بينهم هو الجواب الكافي لكل التساؤلات. سارع أبو شجاع الشهيد مع وقف التنفيذ كالعديد من شهداء شعبنا الفلسطيني إلى المساهمة في حمل جنازة أحد رفاقه الذين تحدوا أكبر وأضخم منظمة إرهابية عرفها التاريخ المعاصر وهو يسير بخطى ثابتة ونشوة الانتصار تطل من وجنتيه كيف لا وهو الشهيد الذي يحمل شهيداً سارت الجنازات الأربعة عشر وهي حصيلة العدوان النازي الصهيوني على مخيم نور شمس باتجاه مقبرة المخيم والكل في حالة ذهول مختلط بالحزن لفراق خيرة شباب المخيم وفرحة لأن أبا شجاع حي يرزق ويحمل على كتفيه شهيداً قدم دمه كي يكمل باقي رفاقه درب الحرية.

وصلت الجثامين مقبرة المخيم وأخذ الجموع من أبناء المخيم بإنزال الشهداء إلى قبورهم ليضم أجسادهم ثرى المخيم، البقعة الطاهرة من أرض فلسطين وأصل حكايتها وأبو شجاع يراقب الشهداء يدفنون واحداً تلو الآخر وتأخذه اللحظة إلى ما قبل ساعات قليلة حيث حصل الاشتباك بين المقاومة وجيش الاحتلال وكيف استشهد أحمد الذي تسلل إلى المخيم قادماً من طولكرم وكيف قنص ضابطاً من جيش الإبادة الجماعية ويحول نظره إلى محمود، ابن قرية يعبد الذي اخترق الحواجز النازية التي انتشرت لتعزل المدن عن القرى والمخيمات واستذكر كيف قذف له محمود بمخزن عتاد بعد أن انتهت ذخيرته وينقل عينيه الصغيرتين إلى مفيد ابن جباليا الذي يدرس في معهد الخضوري ويعتلي شفتيه ابتسامة تكاد لا ترى حين استذكر حكاية مفيد مع مجندة صهيونية تقف عند محطة للباصات في عسقلان قبل الاجتياح الصهيوني لقطاع غزة وكيف استطاع أن يقنعها بالصعود إلى سيارته التي استولى عليها من إحدى المغتصبات في غلاف غزة وكيف وافقت. وكيف لا توافق ومفيد يلبس لباساً عسكرياً لضابط صهيوني وكيف قذف بها من السيارة بعد أن استولى على سلاحها وبعد الاجتياح الفاشي للقطاع كان مفيد يصرخ قائلاً ألم أقل لكم أن الصهاينة ومعهم أميركا يريدون إبادة الشعب الفلسطيني ويحتلوا غزة ويهجروا أهلها إلى سيناء وها هم يحاولون ولكن فشروا فالمقاومة أشد قسوة عليهم أكثر من عزرائيل. وشعبنا صامد ومتمسك بأرضه ومقاومته رغم الحصار والقتل الممنهج ورغم الجوع والعطش وتدمير البنية الصحية يتدارك أبو شجاع نفسه ويهز رأسه الصغيرة فماذا وماذا سيتذكر ولكل شهيد من هؤلاء الشهداء حكاية.

حين انتهت مراسم الدفن هرع الجميع ليقبل أبا شجاع ويقدم التعازي له باستشهاد رفاقه ويقدمون التهنئة بنجاته والكل يقول بداخله إنها حكاية لا تصدق أيعقل أن شهيد الساعات القليلة الماضية حي يرزق ويودع الشهداء وكيف استطاع أن يفلت من القبضة الأمنية لجيش الاحتلال الذي يراقب دبيب النملة، أم أن فلسطين كسرت حتى حدود المعقول ففيها فقط الشهداء يودعون الشهداء.

*كاتب فلسطيني